دخل لبنان فعلياً في المرحلة الصعبة، ولا مبالغة في الكلام القائل إنّ ثمّة تفاهماتٍ في العمق تحصل حول ساحات الشرق الاوسط وتُحدث انقلابات جذرية للمرة الأولى منذ ولادة اتفاق سايكس – بيكو التاريخي، تفاهماتٌ يجري صوغها بدقة في الكواليس المظلمة وسيجري تطبيقها تباعاً وفق خريطة طريق تُعدّ وهذا ليس خيالاً كما قد يظهر للوهلة الاولى.
ويبدو انّ الادارة الاميركية التي باشرت تنفيذ سياستها الجديدة، قد أوكلت المهمات الى روسيا ووفق تفاهم وتنسيق كاملين بينهما. وهو ما يعني ايلاء روسيا مهمات جديدة ودور اوسع في هذه البقعة المعقدة والمضطربة في العالم.
لذلك، مثلاً، تلعب روسيا دوراً محورياً في المفاوضات الدائرة بين واشنطن وطهران والتي تختزن كثيراً من الاسرار والقطب المخفية، ليس فقط على الصعيد السوري، ولكن أيضاً على صعيد توازن الساحات الأُخرى ومناطق النفوذ من باب المقايضة. وللمرة الاولى بدأ يظهر كلام حول الأُفق الزمني للحرب الدائرة في سوريا، ذلك أنّ ادارة الرئيس باراك اوباما تريد تحقيق هذا الانجاز قبل انتهاء ولايته ليضمه الى سجل انجازاته.
صحيح انّ مؤتمر “جنيف – 2″ لم يعد بعيداً، حتى ولو تمّ تأجيله مرة اضافية، وصحيح ايضاً انّ انعقاده لن يأتي بكثير سوى الانجاز الشكلي بجمع الاطراف المتناقضة حول طاولة واحدة، الّا انّ الصحيح ايضاً هو انّ المهمة الفعلية لـ”جنيف ـ 2″ هي التحضير جيداً لـ”جنيف – 3” والذي من المفترض أن ينعقد بعد اسابيع معدودة من مؤتمر “جنيف – 2”.
بالتأكيد أنّ النظام حجز مقعداً له، إن لم يكن المقعد الاساسي في التركيبة السورية الجديدة، وفق ما باتت تقرّ به العواصم الغربية، وفي طليعتها واشنطن ولندن. والمهم أنّ هذا المسار سيأخذ مداه قبل أن يصبح حقيقةً واقعة طوال المدة الفاصلة عن سنة 2016.
في هذا الوقت ستدور معارك كثيرة وتسيل دماء اضافية، بعضها تحت عنوان القضاء على المجموعات الارهابية، وبعضها الآخر لترتيب الميدان وفق التصور السياسي المطروح في المنطقة. وقد يكون احد اسباب طول المدة الفاصلة عن ولادة الحل السوري، اقرار جميع الاطراف الاقليمية وفي طليعتهم السعودية وتركيا بالترتيب السوري الجديد، لا بل أكثر بالترتيب الاقليمي الجديد وفق التفاهم الاميركي ـ الروسي.
لكن قبل ذلك تبدو السعودية مصممة على إحداث تغيير ميداني يعدّل في التوازنات وهو ما لا يبدو قابلاً للتحقيق، على الاقل وفق المعطيات الحالية.
الّا انّ الاوساط الديبلوماسية العربية بدأت تتحدث عن إشارات سعودية (وليس عن قرار) باحتمال إجراء تفاهم مع الغرب حول المشروع المطروح للمنطقة. لذلك تشجعت باريس على القيام بدور ما على هذا الصعيد بهدف تليين الرفض السعودي. وصحيح انّ زيارة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند للسعودية تحمل طابعاً اقتصادياً حيث يرافقه وفدٌ كبير من رجال الاعمال الكبار.
إلّا انّ الرئيس الفرنسي سيخصص في لقاءاته مع القيادة السعودية جانباً اساسياً يتصل بالوضع السياسي المستجد في المنطقة. وحسب العارفين سيحاول هولاند الوقوف على الاعتراضات السعودية الفعلية مع تأكيده انّ تفاهماً دولياً كبيراً حصل وليس لأيّ قوة اقليمية القدرة على التشويش عليه.
وفي المعلومات أيضاً أنّ الرئيس الفرنسي سيطرح الواقع الصعب والخطير الذي يمرّ به لبنان والذي كان آخر فصوله اغتيال الوزير السابق محمد شطح.
فالدوائر الغربية المهتمة بلبنان تدرك انّ رسالة الاغتيال تحمل مضامين دولية لناحية توجيه رسائل مرمّزة حول ملفات لبنانية تتصل بالترتيبات الجاري صوغها. وهو ما يعني أنّ هذه الرسائل مرشحة للتكرار، ولو بأشكال مختلفة. كذلك فإنّ اشتعال الجبهة اللبنانية ـ الاسرائيلية فجأةً لا بدّ من أن يكون متضمّناً رسائل في هذا الاتجاه، والاهم المخاطر الكبرى التي تحوط بالوضع في عرسال والتي ستصبح متفجرة في حال سقوط منطقة القلمون بكاملها في قبضة الجيش النظامي.
ففي عرسال خطّ تماسٍ فائق الحساسية والخطورة في آن معاً مع الخزان الشيعي الهائل في منطقة بعلبك ـ الهرمل. ولذلك تعمّد الرئيس الفرنسي توجيه رسائل التهدئة بعبارات صريحة اثر اغتيال شطح وقبيل وصوله الى السعودية.
ذلك انّ العواصم الغربية بدت قلقة جداً من عدم قدرة الساحة اللبنانية على تحمل التطورات الميدانية السورية والاتفاقات الكبرى الجارية، خصوصاً انّ التصدّع واضح على المستوى الداخلي، اضافة الى تعزيز المجموعات المتطرّفة حضورها، فيما “حزب الله” لن يتراجع عن خياره في سوريا لأنّ الامور اصبحت في الربع الاخير من الساعة.
ولأنّ هشاشة الساحة اللبنانية لا تسمح بالانتظار طويلاً، وهي ايضاً لا تتحمل حكومات تحدٍ ولا فراغات على مستوى رئاسة الجمهوية، سيحاول الرئيس الفرنسي بتشجيع اميركي البحث مع المسؤولين السعوديين في تسوية جزئية تطاول الساحة اللبنانية فقط اذا تعذّر الدخول في تفاهمات كبرى على مستوى المنطقة،
على أن تؤدي هذه التسوية الجزئية السعودية ـ الايرانية حول لبنان الى النقاط الآتية:
1 – وضع كل الملفات التي تشكل مادةً للتصادم وتشنّج الوضع جانباً، وهو ما سيُفهَم منه ضمناً ملف ولادة حكومة جديدة.
2 – إعطاء الاولوية المطلقة لانجاز الاستحقاق الرئاسي ضمن المهل الدستورية وقبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان منعاً لحصول فراغ قد يشرّع الابواب أمام مخاطر غير محسوبة.
3 – في موازاة ذلك، التفاهم على طبيعة الحكومة الاولى للعهد المقبل وشكلها ووظيفتها، بحيث يتمّ استباق ايّ مفاجآت غير محسوبة مستقبلاً.
4 – إعطاء برنامج محاربة الارهاب في لبنان وتفكيك شبكات المتطرفين الاولويةَ القصوى لبرنامج الحكومة المقبلة.
5 – تعزيز الجيش وحمايته وتطوير قدراته، خصوصاً انّ مهماتٍ اساسية ستُلقى على عاتقه وكونه سيلعب دور صمام الامان الوحيد للبنان في المرحلة المقبلة. وفي هذا الاطار، يمكن تفسير المبادرة التي أعلن عنها رئيس الجمهورية بالأمس حول الدعم السعودي الكبير للجيش اللبناني.
6 – العمل على إيجاد حلّ جذري لمشكلة النازحين السوريين والتي باتت تهدد التوازنات الداخلية من خلال تنفيذ مشروع عملت الامم المتحدة على اعداده، ويقضي باقامة مخيمات للنازحين السوريين عند الجانب السوري من الحدود اللبنانية- السورية بعد ان يكون قد جرى اقرار ذلك في مؤتمر جنيف- 2.
جوني منير