لم تكن تلك المرة الأولى التي يتكامل فيها جهد عماد مغنية ومصطفى بدر الدين. التقارير الغربية مطلع الثمانينيات او التقارير اللاحقة التي اشارت الى تلك الحقبة تكلمت بوضوح عن هذا التكامل «القاسي» بين «مهووس» بالعمل الأمني وآخر «مفتون» بالكمائن والعبوات.ليل الخامس من أيلول 1997، كانت إسرائيل على موعد مع هذا التكامل. بين بساتين الليمون في بلدة أنصارية الساحلية وقعت «النخبة» بكمين اودى بحياة 12 جندياً (على الأقل) من وحدة شييطت 13 وتُركت اشلاؤهم بين الأشجار وسواقي المياه.
ماذا حصل؟
«قرأت في عقل الإسرائيلي، بدّك حرب أدمغة؟ أنصارية هي حرب الأدمغة»، قال السيد مصطفى بدر الدين (السيد ذو الفقار).
منذ التقاط حزب الله لبثّ طائرات إسرائيلية بدون طيار (لم يحدد الأمين العام لحزب الله التاريخ الفعلي لنجاح الحزب بذلك)، أخذ فريق متخصص في المقاومة بتحليل كل تفصيل بالمشاهد الملتقطة، كل الجهد منذ التقاط البث مروراً بالتحليل والوصول الى النتائج كان بقيادة الشهيد عماد مغنية.
قدّر حزب الله حينها ان إسرائيل تعتزم القيام بعمل ما في تلك المنطقة التي تكثف فوقها تحليق الطائرات. تقرر نصب كمين محكم بين الأشجار هناك، وضعت العبوات في نقاط محددة، وبقي على المقاومة الانتظار تحسباً لقيام اسرائيل بعمل ما. حصل ذلك بقيادة «السيد ذو الفقار» وإشرافه.
فجر الخامس من أيلول، الساعة 12.40، عبرت مجموعة تابعة لفرقة شييطت 13 الشاطئ اللبناني بعد الإبحار من نهاريا. تقدمت باتجاه بساتين انصارية لتنفيذ عملية عرفت باسم «أغنية الصفصاف». كانت المجموعة مزودة بعبوات ناسفة حملها الجنود على ظهورهم. عند الـ12.45 انفجرت عبوة ناسفة اولى، قتل فيها قائد القوة، تبعتها عبوة ثانية، وبعدها بدقائق انفجرت عبوة ثالثة، خلال 45 دقيقة كانت المنطقة تلتهب. حتى قوة الإنقاذ التي وصلت من حيفا تعرضت للنيران وقذائف الهاون، صباحاً لخص وجه الجندي الإسرائيلي الذي تناقلته وسائل الإعلام وجه الخيبة في تل أبيب.
كمين بالصدفة؟
«أنا لا أعمل بالصدف»، السيد ذو الفقار.
فرضية كمين الصدفة هذه، رجحتها لجنة «اوفير» التي حققت في الحادثة، فرأت ان حزب الله نصب عبوات هناك بشكل روتيني على غرار ما فعلت المنظمات الفلسطينية سابقا او حتى الحزب نفسه في اكثر من مكان في الجنوب. لم يقتنع احد من اهالي الجنود ولا حتى المتابعين في اسرائيل بهذه الفرضية. وتصدر سؤال: اذا كان ذلك صدفة فلماذا زرعت العبوات تماماً في الطريق التي ستسلكها القوة؟
حزب الله استدرج… واستعد
عند فحص خلاصة التحقيقات والروايات، يتضح ان العبوات التي انفجرت بالقوة كانت تماماً في المسار الذي سلكته. قد يكون مرد ذلك الى ان حزب الله « اسنتنتج « انها ستعبر من هنا نتيجة تحليل مشاهد الطائرات بدون طيار، ولكن هل مشاهد الطائرات كافية للوصول الى هذا الاستنتاج؟
يقول قائد قوات اليونفيل حينها تيمور غوكسل ان حزب الله وضع امام إسرائيل «قطعة حلوى كبيرة» أسالت لعاب الحكومة والجيش، ودفعتهما إلى اتخاذ قرار بهذه العملية. يبني غوكسل حديثه على ما سمعه من قادة وضباط اسرائيليين في أوقات لاحقة من عملية انصارية، وخاصة أن «قطعة الحلوى» بقيت ماثلة امامهم حتى اللحظة الصفر لتنفيذ المهمة.
يتكامل حديث غوكسل، مع تأكيد وزير الحرب الإسرائيلي حينها، إسحاق مردخاي، أنه عرض العملية مرتين على المجلس الوزاري المصغر ووافقوا عليها نتيجة التأكيد أنها ستمر بشكل طبيعي وسهل.
يتقاطع ذلك مع وقائع ثلاث:
ــ الأولى: الهدف المعلن، اي اغتيال قيادي او قياديَين من قادة حزب الله، وهما على مقربة من انصارية، ما يحتم القيام بعملية انزال بحري والتسلل بين البساتين!
الثانية: اختيار الشييطت 13 لتنفيذ المهمة، وهي وحدة لا تعمل إلا في مهمات خاصة جداً وعلى مستوى عال من الدقة والأهمية (مثل اغتيال ابو جهاد الوزير في تونس عام 1988، استجلاب مجموعة كبيرة من اليهود الفلاشا بعمليات خاصة من السودان في منتصف الثمانينيات، تفجير سفينة مون لايت 1985 وغيرها من المهمات المعقدة. فهل كان يستحق الهدف المغامرة داخل الاراضي اللبنانية بوحدة شييطت 13 بغض النظر عما اذا كانت ستنجح ام لا؟
– الثالثة: العبوات التي كانت بحوزة الجنود، والتي بلغت عشرات الكيلوغرامات بحسب شهادات الضباط أمام لجان التحقيق وأضيف إلى كل عبوة يوم العملية (8 إلى 10 كيلوغرامات متفجرة)، فهل كانت فقط لاغتيال شخص او شخصين؟
جمع هذه الوقائع الثلاث يعزز فرضية «غوكسل» عن استدراج حزب الله لإسرائيل عبر معلومات استخبارية بأن ثمة هدفا دسما جداً موجودا هناك، وأن دسامة الهدف تحتاج إلى قوة من النخبة لتنفيذ المهمة. وما يعزز فرضية الاستدراج معارضة رئيس قسم الاستخبارات في سلاح البحرية حينها «شاي بروش « لوقت التنفيذ، حيث طلب التأجيل لشهر او شهرين لأن الليل في أيلول قصير نسبياً، الأمر الذي رفضه اللواء ألكس طال قائد سلاح البحرية خوفاً من ضياع الفرصة التي كانت لا تزال في المتناول.
الحرب النفسية مجدداً
صبيحة الخامس من أيلول، كانت وسائل الإعلام تتلقى بلاغاً عن عمل كبير حصل في أنصارية. الأولوية كانت لصحافي يعمل في وكالة أجنبية بهدف تعميم الخبر على وسائل إعلام اجنبية. تصدرت حينها مشاهد الأشلاء الإسرائيلية شاشات التلفزة، حاولت إسرائيل إخفاء ما حصل وتكلمت عن قتيلين، لكن المفاجأة كانت ان المقاومة عرضت عشرات المعدات وأشلاء لأكثر من قتيلين. أما من سارع إلى حبك اللعبة الإعلامية ــ النفسية فكان الشهيد مصطفى بدر الدين.
عباس فنيش – الأخبار