مناقشة لما طرحه الشيخ الدهنين حول مسألة الشعائر
بقلم
سلمان عبد الأعلى
مقدمة
لم يكن في نيتي الكتابة عن موضوع الشعائر أو الدخول في أية سجالات حولها في الوقت الراهن، سواءً كان ذلك مع الشيخ الدهنين –هداه الله- أو مع غيره ممن يسير على نهجه أو يتبع طريقته نفسها، وذلك لعدة أسباب منها ما يتعلق بمسألة الشعائر الحسينية بوجه عام، ومنها ما يتعلق بما طرحه الشيخ الدهنين حولها بوجه خاص.
وأما بالنسبة للأسباب العامة المرتبطة بمسألة الشعائر، فباعتقادي أن الحديث حولها قد استهلك وأشبع بحثاً ومناقشةً لكثرة ما تم تناوله في الأعوام الماضية، ولا جدوى من تكراره ومواصلة اجتراره دون تقديم أية إسهامات حقيقية يمكن أن تضع حداً للخلافات الحاصلة بين الأطراف المتنازعة، ففي كل موسم عاشورائي يمر علينا تتجدد السجالات المتعلقة ببعض الممارسات المحسوبة على الشعائر الحسينية بين المؤيدين لها والمعارضين، ولكن أغلبها وللأسف الشديد لا فائدة ترجى من ورائها، لأنها لم تفضِ إلى نتائج حاسمة لهذا الخلاف.
ومن ضمن الأسباب العامة أيضاً؛ أنني كنت مؤيداً لبعض الأصوات الواعية التي اطلقت حملة توعوية قبل دخول شهر محرم لهذا العام 1436هـ داعية فيها جميع الأطراف لعدم إثارة هذه الأمور الخلافية، وذلك حرصنا منها على وحدة الصف الشيعي وعدم تمزيقه في هذه الفترة الحرجة التي نمر بها.
وأما فيما يتعلق بالأمر الآخر، وهو الأمر الخاص بالشيخ الدهنين، فلم أكن راغباً في العودة لمناقشة أطروحاته مرة أخرى، وذلك لكي لا يُظن بأن غايتي من ذلك هو استهداف شخصيته من خلال تتبع عثراته وهفواته كما يروج لذلك البعض[1].
مهما يكن، فإنني من أجل هذه الأسباب العامة المرتبطة بالشعائر أو الخاصة المرتبطة بالشيخ الدهنين أعرضت عن الخوض في هذه المسألة في بداية الأمر، ولكنني عدلت عن ذلك مؤخراً للسببين الآتيين:
الأول: أنني عندما اطلعت على الردود التي قام بها بعض المدافعين عن الشيخ الدهنين رداً منهم على بعض مخالفيه في موضوع الشعائر، وجدت أن بعضهم قد حرف الموضوع عن مساره الأساسي الذي كان ينبغي أن يدور الحوار حوله، وهو كون بعض الممارسات التي دعى لها الشيخ الدهنين كالتطيين وشق الجيب ونحوها من الشعائر الحسينية أم لا، حيث إنهم وللأسف الشديد لم يركزوا على هذا الأمر، وتحول الموضوع بقدرة قادر لمناقشة كون هذه الممارسات بدعة وخرافة أم لا، وهذا باعتقادي غير صحيح، لأنه حتى لو لم يثبت كون هذه الممارسات بدعة أو خرافة، فإن هذا لا يعني ثبوت كونها شعيرة من الشعائر، إذ لا يوجد ملازمة بين الأمرين.
الثاني: وهو الدافع الأهم، وهو أنني استمعت لأحد الخطباء البارزين بالأحساء، والذي ألمح للشيخ الدهنين دون أن يسميه، حيث ذكر بأن هناك بعض النعوت المسيئة التي أطلقت عليه، وأبدى استنكاره لهذا الأمر نظراً لكون ذلك غير لائق من الناحية الأخلاقية، فمن غير الصحيح بحسب قوله أن توصف عمامة رسول الله –المتمثلة بالشيخ الدهنين طبعاً- بهذا الوصف المسيء. ومع تحفظي على كلام هذا الخطيب وربطه بين عمامة رسول الله وعمامة غيره من رجال الدين، إلا أنني لن أعلق على هذا الأمر بشيء، لأن ما أثارني أكثر ليس هذا الربط الغريب، وإنما اكتفاؤه بنقد الاتجاه المخالف للشيخ الدهنين فقط، وعدم نقده للإساءات التي صدرت من الاتجاه الذي يمثله الشيخ الدهنين، سواءً من قبل الشيخ مباشرة أو من قبل بعض أتباعه وأنصاره، وسواءً كان ذلك في أطروحته الأخيرة حول الشعائر أو في غيرها من الأطروحات الأخرى.
طبعاً لا يعني كلامي هذا بأني أدعو للإساءة للشيخ الدهنين والعياذ بالله، لا أبداً، لأن حفظ مقام الأشخاص والحرص على عدم التعدي عليهم أمر مهم جداً، وهو مطلوب من جميع الأطراف بلا استثناء، ولكني أرفض واستنكر أن يوجه النقد لطرف من الأطراف ويغض النظر عن الطرف الآخر الذي قد يكون هو الأكثر إساءة والأشد انتهاكاً كما فعل الخطيب المعني [2]، حيث استنكر توجيه الإساءة لشخص الشيخ الدهنين وعدها إساءة موجهة لعمامة رسول الله (الله أكبر)، ولكنه لم يستنكر الإساءات التي وجهت لمخالفيه سواءً ما كان منه شخصياً أو من قبل بعض أتباعه وأنصاره (فيا سبحان الله)، ولا أدري لماذا يتجاهل عن هذا الأمر على الرغم من وجود رجال دين بارزون وعلى مستوى عالٍ من العلم والمعرفة ضمن الذين خالفوه واستنكروا عليه في هذه المسألة وفي غيرها؟!! فلماذا لا يستنكر توجيه الإساءة لهم وعدها أيضاً إساءة لعمامة رسول الله (ص) بحسب هذا المنطق العجيب؟ !!
علماً بأنني اطلعت على غالبية هذه الردود –التي كتبها المخالفون للشيخ الدهنين حول موضوع الشعائر- ووجدتها في مجملها ردوداً جميلة وموفقة إلى حد كبير، ومن الظلم والإجحاف تجاهل ذلك واستغلال بعض الأخطاء أو التجاوزات المحدودة التي قد صدرت من البعض في بعض الموارد اليسيرة، بحيث يتم التركيز عليها وإظهارها وكأنها تمثل الحالة العامة، إذ لا مبرر للتغافل عن الجوانب الأخرى التي لا توجد فيها أية تجاوزات، لأن هذه الجوانب تمثل الأصل في هذه الردود بينما ما عدها لا يمثل إلا الاستثناء.
لذلك عزمت بعد التوكل على الله سبحانه وتعالى أن أتناول مسألة الشعائر لمناقشة ما طرحه الشيخ الدهنين حولها، وذلك تضامناً مني مع خط الوعي المتمثل في بعض العلماء من أساتذة الحوزة العلمية، وبعض المثقفين والشباب المتنورين الذين أعلنوا عن رفضهم واستنكارهم لهذا الطرح، ولكي لا يتوهم متوهم بأن التيار الرافض ضعيف من الناحية العلمية أو أنه لا يجيد إلا كيل الاتهامات وتوجيه الإساءات الشخصية كما يحاول أن يروج البعض.
وقفات هادئة مع الشيخ الدهنين حول الشعائر
هناك العديد من الملاحظات التي سجلتها على محاضرة الشيخ الدهنين –حفظه الله- في الليلة الأولى من شهر محرم لهذا العام 1436هـ، ولكن لن أتناولها بأجمعها، وإنما سأتناول فقط تلك الملاحظات المتعلقة بمسألة الشعائر، وسيكون ذلك من خلال الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: (ضوابط الجزع على الحسين (ع)
تحدث الشيخ الدهنين عن مسألة الجزع على الإمام الحسين (ع) بقوله: “الجزع هو أن تخرج عن المألوف في المصيبة، تخرج عن المتعارف، تضرب برأسك الحائط، تشق جيبك، هذا نوع من أنواع الجزع، حتى لو كان الميت من أقرب الناس إليك، لو كان الميت الأب أو الأم لا تشق الجيب هذا جزع، مكروه، ولكن على سيد الشهداء الجزع مستحب، البكاء مستحب، بل إقامة شعائر الإمام الحسين عليه السلام بشكل عام فيها وجوب كفائي، لو لم يقم بها البعض لوجب عليك أن تقوم به، أما بشكل مفصل بلحاظ كل المفردات فهي مستحبة”[3].
وأردف بقوله: “البكاء على سيد الشهداء، تعظيم الشعائر، إقامة المآتم على الحسين صلوات الله وسلامه عليه، البكاء في مثل هذه الأيام على سيد الشهداء، أمر مستحب وندب عليه الأئمة الأطهار سلام الله عليهم (إظهار الجزع)، الأئمة لما يقولون إظهار الجزع جائز، ولم يعينوا له لون من الألوان، فإذن –أسمعني- أي مظهر من مظاهر الجزع جائز، لا موبس جائز راجح[4].
المناقشة
إن قول الشيخ الدهنين بأن (أي مظهر من مظاهر الجزع جائز بل وراجح) على الإمام الحسين (ع) كلام خطير جداً، وذلك لأنه أطلق الكلام وجعله عاماً بلا أي ضوابط أو قيود، وهذا الكلام باطل جزماً ولا يمكن القبول به على إطلاقه، فمن الضروري جداً أن تكون هناك ضوابط للجزع حتى لو كان هذا الجزع على الإمام الحسين (ع)، لأن أفعال الإنسان وتصرفاته لا تخرج عن الأحكام الفقهية الخمسة المعروفة (الواجب، المستحب، الجائز، المحرم، المكروه)، والجزع على الإمام الحسين (ع) خاضع أيضاً لهذه الأحكام، فقد يكون مستحباً وقد يكون محرماً في بعض الحالات، ولذا من المهم ذكر الضوابط التي لا تجعل الجزع يدخل في حكم الحرمة. ولذلك سوف نستعين لإثبات بطلان كلام الشيخ الدهنين بذكر بعض الأمثلة التي من خلالها سوف يتضح بأن الجزع في بعض الموارد قد يكون محرماً، وذلك فيما يلي:
مثال1/ لو افترضنا جدلاً أن شخصاً جزع على الإمام الحسين (ع) ومصيبته لدرجة وصل به الحال للاعتراض على حكم الله وعدم الرضا بقضائه سبحانه وتعالى لحدوث ما حدث للإمام الحسين وأهل بيته (ع)، ففي هذه الحالة، هل يمكن أن يُقال بأن هذا النوع من الجزع جائز أو راجح دون ذكر لأي ضوابط أو قيود كما فعل الشيخ الدهنين؟!
مثال2/لو افترضنا أن شخصاً جزع على الإمام الحسين (ع) وأوصله جزعه لقتل نفسه والجناية عليها أو لقتل غيره والجناية عليه، فهل يمكن أن يُقال بأن هذا النوع من الجزع جائز أو راجح كما ذكر الشيخ الدهنين؟!
مثال3/لو افترضنا أن شخصاً جزع على الإمام الحسين (ع) وقام بالاعتداء على الآخرين نتيجة لجزعه كقيامه بضربهم أو بالتهجم عليهم ونحو ذلك من الأفعال، فهل يمكن أن يُقال بأن الجزع في هذه الحالة جائز بل وراجح كما يقول الشيخ الدهنين؟!
مثال4/ لو فرضنا أن شخصاً جزع على الإمام الحسين (ع) ولم يعتدِ على أحد ولم يوصله جزعه للجناية على نفسه أو على غيره كما في الأمثلة السابقة، ولكن جزعه أخرجه عن توازنه لدرجة قام فيها بالتعري أمام الآخرين، فهل من الممكن أن يُقال بأن هذا النوع من الجزع جائز أو راجح كما ذكر الشيخ الدهنين؟!
مثال5/ لو فرضنا أن شخصاً جزع على الإمام الحسين (ع) ولم يعتدِ على الآخرين ولم يجني على نفسه، وإنما أظهر شيئاً سبب إساءةً وهتكاً للمذهب –طبعاً لم أحدد المصداق وإنما افترضت وجود شيءٍ من هذا القبيل وهو متفق عليه بين الجميع- فهل يمكن أن يُقال بأن هذا النوع من الجزع جائز أو راجح دون تحديد أي ضوابط أو قيود كما فعل الشيخ الدهنين؟!
إذاً، اتضح لنا من خلال الأمثلة السابقة بأن الجزع على الإمام الحسين (ع) لا يمكن أن يكون بكل ألوانه ومظاهره جائزاً أو راجحاً كما ذكر الشيخ الدهنين، فهذا القول باطل جزماً، ولا يمكن القبول به، وذلك لأن بعض مظاهر الجزع محرمة شرعاً.
الوقفة الثانية: (لا علاقة بين رجحان الجزع وثبوت التطيين كشعيرة)
بعد أن أسس الشيخ الدهنين لقاعدة مفادها أن (أي مظهر من مظاهر الجزع جائز بل وراجح) على الإمام الحسين (ع) على حد تعبيره دون أن يذكر أية ضوابط أو قيود، وذلك بالاستناد إلى كون الأئمة (ع) قد حثوا شيعتهم على إظهار الجزع و(لم يعينوا لهم أي لون من الألوان) كما يقول، فبعد ذلك انتقل للدعوة لممارسة التطيين باعتبارها من مظاهر الجزع، وذلك في قوله: “نعم، يعني افرض أن تضع الطين على رأسك، ها قد واحد يقول هذه شعيرة مو منصوصة هذه شنو هذه خرافة بدعة، لا، لا خلافة ولا بدعة، وضع الطين وضع كذا يوم العاشر ليلة العاشر زين، يا أخي أنا أريد أن أعبر عن حالة الجزع إلي عندي، أريد أن أعبر عن هالحالة بهذا المظهر، تعبير، تعبير فما هو الممنوع، ما كو مانع”[5].
المناقشة
نلاحظ هنا أن الشيخ الدهنين لم يحدد المراد من الشعائر ولم يحدد ضوابط لها، ومع ذلك فإنه كان يتكلم عن ممارسة التطيين باعتبارها من الشعائر، ولذا كان عليه أن يتكلم عن الشعائر أولاً، وذلك لكي نستطيع بعدها من معرفة مدى انطباق عنوان الشعيرة على ممارسة التطيين ونحوها من الممارسات الأخرى.
كذلك نلاحظ أن الشيخ الدهنين قد خلط بين الجزع والشعيرة، وكأنه أراد أن يقول إن كل جزع شعيرة من الشعائر، مع ملاحظة أنه ذكر سابقاً بأن (أي مظهر من مظاهر الجزع جائز بل وراجح)، فهل هذا يعني أنه يرى أن كل مظهر من مظاهر الجزع دون قيود أو شروط هو شعيرة من الشعائر أيضاً؟!
في اعتقادي أن الجزع هو حالة انفعالية عفوية غير مخططة، ولذا قد يكون ما يمارس بطريقة مخططة وبوعي تام ليس من الجزع في شيء كالتطيين وشق الجيب وما شابه ذلك، وهذا هو ما أكد عليه الشيخ حيدر حب الله بقوله: إن الجزع “أمرٌ قلبي لا مجرّد استعراض ظاهري، فإذا لم يصدر التطيين عن انفعال باطني عفوي ناتج عن انهيار عصبي أو شبه انهيار، فليس جزعاً وإنّما هو تجازع، فلاربط بين هذه الظواهر ومفهوم الجزع إلا مع صدورها عن حالة عاطفيّة هائلة تدفع للفعل بطريقة أشبه بغير الواعية من شدّة الضغط النفسي على الشخص. نعم، إذا قيل بأنّ دليل شرعيّة الجزع يشمل بروحه التجازع أمكن الأمر”[6].
بناءً على ما سبق، من الممكن أن يتظاهر الإنسان بالجزع، ولكنه غير جازع بالفعل، فإظهار الجزع لا يعني بالضرورة حدوث الجزع فعلاً، فمن يُظهر السعادة مثلاً لا يعني بأنه سعيد بالفعل، وكذلك الحال بالنسبة لإظهار الحزن والغضب وغيرها من الانفعالات والتفاعلات الأخرى التي تظهر على وجه الإنسان، ولذلك قد يفعل البعض هذه الممارسات (كالتطيين وشق الجيب ونحوها) كأداء تمثيلي أشبه ما يكون بالعمل المسرحي، لأنه في واقعه ليس جازعاً فعلاً، فهل يا ترى سيكون هذا الفعل في هذه الحالة شعيرة من الشعائر الراجحة عند الشيخ الدهنين؟! علماً بأنه ممن الممكن ممارسة مثل هذه الممارسات للتجربة أو للعبث أو لأي أمر آخر غير الجزع على الإمام الحسين (ع)، ألا يكون من يمارس هذه الأمور في هذه الحالات -أي حالات عدم الجزع الفعلي- كمثل من يشارك في مهرجان التراشق بالطماطم الذي يجري سنوياً بأسبانيا وهذا الكلام ليس من أجل الإساءة لهم والعياذ بالله، وإنما من أجل إثبات بأن هذه الممارسة قد تكون كمهرجان (للتطيين) على قرار مهرجان التراشق بالطماطم، ويمكنكم الرجوع إلى المواقع عبر الانترنت للمقارنة بين صور المشاركين بعملية التراشق بالطماطم وبين صور المشاركين في ممارسة التطيين لتلاحظوا التشابه بينهما.
إن الجزع من الموضوعات العرفية، ولهذا لا يصح أن يكون أي ممارسة مظهراً من مظاهر الجزع، إلا إذا أقر العرف بذلك، فلو رجعنا للعرف فهل يرى بأن ممارس التطيين من مصاديق الجزع أم لا؟! في الحقيقة أشك في كون التطيين من مصاديق الجزع عرفياً على الأقل في واقعنا المعاصر. نعم، قد يكون حثو التراب على الرأس من مصاديق الجزع عرفياً، وبالخصوص في الأزمنة السابقة، ولذا لو كان الداعين لممارسة التطيين ومنهم الشيخ الدهنين يدعون لحثو التراب على رؤوسهم وسموا هذه الممارسة شعيرة التغبير (نسبة للغبار) أو التتريب (نسبة للتراب) أو الترميل (نسبة للرمل) -إن صح التعبير- لكان ذلك كما أعتقد أقرب لمصداق الجزع عرفياً من التطيين.
لو فرضنا ثبوت كون ممارسة التطيين من مصاديق الجزع عرفياً، فإن هذا لا يعني ثبوت كونه شعيرة من الشعائر الدينية، أولاً: لأن الشعائر مختلف حولها عند العلماء، فهناك من يرى بتوقيفية الشعائر، وعلى رأي هؤلاء فإن التطيين لا يمكن أن يكون شعيرة. ثانياً: حتى من لا يرى توقيفية الشعائر، فلا بد من تحول ممارسة التطيين إلى شعار وعلامة بارزة تشير إلى الدين لكي تكون شعيرة من الشعائر الدينية، وهذا ليس كلامي وإنما كلام الشيخ حيدر حب الله حيث يقول: “لابدّ أن يتحوّل -(أي ممارسة التطيين والنطح ونحوه)- إلى شعار وعلامة بارزة تشير إلى الدين والقيم الدينية والشخصيّات الدينية المقدّسة، فلو فعل شخصٌ النطح في بيته مرّةً واحدة لم يصر الفعل شعيرةً، ولو كان الفاعل مرجعاً دينيّاً، بل لابدّ من خروجه إلى حيّز الظهور ليكون معلماً بارزاً لهذا الدين، كما في مثل الشهادة الثالثة أو التطبير أو غير ذلك، فإذا بلغت ظاهرة التطيين أو النطح هذا المبلغ وتحقّقت فيها الشروط المتقدّمة، صارت شعيرة مرغوبة في الدين وفقاً للرأي الثاني”[7].
نلاحظ أن الشيخ الدهنين ربط بين الشعيرة من جهة، والخرافة والبدعة من جهة أخرى بشكل غريب جداً، بحيث صور الأمر وكأن أي ممارسة لم يثبت كونها بدعة أو خرافة، فهي تعني أنها شعيرة من الشعائر إذا تم ممارستها من أجل الإمام الحسين (ع)، وهذا بالتأكيد غير صحيح، إذ لا توجد ملازمة بين عدم ثبوت عنوان البدعة عليها وبين ثبوت كونها شعيرة من الشعائر.
استنكر الشيخ الدهنين وصف ممارسة التطيين ونحوها بالبدعة، وهذا الاستنكار ليس في محله، فمثلاً من الطبيعي أن يرى من يتبنى (توقيفية الشعائر) بأن هذه الممارسة (التطيين ونحوها) بدعة، وذلك لأن الشعائر بحسب هذا المبنى لابد وأن تصدر من الشارع المقدس، بحيث يجب التعبد بها كما وردت (بلا أي تغيير أو تبديل أو زيادة أو نقيصة)، لأن فعل أي أمر من هذا القبيل يعد بدعة محرمة في الدين، نظراً لكونه إدخال في الدين ما ليس من الدين.
قد يقول قائل: بأن ممارسة التطيين ونحوها من الممارسات حتى ولو لم يثبت استحبابها بالعنوان الأولي، إلا أنه قد يثبت استحبابها بالعنوان الثانوي، وذلك إذا كان بنية المواساة للإمام الحسين (ع). ورغم كوننا نتكلم عن العنوان الأولي وليس عن العنوان الثانوي، ولكن مع ذلك فإن هذا الكلام لا علاقة له بموضوع الشعائر أيضاً، فحتى لو ثبت بالعنوان الثانوي استحباب هذه الممارسات ورجحانها، فهذا لا يعني بأنها قد أصبحت شعيرة من الشعائر الدينية، وأرجوا التأمل ثانية في كلام الشيخ حب الله الذي استعرضناه آنفاً حول الشعائر لكي لا نقع في الخلط هذا أولاً. وثانياً أن ممارسة هذه الممارسات كما يمكن ادعاء استحبابها بالعنوان الثانوي بنية المواساة للإمام الحسين (ع)، فإنه يمكن أن يدعي البعض حرمتها بهذا العنوان أيضاً، لأنها قد تسبب –بحسب تشخيصه- هتكاً وإساءةً للمذهب.
من المفيد أن أنقل ما ذكره سماحة الشيخ عبدالعزيز المزراق تعليقاً على الدعوة لممارسة التطيين ونحوه، حيث قال: “ما ذكر للاستدلال على رجحان التطيين استحسان لا يصلح دليلاً؛ إذ هذا ليس واحدًا من الأدلة الأربعة، ولو أخذ هذا طريقاً للرجحان لأخذ بكثير من طرق المعدان التي حصلت لهم بها كرامة من قبل الإمام أو أبي الفضل العباس أو أمه أو السيدة المعصومة وغيرهم. فإن شد الحزام ورمي الغتر على الضريح وشد الأقفال وربط الشباك وغيرها التي ربما حصل بعضهم على مراده بسبب حسن ظنه لا سبيل لأن يقال برجحان مثل هذه الطرق لمجرد شفي من خلال التوسل بها مريض أو قضيت حاجة”[8].
الوقفة الثالثة: (السيد البروجردي وشعيرة التطيين)
من أجل التدليل على صحة ممارسة التطيين وكونها من الشعائر، نقل الشيخ الدهنين حكاية عن السيد البروجردي بقوله: “أصيب السيد البروجردي رحمه الله وهو في بيته في بروجرد، أصيب بمرض في عينه، وقد عجز الأطباء عن معالجته، ورجل كبير السن، نعم، فبقي مريضاً لاحول له ولا قوة، إلى أن جاءت أيام عاشوراء، أيام عاشوراء في بروجرد في اليوم العاشر أهالي بروجرد، عندهم مواكب عزاء يبكون على الحسين ويلطمون وعندهم هالظاهرة يضعون الطين على رؤوسهم، الطين مو من كربلاء، من بروجرد، يضعون الطين على رؤوسهم فجاؤوا وقد وضعوا الطين على رؤوسهم ودخلوا على السيد البروجردي يعزونه ويلطمون، فقام السيد متهيباً ومظهراً للحزن على الحسين ويبكي ويلطم معهم، ومر عليه المعزون وأخذ من الطين، الله أكبر أخذ من الطين الموجود مو على ضريح الحسين أخذ من الطين الموجود على وجوه المعزين ووضعه على عينه فبرأت، الله أكبر، برأت عين السيد البروجردي حتى كتبت عن برء عينه بعض جرائد إيران، يقول الطب متعجب كيف أن رجل يفوق عمره الثمانين سنة ويطالع في أدق الكتب، ويقرأ أدق الحروف وبدون نظارة هذا الوضع مو طبيعي، قال هذا من الطين الذي على على قبر على رؤوس المعزين على الحسين.”[9].
المناقشة
هناك اختلاف في تفاصيل قصة السيد البروجردي بين الشيخ الدهنين والشيخ الوحيد الخراساني، حيث ينقل الأخير القصة كما يلي: “آية الله البروجردي هذا الفقيه المتبحر الراقد جانبنا هذا الرجل بقي متنعماً بالقدرة على قراءة أنعم الخطوط وأصغرها إلى أواخر سني كهولته وقد نقل قصته في سبب ذلك فقال: لقد أصيبت عيني بمرض وكلما حاولت معالجتها لم أفلح، إلى أن تشرفت بزيارة العتبات المقدسة ولما وصلت البصرة ركبت القطار وفي المكان الذي صعت فيه، صعد معي مجموعة من مشاة الزوار (المشاية) قاصدين زيارة سيد الشهداء (ع)، وكان أحدهم قد استغرق في النوم، فقمت وأخذت قليلاً من ذلك الطين العالق بين أصابع قدمي هذا الزائر، ومسحت بها كلتي عيني المجروحتين وما إن كحلت عيني بذلك الطين حتى زال وجع عيني ولم احتج إلى نظارات إلى هذا اليوم، هذه هي معرفة وعلم هذا الفقيه المتبحر أن من لا يمتلك من المعرفة ما يجعله يدرك ويستوعب أن طين أرجل زوار قبور العترة الطاهرة، شفاء من كل داء، هو من يتفوه بهذا الكلام (المشي حافياً يخالف قواعد الصحة)”[10].
فهذه القصة تختلف في تفاصيلها عن القصة التي نقلها الشيخ الدهنين، لأن الشيخ الدهنين ينقل بأن السيد البروجردي أخذ الطين ممن يمارسون التطيين في بروجرد، بينما الشيخ الوحيد الخراساني يقول بأن السيد البروجردي أخذ من الطين العالق بين أصابع قدمي أحد الزوار (المشاية) وهو في طريقه لزيارة العتبات المقدسة، وعلى الرغم من هذا الاختلاف الحاصل، فإن القصتين على اختلاف تفاصيلها لا تدل على ممارسة السيد البروجردي للتطيين فضلاً عن كونه يعتبرها مستحبة أو شعيرة من الشعائر، لأن كل ما تثبته القصتين هو حصول الشفاء للسيد البروجردي ككرامة له ببركة الإمام الحسين (ع)، ومن المعلوم بأن حصول الكرامة لا يثبت الاستحباب ناهيك عن إثبات الشعيرة.
كذلك وجدت هذه القصة منقولة في كتاب قصص وخواطر للشيخ المهتدي البحراني، وهي تشبه إلى حد ما ما ذكره الشيخ الدهنين، حيث نقلها كالتالي:”قال المرجع الشهير المرحوم آية الله العظمى السيد البروجردي رحمه الله: لما كنت في بروجرد (مدينة بإيران) كنت أعاني من ألم شديد في عيني، فراجعت الأطباء ولكنهم يئسوا من علاجي، ففي أيام عاشوراء حيث كانت العادة ان تأتي بعض مواكب العزاء الى بيتنا، جلست أبكي في المجلس الحسيني وكانت عيني تؤلمني بشدة وبينما كنت في تلك الحالة اذ خطر ببالي أن أمس التراب الذي كان على وجوه واجسام المعزين وأمسحه بعيني علها تبرأ. ففعلت ذلك دون أن يلتفت الى أحد هناك، وما أن مسحت به على عيني حتى شعرت بتخفيف الألم، وأخذت عيناي تتماثلان للشفاء شيئاً فشيئاً حتى زال الألم تماماً ولم بعد إلى اليوم، بل صرت أرى بجلاء أفضل دون الحاجة إلى النظارة. هذا والغريب أن المرحوم البروجردي رحمه الله لما بلغ من العمر التاسعة والثمانين، قام بعض الأطباء الأخصائيين بفحص عينيه، فلم يجدوا فيهما ضعفاً، حتى قالوا إن الأعراف الطبية تقتضي ضعف عين الإنسان في هذا العمر، فكيف بإنسان أنهك عينه طوال هذه السنوات في القراءة والكتابة، وكان يعاني ضعفاً وألماً في عينيه سابقاً. إنها ليست الا معجزة الحسين (عليه السلام)”[11].
وهذه القصة أيضاً لا تدل على أن ممارسة التطيين مستحبة أو شعيرة من الشعائر عند السيد البروجردي، كما لا تدل أيضاً على أنه قد مارس التطيين، بل على العكس من ذلك، إذ فيها ما يدل على أنه لم يدعُ لممارستها، لا أقول بأنه يحرمها أو لا يعتمدها فذاك أمر آخر، وإنما أقول إنه لم يدعُ لممارستها فضلاً عن كونه يؤمن بكونها شعيرة من الشعائر، حيث ورد فيها كما مر بنا أن السيد البروجردي عندما أخذ من الطين قال: “ففعلت ذلك دون أن يلتفت الى أحد هناك” فهذا القول يدل على أنه لم يمارس التطيين ولم يدعو لممارسته فضلاً عن كونه يعتقد بأنه شعيرة من الشعائر، وهل يفعل الإنسان الشعيرة دون أن يلتفت إليه أحد؟ !! ولذلك فإن كل ما تدل عليه هذه القصة برواياتها الثلاث (رواية الشيخ الدهنين، رواية الشيخ الوحيد الخراساني، رواية الشيخ المهتدي البحراني) هو حصول الكرامة من الله سبحانه وتعالى للسيد البروجردي ببركة الإمام الحسين (ع).
من الغريب جداً أن يستشهد الشيخ الدهنين بقصة السيد البروجردي لإثبات كون ممارسة التطيين ونحوه من الشعائر، وذلك لأن السيد البروجردي كما هو معروف عنه يحرم تقبيل أضرحة المعصومين (ع)، لأنه يرى بأنها تسبب تشويهاً للمذهب، فكيف يحرم تقبيل الأضرحة وهو أمر راجح لهذا السبب في حين يزج الشيخ الدهنين باسمه للتشجيع على ممارسة التطيين باعتبارها شعيرة راجحة؟!
كذلك من الغريب أن يعتمد الشيخ الدهنين على القصص والحكايات –حتى لو كانت ثابتة ولها الدلالة التي يريدها- على إثبات المسائل الشرعية، وكأنها عنده من مصادر التشريع، ولا أدري هل يمكن اعتبار هذا بداية لفتح المجال لأدلة جديدة باسم (أدلة التسامح في الحكايات والقصص) بالإضافة إلى (أدلة التسامح في السنن) أم ماذا بالضبط؟ !!
من المهم كذلك الالتفات إلى ما ذكره الشيخ عبدالعزيز المزراق تعليقاً على الاستشهاد بهذه القصة على ممارسة التطيين، حيث ذكر ما يلي: “وما حدث للسيد البروجردي (قدس) ففيه:
أولاً: أنه (قدس) لم يأخذ الطين من رؤوس المطينين في بروجرد كما ذكر بل كان (قدس) مسافرًا إلى العتبات العاليات في العراق وفي البصرة بالتحديد رأى رجلاً نائماً من زوار الحسين (ع) وعلى رجله تراب فأخذ السيد من ذلك ومسح به عينيه. فلا ورود للمطيّنين أصلاً.
ثانياً: على فرض وقوعها هي حادثة فردية لا يمكن تعميمها أو تعميم الأسلوب الذي اتخذه فيها خاصة مع مثل السيد البروجري (أعلى الله مقامه) الذي كان يهتم كثيراً للبعد عما يشوه المذهب ففتواه بحرمة الكتابة على التربة الحسينية وغيرها معروفة لمجرد أن لا يستغلها الآخرون لتشويه المذهب”[12].
الوقفة الرابعة: (السيد السيستاني وممارسة التطيين)
بعد أن بيّن الشيخ الدهنين رأيه في ممارسة التطيين، واعتبرها من الشعائر الثابتة دون أن يناقشها، بعد ذلك نجده استشهد بكلام للسيد السيستاني بخصوص الشعائر، حيث قال: “أيها الشيعي أيها الأخ الكريم، قضية الشعائر كما قال مولانا السيد السيستاني الله يحفظه، يقول: (يجب تعظيم الشعائر ولا تصغوا إلى من يحاول أن يهون منها، أو يقلل من شأنها)، لا تصغوا أبداً أبداً خلي عندك قضية الشعائر خط أحمر، هذا قول منو، مو قول مثل ما تقول بعض المجلات التجارية هذا قول الملالي ليتاجرون بالدمعة، نعم ما يخافون من الله، ولكن لهم موقف يحاسبهم الحسين يوم القيامة، يحاسبهم الحسين يوم القيامة، هذا قول المراجع، ليش أقول يحاسبهم الحسين، لأن الحر العاملي نعم في كتاب وسائل الشيعة يقول أن الحسين بعد أن استشهد موجود تحت ساق العرش ينظر إلى زواره وينظر إلى مصرعه وينظر إلى الباكين عليه، فيستغفر لهم، ألا تحبون أن يستغفر لكم الحسين، إذن فبكوا الحسين، والطموا رؤوسكم على الحسين، واضربوا صدوركم على الحسين، ونادوا حسين واحسيناه… وأوجع صدرك ولا تصغوا إلى أي أحد، أي أحد إلا إلى مراجعكم، مراجعكم جميعاً يقولون الطموا على الحسين، ابكوا على الحسين، يقول الإمام الرضا، إن يوم الحسين اقرح جفوننا، يعني خرج الدم، إن يوم الحسين أسبل دموعنا”[13].
المناقشة
نلاحظ كيف أن الشيخ الدهنين زج باسم السيد السيستاني وحديثه عن الشعائر بعد ما أكد على ما يسميه بشعيرة التطيين مما قد يوحي إلى ذهن السامع بأن السيد السيستاني كان يقصد بالشعائر في قوله: (يجب تعظيم الشعائر، ولا تصغوا إلى من يحاول أن يهون منها، أو يقلل من شأنها) ممارسة التطيين ونحوها من الممارسات الأخرى، وهذا بالتأكيد غير صحيح، لأن كلام السيد السيستاني كما يظهر كان عن الشعائر بوجه عام، ولم يكن عن التطيين ونحوه حتى يتم استعراضه بهذا النحو، وإثبات خلاف ذلك يحتاج إلى دليل.
بناءً على ما تقدم، كان من المفترض أن يحدد لنا الشيخ الدهنين مفهوم الشعائر عند السيد السيستاني، ومن بعدها يحاول الانتقال وتطبيق ذلك على ممارسة التطيين ونحوه، وذلك ليثبت هل يصدق على هذه الممارسة ونحوها عنوان الشعائر عند السيد السيستاني أم لا؟!.
من المعروف أن السيد السيستاني متوقف في مسألة التطبير، ولا يعلم موقفه منها إلى الآن، فهل بعد علمنا بهذا الأمر نتوقع منه أن يدلي برأيه في مسألة التطيين ونحوه وهي مسائل أقل أهميةً وانتشاراً ؟ !!
لو تنزلنا وفرضنا أن السيد السيستاني كان يقصد بالشعائر أو من ضمنها ممارسة التطيين ونحوها من الممارسات، فهل يلزم رأيه هذا من لم تثبت عنده كون هذه الممارسات من الشعائر كبعض العلماء والمراجع الآخرين ومن يتبعهم؟! وعلى الفرض نفسه هل كان السيد السيستاني يقصد بـ “ولا تصغوا إلى من يحاول أن يهون منها أو يقلل من شأنها (أي الشعائر)” المراجع والعلماء الذين يرون بأن مثل هذه الممارسات ليست شعيرة من الشعائر أو الذين يحرمون ممارستها لكونها تسبب هتكاً للمذهب؟!! هذا ما لم يوضحه الشيخ الدهنين في كلامه.
بناءً على ما سبق، يكون ما فعله الشيخ الدهنين تجاهل لآراء العديد من العلماء والمراجع الذين يخالفونه فيما طرحه حول مسألة الشعائر، حيث تجاهل من يتبنى (توقيفية الشعائر)، وكذلك من يفتي بـ (تحريم بعض هذه الممارسات لأنها تهتك وتوهن المذهب)، ولا أدري هل أنه بهذا الأمر لا يعترف بمرجعية من يرون ذلك أو أنه يشكك في مشروعية تقليدهم؟ أم ماذا بالضبط؟!! لأن هذه المسألة مبنائية وقد يختلف حولها العلماء لاختلافهم في مبانيهم الفقهية، وكذلك قد يختلفون حولها لاختلافهم في تشخيصها.
كذلك نلاحظ أن الشيخ الدهنين كان يخلط في كلامه كثيراً، فكان أحياناً يخصص حديثه بممارسة التطيين ونحوه من الممارسات باعتبارها من الشعائر، وبعدها يدخل في الحديث عن اللطم والبكاء، بحيث يتحدث عن كل هذه الممارسات ويعتبرها من الشعائر ويعطيها حكماً واحداً، وهذا النحو من الحديث غير صحيح، إذ كان عليه أن يفصل الحديث عن كل ممارسة من هذه الممارسات، ويبين حكم كل ممارسة منها على حدة، لأن من لا يرى مشروعية ممارسة التطيين كشعيرة لا ينفي ولا يشكك في مشروعية البكاء واللطم ونحوه، فكيف يدمج ويخلط في الحديث عن كل هذه الأمور بأجمعها ويعطيها حكماً واحداً؟!!
الوقفة الخامسة: (شق الجيب شعيرة مغفول عنها)
بعد حديثه السابق؛ انتقل الشيخ الدهنين للحديث عن شعيرة مغفول عنها على حد تعبيره، وهي ما أسماه بشعيرة شق الجيب، حيث يقول: “يقول الإمام الصادق الآن راح أخاطب النسوان، أنا أدري في هذا المأتم نسوان كثير علويات وغير علويات، تدرون وش يقول الإمام الصادق يقول: هناك شعيرة مغفول عنها، الناس غافلة عنها، شنهي يا مولاي يا سيدي يا جعفر ابن محمد يقول: أما تدرون أن شق الجيوب على الحسين، أما تعلمون أن زينب شقت جيبها على الحسين، أما تعلمون أن الفواطم شققن الجيوب على الحسين…”[14].
ويواصل حديثه بقوله: “شيخ الطائفة الطوسي يقول شق الجيب يعني المرأة يموت ولدها، يموت زوجها لا تشق الجيب، ابكي على عزيزك، على زوجك، على ولدك، ولكن لا تشقين الجيوب، أما على الحسين يقول: فلقد شققن الفواطم على الحسين الجيوب ولطمنا الخدود، فعلى مثله فالتشق الجيوب ولتلطم الخدود…”[15].
المناقشة
نلاحظ من العرض السابق أن الشيخ الدهنين كان يتكلم عن لسان الإمام الصادق (ع) ويسند كلامه له مباشرة، وذلك عندما قال: “الإمام الصادق يقول: هناك شعيرة مغفول عنها، الناس غافلة عنها، شنهي يا مولاي يا سيدي يا جعفر ابن محمد يقول: أما تدرون أن شق الجيوب على الحسين، أما تعلمون أن زينب شقت جيبها على الحسين، أما تعلمون أن الفواطم شققن الجيوب على الحسين…”[16]، والتحدث عن لسان المعصومين مباشرة بهذا الشكل غير صحيح، فمن المعروف أنه لا يجوز نقل رواية ونسبتها للمعصومين (ع) مباشرة إلا إذا كانت هذه الرواية ثابتة أولاً، وتم نقلها بألفاظها ثانياً، وأما في غير هذه الحالات فلا يجوز ذلك. وسوف ننقل نص هذه الرواية بألفاظها كما وردت في مصدرها فيما يلي: روى محمد بن عيسى عن أخيه جعفر بن عيسى عن خالد بن سدير أخى حنان بن سدير قال: سألت ابا عبد الله عليه السلام عن رجل شق ثوبه على أبيه أو على امه أو على اخيه أو على قريب له فقال: لا بأس بشق الجيوب. قد شق موسى بن عمران على أخيه هارون، ولا يشق الوالد على ولده ولا زوج على امرأته، وتشق المرأة على زوجها وإذا شق زوج على امرأته أو والد على ولده فكفارته حنث يمين ولا صلاة لهما حتى يكفرا ويتوبا من ذلك، وإذا خدشت المرأة وجهها أو جزت شعرها أو نتفته ففي جز الشعر عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً، وفي الخدش إذا دميت وفي النتف كفارة حنث يمين، ولا شيء في اللطم على الخدود سوى الاستغفار والتوبة، وقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين بن علي عليهما السلام، وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب”[17].
كذلك نجد أن الشيخ الدهنين أشار إلى هذه الرواية، ولكنه لم يناقشها من ناحية ثبوتها من عدمه، علماً بأن هناك رواية تعارضها وهي ما رواه الشيخ المفيد في الإرشاد: عن عليِّ بن الحسين (ع): إنَّ الحسين (ع) قال لأخته زينب: “يا أختاه إني أقسمتُ عليك فأبرِّي قسمي، لا تشقِّي عليَّ جيباً، ولا تخمشي عليَّ وجهاً، ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت”[18]. وإذا قيل بأن هذه الرواية ضعيفة لأنها مرسلة، فنقول:
أولاً:بأنها قد تقوى بالتعاضد بروايات أخرى تنهى عن ممارسة هذه الأمور.
ثانياً: أن الرواية التي أشار لها الشيخ الدهنين لإثبات شعيرة شق الجيب كما يعتقد هي أيضاً رواية ضعيفة، وذلك لورود خالد بن سدير في سندها وهو مجهول الحال، وبحسب تعبير السيد الخوئي عنه: “فلا اعتماد على الرجل لجهالته” [19].
كما تحدث السيد الخوئي عن شق الجيب وأشار إلى هذه الرواية بقوله: “نعم استثنى الأصحاب من حرمة تلك الأمور، الاتيان بها في حق الأئمة والحسين عليهم السلام مستندين فيه إلى ما فعلته الفاطميات على الحسين بن علي بن لطم الخد وشق الجيب – كما ورد في رواية خالد بن سدير. وهذا لا يمكن المساعدة عليه لأنها على تقدير حرمتها مطلقة والرواية الدالة على صدورها من الفاطميات ضعيفة السند ولا يمكن الاعتماد عليها. والذي يسهل الخطب أنها أفعال لم تثبت حرمتها مطلقاً، إذن لا مانع شرعا من الاتيان بها في مصائب الأئمة الطاهرين عليهم السلام وغير الأئمة”[20]. فأرجوا التأمل في كلام السيد الخوئي بأن الرواية التي أشار إليها الشيخ الدهنين لإثبات شعيرة شق الجيب -كما يسميها- ضعيفة السند ولا يمكن الاعتماد عليها كما يقول السيد الخوئي، هذا فضلاً عن ثبوت كونها شعيرة من الشعائر ! وهذه الأفعال لم تثبت حرمتها عند السيد الخوئي (في مصائب الأئمة الطاهرين عليهم السلام وغير الأئمة) كما يعبر، فحتى استثناءه لحرمتها لم يخصصه بمصائب الأئمة (ع).
بينا في الوقفة الرابعة، بأن الشيخ الدهنين كان يقول (استمعوا لمراجعكم) وحث على الأخذ من المراجع، ولكنه في حديثه حول ما يسميه بشعيرة شق الجيب تخلى عن هذا الأمر، لأنه لم ينقل كلام المراجع في هذا الأمر، وإنما ذكر آراءه الشخصية حول الرواية وممارسة شق الجيب دون مناقشتها، وكان الأحرى به أن ينقل للناس آراء المراجع حولها.
ذكر الشيخ الدهنين في معرض كلامه عن شق الجيب الشيخ الطوسي بقوله: “شيخ الطائفة الطوسي يقول شق الجيب يعني المرأة يموت ولدها، يموت زوجها لا تشق الجيب، ابكي على عزيزك، على زوجك، على ولدك، ولكن لا تشقين الجيوب، أما على الحسين يقول: فلقد شققن الفواطم على الحسين الجيوب ولطمنا الخدود، فعلى مثله فالتشق الجيوب ولتلطم الخدود…”. وقد يتوهم البعض من هذا الكلام بأن الشيخ الطوسي يؤيد شق الجيب على الإمام الحسين (ع) ويراه شعيرة من الشعائر وهذا غير صحيح، لأن الشيخ الطوسي يقول في كتابه المبسوط: “البكاء ليس به بأس، وأما اللطم والخدش وجز الشعر والنوح فإنه كله باطل محرم إجماعاً، وقد روي جواز تخريق الثوب على الأب والأخ ولا يجوز على غيرهم وكذلك يجوز لصاحب الميت أن يتميز من غيره بإرسال طرف العمامة أو أخذ مئزر فوقها على الأب والأخ فأما على غيرهما فلا يجوز على حال”[21]، فلم يتحدث في هذا المورد على شق الجيب على الحسين (ع) ولا يوجد لهذا الكلام أي أثر في كلاماته السابقة، طبعاً لا أقول بأن الشيخ الدهنين أراد أن ينسب إلى الشيخ الطوسي ذلك، ولكن خلطه بين كلام الشيخ الطوسي وحديثه على شق الجيب قد يتسبب في وقوع الالتباس ونسبة هذا الأمر للشيخ الطوسي.
الوقفة السادسة والأخيرة: (الشيخ الدهنين يخالف السيد الخوئي)
من المعروف أن الشيخ الدهنين يدعي بأنه يسير على منهج السيد الخوئي، وكثيراً ما ينزعج عندما يوجه النقد للسيد الخوئي أو لمنهجه، ولكنه في موضوع الشعائر يخالف السيد الخوئي تماماً، فعندما نرجع إلى عبارات الشيخ الدهنين ونقارنها بعبارات السيد الخوئي نجدها لا تنسجم معها نهائياً، ومن أجل إثبات ذلك سوف نقارن بينه وبين السيد الخوئي في النقاط التالية:
أولاً: من ناحية وجود الضوابط:
مر بنا أن الشيخ الدهنين قد أطلق كلامه حول الجزع وذكر بأن أي مظهر من مظاهر الجزع جائز بل وراجع ولم يذكر أية ضوابط، وذلك في قوله: “الأئمة لما يقولون إظهار الجزع جائز، ولم يعينوا له لون من الألوان، فإذن اسمعني أي مظهر من مظاهر الجزع جائز، لا موبس جائز راجح”[22].
وأما السيد الخوئي فهو يشترط لجواز ممارسة هذه الممارسات عدم وجود ضرر معتد به وعدم تسببه في وهن المذهب، حيث أجاب على هذا السؤال رقم 1404: ضرب السلاسل والتطبير من العلامات التي نراها في شهر (محرم الحرام) فإذا كان هذا العمل مضراً بالنفس، ومثيراً لانتقاد الآخرين فما هو الحكم حينئذ فأجاب السيد الخوئي بقوله: لا يجوز فيما إذا أوجب ضرراً معتداً به، أو استلزم الهتك و التوهين، والله العالم”[23].
من ناحية رجحان هذه الممارسات:
ويمكننا أن نقارن بين قول الشيخ الدهنين السابق حول رجحان أي مظهر من مظاهر الجزع بما يقوله السيد الخوئي من عدم رجحان كل الممارسات أو كل المظاهر، حيث قال رداً على السؤال التالي: “سؤال 1316: تعودنا في مجالس العزاء الندب بعد المجلس فما هو الدليل الشرعي لهذه الأعمال أو الاحاديث التي تثبت هذه المسائل، خصوصاً مسألة إسالة الدماء والضرب بالجنازير والسكاكين، وهل هذا كان على أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهل كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يفعل هذا مع شهداء بدر وخيبر وغيرهم؟ فأجاب السيد الخوئي: لم يثبت رجحان إسالة الدماء، نعم اللطم ونحوه أمر راجح[24]”.
فالسيد الخوئي يرى أن إسالة الدماء لم يثبت رجحانه، فضلاً عن كونها من الشعائر، ولكن الشيخ الدهنين يقول بأن كل مظهر من مظاهر الجزع ومنها ممارسة التطيين راجحة وتعد من الشعائر، وهنا نلاحظ الفرق الشاسع بينهما.
من ناحية استحبابها وشعاريتها:
كذلك يمكن مقارنة قول الشيخ الدهنين السابق بأن أي مظهر من مظاهر الجزع ومنها التطيين راجحة على الإمام الحسين (ع) وهي من الشعائر بقول السيد الخوئي بعدم ثبوت شعارية أو استحباب كل مظاهر الجزع، وذلك في إجابته على السؤال التالي: سؤال 1184: تفضلتم ـ سيدنا ـ بنفي الإشكال عن إدماء الرأس (التطبير) إذا لم يلزم منه ضرر، فقيل إنه لا يثبت أكثر من الإباحة، وعليه فهل إدماء الرأس (التطبير) مستحب لو نوى بذلك تعظيم الشعائر ومواساة أهل البيت عليهم السلام؟ حيث أجاب السيد الخوئي بقوله: “لم يرد نص بشعاريته فلا طريق الى الحكم باستحبابه، ولا يبعد أن يثيبه الله تعالى على نية المواساة لأهل البيت الطاهرين إذا خلصت النية”[25].
ولا يقول لنا قائل: بأن السيد الخوئي يرى استحباب هذه الأمور كالتطبير ونحوه بالعنوان الثانوي لما يلي:
أولاً: أن السيد الخوئي عندما سأل عن استحبابها بالعنوان الثانوي قال: “ولا يبعد أن يثيبه الله تعالى على نية المواساة لأهل البيت الطاهرين إذا خلصت النية”، حيث ذكر مفردة “لا يبعد” ولم يؤكد الاستحباب كما جاء في السؤال.
ثانياً: من الممكن أن تكون هذه الممارسات محرمة بالعنوان الثانوي عند السيد الخوئي إذا سببت هتكاً أو وهناً للمذهب، لأنه أجاب عن السؤال المتعلق بالتطبير بقوله: “لايجوز التطبير اذا كان فيه ضرر معتد به أو كان وهنا للمذهب”[26].
من ناحية الاعتماد على رواية شق الجيب
كذلك مر بنا أن الشيخ الدهنين تحدث عن شق الجيب ووصفها بأنها شعيرة مغفول عنها على حد تعبيره، وذلك استناداً إلى رواية مروية عن الإمام الصادق (ع) من أن الفاطميات شقوا جيبوبهم على الإمام الحسين (ع)، وأما السيد الخوئي فيرفض الاعتماد على هذه الرواية لإثبات عدم حرمة شق الجيب ونحوه، وإن كان يرى بأنها ليس محرمة شرعاً لا في مصائب الأئمة ولا في مصائب غيرهم، وذلك في قوله: “والرواية الدالة على صدورها من الفاطميات ضعيفة السند ولا يمكن الاعتماد عليها. والذي يسهل الخطب أنها أفعال لم تثبت حرمتها مطلقاً، إذن لا مانع شرعاً من الاتيان بها في مصائب الأئمة الطاهرين عليهم السلام وغير الأئمة”[27].
كلمة الختام
اتضح لنا من خلال الوقفات التالية ما يلي:
بطلان كلام الشيخ الدهنين بأن أي مظهر من مظاهر الجزع على الإمام الحسين (ع) جائز وراجح، وذلك لأن بعض مظاهر الجزع لا شك في حرمتها شرعاً.
لا علاقة بين الجزع وثبوت كون التطيين ونحوه شعيرة من الشعائر الدينية، لأن ثبوت الشعائر لها ضوابط أخرى.
عدم صحة استشهد الشيخ الدهنين بقصة السيد البروجردي على كون ممارسة التطيين ونحوها شعيرة دينية، وذلك لأن كل ما تدل عليه القصة هي حصول الكرامة للسيد البروجردي بركة الإمام الحسين (ع)، حيث لا تثبت كون هذه الممارسة شعيرة عند السيد البروجردي.
عدم صحة استشهاد الشيخ الدهنين بكلام السيد السيستاني حول الشعائر، لأن ما نقله عنه لا علاقة له بثبوت ممارسة التطيين ونحوها كشعيرة دينية، لأن كلام السيد السيستاني كان حول الشعائر بشكل عام وليس عن هذه الممارسات.
عدم صحة استناد الشيخ الدهنين إلى الرواية المروية عن الإمام الصادق لإثبات ما أسماه (بشعيرة شق الجيب)، لأن هذه الرواية ضعيفة سنداً ولا يمكن الاعتماد عليها كما يقول السيد الخوئي.
أن الشيخ الدهنين يخالف السيد الخوئي في موضوع الجزع والشعائر من عدة نواحٍ، فالسيد الخوئي يضع بعض الضوابط لجواز ممارسة بعض الممارسات، كما أنه لا يرى استحبابها ورجحانها، بل ولا يرى ورود نص لشعاريتها، وأما الشيخ الدهنين كما اتضح في أطروحته فيخالفه في هذه الأمور.
هذا ونسأل الله العلي القدير أن نكون قد وفقنا لبيان ذلك على الوجه الصحيح، وأن تعم الفائدة به عموم المؤمنين إنه على كل شيء قدير.
موقع السيد فضل الله