ميس والسجاد والعلاقة الدافئة

يعود الخريف فيعود أهالي ميس الجبل إلى المهنة الأحب على قلبهم، بيع السجاد. يفتحون محالاً غابت عنها شمس الصيف، ينفضون غبار سجادهم القديم ويبدأون رحلة البحث عن بضاعة جديدة لموسم قصير يشكل بالنسبة إلى كثيرين منهم «الحيلة والفتيلة»

لؤي فلحة
هي أشبه بحالة طوارئ يعيشها بائعو السجاد هذه الأيام. صخب العمل يطغى على كل شيء، ومحال السجاد تحوّلت إلى ورش كبيرة يسابق فيها التجار الوقت لتأمين مختلف المستلزمات من عمّال وبضاعة وديكور. هو أيضاً موسم خاص بالنسبة لأهالي أبناء بلدة ميس الجبل. صحيح أنهم ليسوا أول من زاول مهنة بيع السجاد في لبنان، لكنهم أكثر من أتقن تجارتها. فالسجاد في ميس الجبل ليس مجرد سلعة، بل مهنة يتوارثها «الميسيون» جيلاً بعد جيل حتى باتوا يملكون اليوم أكثر من 40 مؤسسة للسجاد، تختلف في حجمها وعدد موظفيها وأماكن انتشارها.

يطلب عماد، وهو صاحب محل سجاد في ميس الجبل من عماله إفراغ شاحنة السجاد، وترتيب البضاعة وفق الأحجام والألوان، وملء واجهة المحل بالسجاد الأحمر. فاللون الأحمر يلفت الانتباه ويجذب الزبائن. برأيه التفاصيل الصغيرة هي ما تحدث الفارق الكبير. يخبر عماد كيف كان الجنوبيون قبل عقود أمام خيارات محدودة: البقاء في الأرض والعمل في خدمة الإقطاع، أو الهجرة خارجاً، أو النزوح إلى بيروت وضواحيها، فاختار الميسيون بغالبهم الخيار الأخير وعملوا في مهن كثيرة قبل أن يستقروا في مهنة السجاد.
يعود الحاج نمر، وهو من أقدم بائعي السجاد في ميس الجبل، بذاكرته إلى أوائل خمسينيات القرن الماضي إثر قيام الكيان الصهيوني وإغلاق الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية. يومها نزح مع عشرات الشبان من بلدته إلى بيروت، ليعمل قسم منهم كحمّالين في الأسواق ينقلون أغراض الزبائن، فيما اتجه القسم الآخر إلى بيع الزجاج والأدوات المنزلية من خلال سلال القصب. يصف الحاج نمر تلك المرحلة بالأصعب «حينها لم يكن بعض الشباب يملكون ليرات قليلة توصلهم إلى بلدتهم للاطمئنان على أهلهم». وما هي إلا سنوات قليلة حتى تعرف أبناء بلدته إلى مهنة السجاد، وكانت البداية مع البيع المتجول الذي يقتضي أن يحمل البائع السجاد على كتفه متجولاً بين الأحياء والقرى، ثم ما لبث أن طور الميسيون طريقة بيعهم، فابتاعوا السيارات وانطلقوا نحو مختلف المناطق اللبنانية. ومع ازدياد الأرباح تمكنوا من افتتاح محال السجاد التي انتشرت بسرعة كبيرة في مختلف المدن اللبنانية.
45 عاماً، ولم يملّ الحاج موسى بعد من مهنة السجاد. يقول: «عندما كنا نحمل السجاد على كتفنا، لم نفكر أن نتركه. إسّا (الآن) معقول بس صار عندنا محلات نتركها، مستحيل». لكن موسى يحنّ إلى الماضي «رغم صعوبة العمل وقلة المكسب، فقد كانت للبيع نكهة خاصة، فشرب فنجان القهوة في منزل الزبون خطوة ضرورية بعد البيع ليغدو الزبون صديقاً تكثر زيارته، أما اليوم فالربح والخسارة هما المفهومان السائدان لدى الجميع». ويتذكر موسى كيف كان التجار يعودون صيفاً إلى قريتهم، لينفقوا ما كسبوه شتاء. فيشترون الأراضي والمواشي، أو يضيفون غرفاً جديدة إلى منازلهم القديمة الضيقة. لهذا يؤكد موسى المساهمة الكبيرة لمهنة السجاد في النهضة الاقتصادية والعمرانية التي شهدتها ميس الجبل.

تميّز البيع المتجوّل بالعديد من المواقف الطريفة وعلاقات الصداقة

تعلو الضحكة في محل أبو علي الكائن في حي السلم عندما يصف نفسه بـ«سندباد السجاد» نسبة لمغامراته وقصصه العديدة أثناء بيعه السجاد. يروي كيف ذهب إلى منزل الرئيس الراحل الياس سركيس، والفنانة صباح، وغيرهم من المشاهير وأقنعهم بشراء بضاعته، ليأخذ منهم تذكرات ما زال يحتفظ بها حتى الآن. كما لا ينسى لحظة توقيفه على أحد الحواجز أثناء الحرب الأهلية وسرقة سيارته المحمّلة بالسجاد. لكن القصة الأطرف التي يحرص على تكرارها هي قصة زوجين زارهما في منزلهما ليبيعهما السجاد، فاختلفا على نوعية السجادة الملائمة ولونها، «لم تكن السجادة سوى الفتيل، ليندلع شجار عنيف بينهما انتهى بطرد الزوج لزوجته». ويبقى الأمر الأطرف أنه هو من تولى شخصياً نقل الزوجة المطرودة إلى بيت أهلها بواسطة سيارة السجاد.
يؤكد أبو علي تفوّق بلدته على غيرها من القرى اللبنانية في مجال السجاد. تفوق يعيده إلى الخبرة التي اكتُسبت بعد سنوات طويلة من العمل في هذه التجارة. لكن أكثر ما يميز تجار السجاد «الميسيين» برأيه هو «إصرارهم على تعليم أولادهم المصلحة». وتبدو آراء بائعي السجاد في ميس الجبل متوافقة، لناحية علو كعب البلدة في مجال السجاد. وكما تتشابه مواقفهم فكذلك أفعالهم من خلال التحضير الجيد للموسم، ومن هؤلاء أبو أحمد الذي قرّر في مرات كثيرة هجر مهنة السجاد، لكنه كان يجد نفسه دوماً يعود إلى المهنة التي نشأ فيها. يقول ممازحاً «لقد أدمنتها». يستعين بالمثل الشعبي «نبع يخف ولا نهر يجف» ليشير إلى الصعوبات التي يواجهها تجار السجاد خلال الصيف ويقول: «يعلم الموظف أن راتباً ولو كان زهيدا سيصله أول الشهر سواء أكان ذلك صيفاً أم شتاء، أما نحن فقدوم الصيف يعني أننا لن نرى المال قريباً، ما يستوجب منا تقليص المصاريف من أجل القدرة على الانطلاق في الموسم المقبل الذي يتطلب مبلغ 20 ألف دولار أميركي على الأقل تتوزع ما بين ثمن البضاعة وإيجار المحل». لذا، يفضّل بعض التجار البيع المتجوّل هرباً من تكاليف الإيجار والكهرباء والرسوم. وتتركز جولات البائعين المتجولين في المناطق الجبلية والقرى التي يندر وجود محال السجاد فيها.
تجدر الإشارة إلى أن السجاد المنتشر في الأسواق اللبنانية ينقسم إلى محلي ومستورد. وتعدّ معامل قبلان وبيبلوس الأشهر في هذا المجال، رغم أن المعمل الأخير توقف عن الإنتاج إثر انهيار طوابقه بعد حريق شب في مبناه. أما السجاد المستورد فهو غالباً تركي وبلجيكي ومصري وصيني المنشأ.

الكلاسيكي والعصري

من المؤكد أن السجاد عالم واسع، تتنوع فيه الاصناف والأحجام والألوان والأسعار وبلدان المنشأ، لكنه ينقسم الى نوعين أساسيين: الكلاسيكي والذي يشبهه التجار بالبدلة السوداء التي لا تبطل موضتها، والعصري. والنوع الأول يشمل النقشات العجمية والشرقية المليئة بالزخرفات والأشكال الهندسية الصغيرة وغالباً ما يختاره كبار السن. أما السجاد العصري فيظهر من خلال النقشات البسيطة الخالية من التعقيد وتتعدّد ألوانه، وهو من خيارات الشبّان.
وتتفاوت الأسعار بحسب نوعية السجاد. فالصنف الأرخص والذي يدعى «سجاد النيلون» يباع متره بسعر 10 دولارات، ويسجل البائعون في السنوات الأخيرة ارتفاعاً بنسبة 50% في مبيع هذا النوع ويربطون ذلك بالنازحين السوريين الذين يبحثون عن سجاد رخيص وموقت. أما السجاد ذو النوعية المتوسطة فيتراوح سعر متره بين 15 و40 دولاراً، وعادة ما يلجأ أغلب اللبنانيين إلى هذا النوع نظراً للسعر والنوعية المقبولة. أما السجاد العجمي اليدوي فيعدّ الأغلى ثمناً، وقد يتجاوز سعر السجادة الواحدة آلاف الدولارات. وفي حين ترتفع الأسعار في أشهر الموسم الذي يمتد من أيلول حتى شباط، فهي تعود وتنخفض في الأشهر اللاحقة حيث تقيم المحال عروضاً وتصفيات على سجادها.

الأخبار

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …