«في البداية كنّا نتصيّدهم كما لو أننا في حقل رماية، مع أنظمة رؤية ليلية ولم يفهموا من أين يأتيهم (الرصاص)… وخلال عدة سنوات وجدنا أنفسنا مع الموساد وهو يهرول إلى هنا وهناك في أوروبا كي يتابع الأماكن التي يشتري منها حزب الله الشرائح الالكترونية التي يستخدمها مقاتلوه لمنع طائراتنا التي تحلّق في الجو من تفجير العبوات»، بهذه العبارات لخّص رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك مسار تعاظم قدرات المقاومة منذ نشأتها. فمن مجموعات تبحث عن ثغرات لنصب الكمائن إلى تنظيم يلوّح بـ«معركة الجليل». «التفاعل مع التحدي» كما يصفه أحد قادة الجسم الجهادي أنتج منظومة قتال متمرّسة ومرنة «واسعة الانتشار» نقلت حزب الله إلى لاعب اقليمي في ميادين مختلفةفي البدء كانا «أخوَين»: الأول يرصد والثاني ينفذ. أو كانا «أخاً» واحداً، يقود سيارته ويفجّرها بالعدو. استُهلّت الحكاية بمجموعات صغيرة. كان «الجيش الذي لا يقهر» يُلاحقهم فرادى وهم ينمون ويتكاثرون بين جدران منازلهم حيث لا يُحجب صوت نشيد أو سيرة شهيد. كَبُرت المهمة ولاح التحدي الأكبر مع مرور السنوات.
قد يصح القول إنّ ما بقي من حزب الله 1982 هو الهوية وثلّة من الرعيل الأول. منذ أكثر من 30 عاماً يبحث المتابعون عن سرّ بقاء هذا التنظيم وصموده. البعض عوّل على فنائه وآخرون على تحجيمه، لكن في الحقيقة كان الحزب يتحوّل إلى مؤسسة ضخمة تنمو مع كل تهديد، وقادرة على الابداع والتطور مع كل مفصل تمرّ به مسيرتها. اليوم يحضر الحزب في جبهات عدة في المنطقة، فمن مقاوم ترعرع في قرية جنوبية نائية وضع نُصب عينيه الدفاع عن حدود ضيعته، إلى مقاوم يتنشّق الهواء ذاته «يحمي» مشروع حزبه وثوابته في بَوادي دول الاقليم ومدنها. مجموعة مؤمنين حالمين عام 1982، أصبحوا لبنة مؤسسة لتنظيم فاعل ومؤثر في المنطقة كلها.يأخذنا قائد جهادي كبير إلى «العملي»، فهو مسلِّم بحزبه الذي «يسعى الى احقاق الحق والدفاع عن الوطن»، كعوامل معنوية مشكّلة لأي تنظيم بأبعادها الانسانية والوطنية والدينية. السيرورة التصاعدية، إذاً، طبيعية بالنسبة إليه.
في «العملي»، يروي القائد في المقاومة أنّ «الحاجة كانت تأخذنا إلى نمط جديد من العمل»، وهذه الحاجة اختلفت من مرحلة إلى أخرى. فهو مثلاً، يعيدنا بالذاكرة إلى عملية الأسر الأولى عام 1986 (في 17 شباط من ذلك العام، أسرت المقاومة جنديين ضمن «عملية كونين»، وقادَ العملية الشهيد سمير مطوط)، ثم يضيف حادثة اجبار العدو الإسرائيلي على الانسحاب من بلدتي كفرا وياطر في شباط 1992، حين كشفت المقاومة عن مخزون كبير تمتلكه من صواريخ «الكاتيوشا» التي قصفت فيها نقاط الجيش الإسرائيلي، مجبرة قوته المتوغلة على العودة إلى «الحزام الأمني»، لتدخل تلك الصواريخ في معادلة الردع.
هذه «الحاجة» بالنسبة لهدف كبير هو إزالة إسرائيل تجعل سلوك طريق تنمية القدرات أمراً ملحاً. يشير القائد في حديثه إلى «الأخبار» إلى العوامل المادية التي وجب تطويرها، وهي أساس «النمو»، مفصلاً في نقاط أربع: 1) العديد، 2) التسليح، 3) التدريب، 4) الانتشار.
وفي هذه النقاط يتكلّم عن قوة من «أضعاف مضاعفة» يمتلكها الحزب نسبة لمرحلة ما بعد حرب تموز 2006، إن كان من حيث عدد المقاتلين ونوعية تسليحهم وتدريبهم، إلى انتشارهم «الواسع». لكن في بناء هذا القوة، مرّت المقاومة في مراحل فرضت كل منها أنماطها. فكان الهدف قبل عام 2000 «استنزاف العدو بغرض انسحابه من الأرض، وأن يعلم أن ثمن بقائه فيها كبير»، لذا استوجب «اسلوبا يستلزم قدرات وأساليب محددة». ففي السنوات الاولى كان «شابان كافيين لزرع عبوة»، وعدد صغير جداً لتنفيذ كمين، بالإضافة إلى العمليات الاستشهادية.
مع تراجع العدو إلى القرى الحدودية، فُتحت أمام المقاومة ما يسميها القيادي «مناطق خضراء»، وهي مناطق محررة تستخدم قواعد انطلاق للإغارة، «فانطلق العمل لضرب تحصينات العدو أو احتلال نقاطه لفترة محددة، أو قتل أفراده ثم الانسحاب… وهنا أصبح ذلك يتطلب اشتراك عدد أكبر من العناصر ليصل إلى أكثر من 70 مجاهداً في العملية في بعض الأحيان».
هذا النمط بقي وتطور حتى انجاز التحرير عام 2000. بعد الانسحاب الإسرائيلي، اتخذ القرار: «هذا الجنوب ممنوع احتلاله». لتنتقل المقاومة إلى نمط جديد من «التركيز على مناطق قتال متعددة» وتثبيت «منظومة قتال كاملة في كل منطقة» مع التنسيق والضبط في ما بينها. هذا النمط أثبت نجاعته في حرب تموز 2006. جاءت الحرب والحزب مستعد لكل مآلاتها عبر ما يسميه القائد «الذكاء العسكري». هذا «الذكاء» في الجسم الجهادي مكّن المقاومين من الانتقال من نمط إلى نمط، ومن أسلوب إلى آخر قبل كل «مفصل» جديد.
بعد التحرير، يلفت إلى أنّه «وُجّه لاعداد الكادر لاستيعاب نمط جديد من القادة والاختصاصات». ثمّ ما بعد «تموز»، طُوّرت الوجهة: «أصبح السؤال هل يُسمح بدخول الإسرائيلي وبأن يحتل ثم ندافع؟». سريعاً، رفع الحزب من درجات سلّم الارتقاء في الإعداد، أي في العوامل المادية للتنظيم الجهادي. فجاء مجدداً تطوير «رباعيّ» العديد والتسليح والانتشار والتدريب بما يتلاءم مع متطلبات ما بعد نصر 2006. ما المتطلبات؟ «طُلب أن نتحوّل إلى منظومة هجوم»، يقول القائد الجهادي. ويضيف: هذا «التحوّل ليس ابن ساعته، بل هو ترجمة لعملية إعداد كوادر ينتظرون هذه المرحلة… أو ما يسميه الإسرائيلي ويخشاه وهو دخولنا الجليل».ما بين 2006 و2012، كانت المعسكرات تشهد تخمة محمودة بنظر الحزب، من المنتمين الجدد. بدأت المسألة كألعاب الفيديو: كلّما تقدمت في المراحل احتجت لأساليب جديدة و«عدّة» مختلفة. كان «التفاعل مع التحدي» كما يسمّيه «الحاج» الخمسيني، أساس اجتياز كل مرحلة. هذا التفاعل مرّ به أبناء المقاومة الاسلامية، سابقاً، عند ادخال العدو أجهزة رؤية ليلية في مدرعاتهم، أو عند ادخال المنظومات الحرارية في هذه الآليات. في تلك الفترة «أنجز الحزب بما يتلاءم مع التهديد»، لننتقل إلى «ساحة» جديدة من المواجهة المفتوحة مع العدو.
في الانتظار الدائم لجولة كبرى ضد الصهاينة، جاءت «مرحلة سوريا». يقول القائد إنّ «التهديد كان واضحاً منذ اللحظة الاولى في الاتجاه اللبناني، وخصوصاً من محور القرى الحدودية في الداخل السوري التي يسكنها لبنانيون وعلى مقام السيدة زينب». ظهرت «منظومة الهجوم» في ساحة أخرى، ومن الغوطة إلى القصير فالقلمون كان عناصر الحزب يخوضون عملياً ما استعدوا له في السابق.
كذلك، يخبرنا القيادي عن الخبرة المكتسبة في الأراضي «المجاورة»؛ ادخال نظام معركة المدرعات مع المشاة، واستخدام مدافع الميدان والتنسيق مع سلاح الجو، لنكون أمام «منظومة قيادة مختلفة» لم تحتَجها المقاومة سابقاً أمام الإسرائيلي، لذا «أصبحنا بحاجة لكادر من هذا النوع». وهنا يروي أنّ الكادر كان بالأصل مهيئاً ومدرباً نظرياً على تحديات كهذه، فجاء «توظيف المعرفة» في المكان الجديد، ليبدأ جمع الخبرة والتجربة في الميدان. وهذه الحاجة المستجدة استوجبت كوادر إضافيين من نوعية جديدة: قيادات عليا، ووسطية، ميدانية، وفيها جميعاً مهارات تخصّصية، «وهذا تطلّب تطوير منظومات خدمات الدعم كالاسعاف الحربي» (مشافٍ ميدانية، كوادر طبية…).
وفي الكلام عن «الغرق» في سوريا، برغم «تراكم الخبرات واحراز نتائج عسكرية لافتة»، يؤكد القيادي أنّ «حصّة الاسرائيلي على جنب»، فـ«معركة سوريا لحالها»، وإن كان آلاف الشباب قد «مرّوا» في ساحات قتال التكفيريين لكن الجبهتين منفصلتان من ناحية الجاهزية. «لو ما كنا محضرين ما نجحنا» يضيف. أمام كل مفصل كانت المقاومة تدخل في مرحلة اكتساب قدرة أكبر ومهارات أكثر. اليوم المجاهد في حزب الله خبر القتال في العمران والصحراء والاماكن المفتوحة والأحراج. يحيلنا القائد إلى «قمة التلاجة» في جبال القلمون حيث وصل ورابط المقاتلون على علو 2500 متر بدرجة حرارة تعدّت العشرين تحت الصفر. «كان يجب أن نكون على تلك القمة، مثلما وجب أن نكون في أماكن أخرى لا تشبه مناخ مناطق الجنوب… وكنا مستعدين لذلك» يقول لـ«الأخبار».
المسألة «روتينية» أمام القيادي الذي قاد عمليات في لبنان وسوريا، لكن في المحصلّة اليوم، هناك فتىً وُلد في بُقعة متروكة من هذه الأرض، بعد سنوات سيكون مقاتلاً شرساً على بعد آلاف الكيلومترات، أو سائق دبابة محترفا… أو يقف في الخط الأمامي و«يطلب» من طائرة حربية الإغارة على نقطة معيّنة… أو من يعلم قد يقود هو هذه الطائرة.
المصدر: الأخبار