وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا

سماحة العلامة السيد محمد علي فضل الله
الجمعة 11 ربيع الأوَّل 1436هـ الموافق 2 كانون الثَّاني 2014 م

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، وَأفَضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَى أَشْرَفِ خَلْقِ اللهِ وأعزِّ المُرسَلينَ سَيِّدِنَا وحَبيبِنَا مُحَمَّدٍ رسولِ اللهِ وعلى آلهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَأصحَابِهِ الأخيَارِ المُنْتَجَبين.

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: وَجَعَلْنَاهُمْ أئمَّة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [الأنبياء: 73]

مرَّت علينا منذ أيام قليلة، في الثَّامن من ربيع الأوَّل، ذكرى وفاة الإمام الحسن العسكريِّ(ع)، وهو الإمام الحادي عشر من أئمَّة أهل البيت(ع)، والَّذي كان آخر الأئمَّة الظَّاهرين للنَّاس، والَّذي خلَفَ من بعده صاحب الزَّمان محمَّد بن الحسن(عج)، إمام زماننا الغائب والَّذي ننتظر خروجه وظهوره ليملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئت ظلمًا وجورًا.

وربَّما يتساءل النَّاس، لماذا دُعيَ الإمام الحسن العسكريُّ عسكريًّا، فهل كان جنديًّا محاربًا ليُسمَّى بالعسكريِّ؟

والجواب عن ذلك أنَّ الإنسان في تلك المراحل وغيرها كان يُنسب إلى بلده، والإمام(ع) كان يعيش في بلدة سامرَّاء، حيثُ استُدعِيَ أبوه الإمام عليُّ الهادي(ع) ووُضع تحتَ رقابة السُّلطة في منطقة تدعى عسكر، فنُسب(ع) إليها.

وقد كانت ولادته(ع) في الثَّامن أو العاشر من ربيع الثَّاني في سنة 232 هجرية وبذلك يكون عمرُه الشريف حين وفاته 28 عاماً. وقد استقلَّ(ع) بالإمامة ستَّ سنوات من سنة254هـ الَّتي توفي فيها أبوه الهادي(ع)، حتَّى وفاته في سنة 260هـ.

وتروي سيرته(ع) وتاريخه أنَّ التَّشيُّع انتشر في حياته بشكلٍ واسعٍ، في العراق وإيران والهند والخليج وسوريا والعديد من المناطق الإسلاميَّة، وربَّما يكون السَّببُ في ذلك عدَّةُ عوامل، منها القداسة والطَّهارة والعلم الَّذي كان يمثِّلُه أئمَّةُ أهل البيت(ع) وعمق صِلتهم باللهسبحانه، ممَّا جعل الناس تعود إليهم وتسمع منهم، وهم الَّذين يمثِّلون الحُجَّة البالغة القاطعة.

ونحن حين نحاول دراسة شخصية هذا الإمام الَّذي نجهل الكثير عنه وعن غيره من الأئمَّة(ع)، بإمكاننا أن نتَّجه نحو النصوص الواردة في حقِّه على أَلْسِنَةِ أعدائه ومخالفيه.

والحقُّ ما نطقت به الأعداء.

ونحن نرى أنَّ الكثيرين من المسلمين يعظِّمون هذا الإمام ويقدِّرونه لعلمه وحكمته وفضله وزهده وورعه وتقواه.

بل نلمس كيف أنَّ هذا الاحترام والتَّقدير موجود حتَّى لدى أعداء الإمام الحسن العسكري(ع) والَّذين دانو له بالفضل، وأقرُّوا له بالاحترام والمنزلة الرفيعة. وهذا ما نلاحظه من خلال بعض المرويَّات التَّاريخيَّة الَّتي وردت عن هؤلاء، فقد جاء في (الكافي) عن الحسين بن محمَّد الأشعري ومحمَّد بن يحيى وغيرهما قالوا: كان أحمد بن عبيدالله بن خاقان على الضِّياع والخراج بـقمّ فجرى في مجلسه يومًا ذِكرُ العلويَّة ومذاهبِهم -وكان شديد النَّصْبِ والعداء لأهل البيت(ع)- فقال: مَا رَأَيْتُ ولَا عَرَفْتُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى رَجُلاً مِنَ الْعَلَوِيَّةِ مِثْلَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الرِّضَا، فِي هَدْيِه وسُكُونِه وعَفَافِه ونُبْلِه وكَرَمِه عِنْدَ أَهْلِ بَيْتِه وبَنِي هَاشِمٍ وتَقْدِيمِهِمْ إِيَّاه عَلَى ذَوِي السِّنِّ مِنْهُمْ والْخَطَرِ وكَذَلِكَ الْقُوَّادِ والْوُزَرَاءِ وعَامَّةِ النَّاسِ، فَإِنِّي كُنْتُ يَوْماً قَائِماً عَلَى رَأْسِ أَبِي وهُوَ يَوْمُ مَجْلِسِه لِلنَّاسِ، إِذْ دَخَلَ عَلَيْه حُجَّابُه فَقَالُوا: أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الرِّضَا بِالْبَابِ، فَقَالَ بِصَوْتٍ عَالٍ ائْذَنُوا لَه فَتَعَجَّبْتُ مِمَّا سَمِعْتُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ جَسَرُوا يُكَنُّونَ –تجرَّؤوا على مناداته بكُنيَتِه وهو دليل احترام وتعظيم- رَجُلاً عَلَى أَبِي بِحَضْرَتِه ولَمْ يُكَنَّ –ينادى بالكُنيَة- عِنْدَه إِلَّا خَلِيفَةٌ أَوْ وَلِيُّ عَهْدٍ، أَوْ مَنْ أَمَرَ السُّلْطَانُ أَنْ يُكَنَّى. فَدَخَلَ رَجُلٌ أَسْمَرُ، حَسَنُ الْقَامَةِ، جَمِيلُ الْوَجْه، جَيِّدُ الْبَدَنِ، حَدَثُ السِّنِّ، لَه جَلَالَةٌ وهَيْبَةٌ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْه أَبِي قَامَ يَمْشِي إِلَيْه خُطًى ولَا أَعْلَمُه فَعَلَ هَذَا بِأَحَدٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ والْقُوَّادِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْه، عَانَقَه وقَبَّلَ وَجْهَه وصَدْرَه، وأَخَذَ بِيَدِه وأَجْلَسَه عَلَى مُصَلَّاه الَّذي كَانَ عَلَيْه، وجَلَسَ إِلَى جَنْبِه، مُقْبِلاً عَلَيْه بِوَجْهِه وجَعَلَ يُكَلِّمُه ويَفْدِيه بِنَفْسِه وأَنَا مُتَعَجِّبٌ مِمَّا أَرَى مِنْه إِذْ دَخَلَ عَلَيْه الْحَاجِبُ فَقَالَ: الْمُوَفَّقُ –وهو أخو الخليفة آنذاك وصاحب جيشه- قَدْ جَاءَ وكَانَ الْمُوَفَّقُ إِذَا دَخَلَ عَلَى أَبِي تَقَدَّمَ حُجَّابُه وخَاصَّةُ قُوَّادِه فَقَامُوا بَيْنَ مَجْلِسِ أَبِي وبَيْنَ بَابِ الدَّارِ سِمَاطَيْنِ- أي صفَّين من النَّاس- إِلَى أَنْ يَدْخُلَ ويَخْرُجَ فَلَمْ يَزَلْ أَبِي مُقْبِلاً عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ يُحَدِّثُه حتَّى نَظَرَ إِلَى غِلْمَانِ الْخَاصَّةِ فَقَالَ حِينَئِذٍ: إِذَا شِئْتَ جَعَلَنِيَ الله فِدَاكَ، ثُمَّ قَالَ لِحُجَّابِه خُذُوا بِه خَلْفَ السِّمَاطَيْنِ حتَّى لَا يَرَاه هَذَا -يَعْنِي الْمُوَفَّقَ- فَقَامَ وقَامَ أَبِي وعَانَقَه ومَضَى. فَقُلْتُ لِحُجَّابِ أَبِي وغِلْمَانِه: وَيْلَكُمْ مَنْ هَذَا الَّذي كَنَّيْتُمُوه عَلَى أَبِي وفَعَلَ بِه أَبِي هَذَا الْفِعْلَ؟ فَقَالُوا: هَذَا عَلَوِيٌّ يُقَالُ لَه الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، يُعْرَفُ بِابْنِ الرِّضَا فَازْدَدْتُ تَعَجُّباً، ولَمْ أَزَلْ يَوْمِي ذَلِكَ قَلِقاً مُتَفَكِّراً فِي أَمْرِه وأَمْرِ أَبِي ومَا رَأَيْتُ فِيه حتَّى كَانَ اللَّيْلُ وكَانَتْ عَادَتُه أَنْ يُصَلِّيَ الْعَتَمَةَ ثُمَّ يَجْلِسُ فَيَنْظُرُ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْه مِنَ الْمُؤَامَرَاتِ –أي المشاورات- ومَا يَرْفَعُه إِلَى السُّلْطَانِ. فَلَمَّا صَلَّى وجَلَسَ جِئْتُ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْه ولَيْسَ عِنْدَه أَحَدٌ فَقَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ لَكَ حَاجَةٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا أَبَه، فَإِنْ أَذِنْتَ لِي سَأَلْتُكَ عَنْهَا. فَقَالَ: قَدْ أَذِنْتُ لَكَ يَا بُنَيَّ فَقُلْ مَا أَحْبَبْتَ، قُلْتُ: يَا أَبَه مَنِ الرَّجُلُ الَّذي رَأَيْتُكَ بِالْغَدَاةِ فَعَلْتَ بِه مَا فَعَلْتَ مِنَ الإِجْلَالِ والْكَرَامَةِ والتَّبْجِيلِ وفَدَيْتَه بِنَفْسِكَ وأَبَوَيْكَ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ ذَاكَ إِمَامُ الرَّافِضَةِ، ذَاكَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرِّضَا، فَسَكَتَ سَاعَةً –أي برهة من الوقت- ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ لَوْ زَالَتِ الإِمَامَةُ عَنْ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ مَا اسْتَحَقَّهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ غَيْرُ هَذَا، وإِنَّ هَذَا لَيَسْتَحِقُّهَا فِي فَضْلِه وعَفَافِه وهَدْيِه وصِيَانَتِه وزُهْدِه وعِبَادَتِه وجَمِيلِ أَخْلَاقِه وصَلَاحِه، ولَوْ رَأَيْتَ أَبَاه رَأَيْتَ رَجُلاً جَزْلاً نَبِيلاً فَاضِلاً. قال أحمد بن خاقان: فَازْدَدْتُ قَلَقاً وتَفَكُّراً وغَيْظاً عَلَى أَبِي ومَا سَمِعْتُ مِنْه واسْتَزَدْتُه فِي فِعْلِه وقَوْلِه فِيه مَا قَالَ، فَلَمْ يَكُنْ لِي هِمَّةٌ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا السُّؤَالُ عَنْ خَبَرِه والْبَحْثُ عَنْ أَمْرِه فَمَا سَأَلْتُ أَحَداً مِنْ بَنِي هَاشِمٍ والْقُوَّادِ والْكُتَّابِ والْقُضَاةِ والْفُقَهَاءِ وسَائِرِ النَّاسِ إِلَّا وَجَدْتُه عِنْدَه فِي غَايَةِ الإِجْلَالِ والإِعْظَامِ والْمَحَلِّ الرَّفِيعِ والْقَوْلِ الْجَمِيلِ والتَّقْدِيمِ لَه عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ بَيْتِه ومَشَايِخِه، فَعَظُمَ قَدْرُه عِنْدِي إِذْ لَمْ أَرَ لَه وَلِيّاً ولَا عَدُوّاً إِلَّا وهُوَ يُحْسِنُ الْقَوْلَ فِيه والثَّنَاءَ عَلَيْه.

هذه هي صورة إمامنا العسكريِّ(ع) عند بعض أخصامه ومناوئيه المبغضين له، رغم أنه كان حَدَثَ السِّنِّ، إذ لم يتجاوز حينها اثنتين وعشرين سنة، ولقد شملته عنايةُ الله ولطفُه، فكانت هذه صورته لدى جميعِ النَّاس، ولذلكَ نحنُ نرتبطُ به وبالأئمَّة من أجدادِه، نرتبطُ بهم من خلال فكرِهِم وعلمِهِم وأخلاقِهِم وهَدْيِهِم، الَّذي يتمثَّلون فيه جدَّهم رسول الله(ص).

ونحن لو راقبنا سيرته لرأينا كيف كان منهجه هو الدَّعوة إلى الله تعالى من خلال كلامه ومواعظ وعمله الَّذي كان له أبلغ الأثر في من حوله، وهذا ما جاء في الرِّواية الَّتي أوردها الشَّيخ المفيد في الإرشاد أنَّ العبَّاسيِّين دخلوا على صالح بني وصيف حين سُجِنَ الإمام(ع) في سجنه فقالوا له: ضيِّق عليه ولا توسَّع، فَقَالَ لَهُم صَالِح: ما أصنع به؟! قد وكَّلت به رَجُلَيْنِ من شَرِّ مَن قَدِرْتُ عَلَيه، فقد صارا مِن العِبادةِ والصَّلاة إلى أمرٍ عظيم. ثمَّ أمرَ بإحضار الموكَّلَيْن، فقالَ لَهُمَا: ويحكُمَا ما شأنُكُما في أَمْرِ هذا الرجل؟ فقالا: ما نقولُ في رجلٍ يصومُ النَّهارَ، ويقومُ اللَّيلَ كلَّه لا يتكلَّمُ ولا يتشاغَلُ بغيرِ العِبادة، فإذا نَظَرَ إلينا ارتَعَدَت فرائصُنَا وداخَلَنَا من أَمرِنَا ما لا نَملِكُهُ من أنفُسِنَا؟ فلَمّا سمِعَ ذلكَ العبَّاسيُّون انصرَفوا خاسِئِينَ.

وهكذا كان الإمامُ(ع) يوصي شيعتَه أن يكونوا دعاة لله بغير ألسنتهم، بل بأعمالهم وتقواهم ونفعهم للنَّاس ومؤاخاتهم لهم، وهذا ما جاء في وصيَّته لشيعته وشيعة أجداده، وهي وصيَّة لنا ولكم في يومنا هذا حتَّى نكون من شيعتهم، فقد جاء فيها قوله(ع): أُوصِيكُم بتَقوَى اللهِ، والوَرَعِ في دِينِكُم والاجتِهادِ للهِ وصِدقِ الحَديثِ وأَدَاءِ الأمَانَةِ إلى مَن ائتَمَنَكُم مِن بَرٍّ أو فاجِرٍ، وطُولِ السُّجُود-فإنَّ السجود هو مَظهَرُ التذلُّل لله والخُضُوعِ له-، وحُسنِ الجِوار، فَبهذا جاء محمَّد (ص) -فقد وردَ عن النَّبي(ص): ما زال جِبريلُ يُوصِينِي بالجَارِ حتَّى ظَنَنْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُه- ويُكملُ (ع) حديثَه فيقول: صلُّوا في عَشائِرِهِم، اشهَدُوا جنائزَهُم، وعُودُوا مَرضَاهُم، وأَدُّوا حُقُوقَهُم -فإنَّ لجيرانكم عليكم كلَّ هذه الحقوق حتَّى لو كنتم تختلفون معهم في بعض مسائل الاعتقاد، فكيف إذا كنتم جميعًا على اعتقادٍ واحد؟- فإنَّ الرَّجلَ منكُم إذا وَرَعَ في دينِه، وصَدَقَ في حديثِه، وأدَّى الأمَانَةَ، وحَسُنَ خُلُقُه مَعَ النَّاسِ قيلَ: هذا شِيعِيٌّ، فَيَسُرُّنِي ذلك -والَّذي يسرُّ الإمام إنَّما هو طاعة الله سبحانه في ما أراد للمؤمنين أن يكونوا عليه- اتَّقوا اللهَ وكونوا زَينًا -بطاعتكم لله ورسوله فنفتخر بِكُم- ولا تَكونُوا شَيْنًا-وعارًا علينا من خلال ابتعادكم عن طاعة الله ورسوله-، جُرُّوا إلَيْنَا كُلَّ مَوَدَّةٍ وادفَعُوا عنَّا كلَّ قَبيحٍ -بأعمالكم الحَسَنة- فإنَّه ما قيل فينا من حَسَنٍ فَنَحنُ أهلُه-لأنَّهم حُجَجُ اللهِ وأوصياءُ رسول الله(ص)- وما قيل فينا من سوءٍ فما نحنُ كذلك –لأنَّهم معصومون منزَّهون عن كلِّ قبيح-. لَنَا حَقٌّ في كِتَابِ الله، وقَرَابَةٌ مِن رسول الله(ص) –فَهُم أحفادُه وأبنَاؤه- وتَطهيرٌ مِنَ الله –في آية التَّطهير- لا يدَّعيهِ أَحَدٌ غَيرُنَا إلَّا كَذَّاب. أكثرُوا ذِكرَ الله، وذِكرَ الموتِ، وتِلاوَةَ القُرآنِ، والصَّلاةَ علَى النَّبيِّ (ص) فإنَّ الصَّلاةَ عَلى رَسُولِ اللهِ(ص) عَشرُ حَسَنَاتٍ. احفَظُوا ما وصَّيتُكُم بِه، وأستَودِعُكُم الله وأَقرأُ عَلَيكُم السَّلام.

أيُّها الأخوة، هذه وصيَّة إمامنا العسكريِّ ما تزال تتوجَّه إلى المؤمنينَ من شِيعةِ أهلِ البَيتِ في كلِّ زَمانٍ ومكانٍ، وربَّما تكون الحاجة إليها اليوم أشدَّ من أيِّ وقتٍ مضى، لما فيها من دعوةٍ إلى الالتزام بحسن الخُلُق وحسن الجوار وحسن العمل، وما فيها من دعوةٍ إلى الوحدة بين المسلمين، إنَّنا اليوم في أشدِّ الحاجة إلى الوحدة وإلى أن يكون المسلمون صفًّا كالبنيان المرصوص، فَمَعَ نهايةِ عَامٍ وبِدايةِ عَامٍ ميلادِيٍّ جديد، يَبقَى العَالَمُ الإسلاميُّ في دائرَة الأزَمَات والمَشاكِل الَّتي تعصف بعددٍ كبيرٍ من بلدانه، وخصوصاً في منطقة الشَّرق الأوسط الَّتي ما زالت هدفًا لمطامع قوى الاستكبارِ العالميِّ الَّتي تعبثُ بواقعها، وتحاولُ إبقاءَها في أتونِ الصِّراعاتِ المذهبيَّة والطَّائفيَّة حتَّى تظلَّ فريسةً سهلةً لأطماعها ومشاريعها، الَّتي تريد تكريسَ “إسرائيل” قوةً أولى في المنطقة.

وقد كشفت السَّنةُ الماضيةُ، أنَّ كلَّ ما يدَّعيه الغربُ من دَعمٍ للثَّوراتِ وحِرصٍ على مصالحِ الشُّعوبِ وحُرِّيَّاتِها وحُقُوقِ إنسانِها ليست إلَّا كَذِبًا صَريحًا وخِدَاعًا للعالَم، لأنَّ الغرب لا ينشغلُ إلَّا بمصالحِه الحيويَّةِ وبنهب ثرواتِ المنطقة، أمَّا ما يدَّعيه من الحِرص على شُعوبِ المنطقة، فقد أثبتت التَّطوُّراتُ المُتلاحقَة، أنَّه آخرُ ما يفكِّرُ به.

فقد انقلب ما سُمِّيَ بالرَّبيع العربيِّ إلى مشهدٍ يَحفَلُ بالفَوضى والعُنفِ المُتَنَقِّل والخِلافاتِ الدَّاخليَّة، حيثُ باتت المنطقة في خضمِّ واقعٍ تَقسيميِّ يُقطِّعُ أوصالَ بلدانِها، في ظلِّ دَعمٍ غربيٍّ واضحٍ للجَّماعات التَّكفيريَّة رغم ادِّعائه محاربتَها، بحيثُ باتت هذه الجماعات، تقود كلَّ مجريات المعارك في سوريا في مواجهة نظامها الَّذي يريدُ الغربُ معاقبته على انضوائه في محور المقاومة والتزامِه بقضايا الصِّراع مع العدوِّ. ولو كان الغرب حريصًا -كما يدَّعي- على حقوق الإنسان لما أعطى كامل دعمِه للأنظمة الاستبداديَّة المتعصِّبَة الَّتي تقمعُ حرِّيَةَ شُعوبِها في الكثير من دول المنطقة، دون أن يحرِّكَ ساكناً.

وهذا ما نشاهده في البحرين، الَّذي تحاول العائلة الحاكمة فيه أن تشوِّه صورة التحرُّك السِّلميِّ المَدَنيِّ لتعطيه طابع الحراك المذهبيِّ وتتنصَّل من أداء حقوق الشَّعب.

فبدلاً من أن تستجيبَ لكلِّ الأصوات الشَّعبيَّة الَّتي تُطالب بأبسط حقوقِها وتتحرَّكُ بطريقةٍ سلميَّة حضاريَّةٍ، فإنَّها تزدادُ تصلُّبًا وجَبَروتًا وقَمعًا. وكان آخرُ خُطواتِها المُستَنكرة، اعتقالها للشَّيخ علي السَّلمان، أمينِ عامِّ جمعيَّة الوفاق البحرينيَّة، الَّتي تمثل عمودَ المعارضة في مواجهة نظام الأسرة الحاكمة الطَّاغية.

إنَّ هذه الخطوةَ هي عملٌ مُستنكَر، يُشكِّلُ اعتداءً صريحًا على إرداة الشَّعب البحرينيِّ، وإصرارًا على قمع حركتِه السِّلميِّة من أجل تحقيق حرِّيَّته وكرامته في وطنه، وهي لن تُثنيه عن مواصلة طريقه حتَّى تحقيق أهدافه. ولا بدَّ من أن يرتفع الصَّوتُ عاليًا من قِبَلِ كلِّ الدُّول والجهات الَّتي تَدَّعي الحرص على الحرِّيَّات رفضًا لهذا الاعتداء التَّعسُّفيِّ المُدَان، لأنَّ السُّكوتَ عن مثل هذه التَّصرُّفات، يشكِّلُ دعمًا واضحًا يفضحُ حقيقة وخلفيِّات الدُّولِ الغربيَّة الَّتي تحمي أبشع الأنظمة الاستبداديَّة، طالما أنَّها تراعي مشاريعها وتحفظ مصالحها.

إنَّنا مع بداية عامٍ جديد، لا بدَّ أن نؤكِّدَ تمسُّكَنا بكلِّ قضايانا العادلة، وتمسُّكَنا بوحدتنا في مواجهة أعداء الأمَّة وفي مواجهة كلِّ مثيري الفتن، الَّذين يعيثون فسادًا في واقع أمَّتنا وبلداننا، فالمستقبل لن يكون إلَّا للَّذين يتحرَّكون في خطِّ الوعي وطريق الرِّسالة ويحملون روح الخير للإنسانيَّة، لأنَّ الظُّلم والبغي مهما تعاظَم فلن يستطيع كسر صمودِ الَّذين يعيشون الحرِّيَّةَ في إرادتهم والعزَّة في نفوسهم والانفتاح على الله في قلوبهم وعقولهم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ [التوبة:105]

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …