مصلحة الكندرجي تاريخ وحصرة في بنت جبيل

كتب حسين شامي

من منا لم يعمل بمصلحة الأحذية (كندرجي) في بنت جبيل؟ من الصدفة أن تجد شخص من بنت جبيل عمره فوق الثلاثين سنة وأن لا يكون قد عمل بالمصلحة سابقاً حتى لو كان متعلماً ويحمل صفة علمية 

المصلحة (كما نسميها في بنت جبيل) كان فيها حوالي الخمسين معملاً وكان يكفي معمل نزار سعد الذي كان فيه حوالي المئة عامل، ناهيك عن مئات البنات اللواتي كن يعملن وهن في بيوتهمن بالمصلحة أيضاً عبر تخييط الأحذية المعروفة بخياطة (التراسي)

كانت عيشة البلدة كلها على (الكندرجي) ولو سألت الجوهرجي في بلدتنا الآن ما هي مصلحتك الأساسية سيجيبك (كندرجي) وإذا كان يمر شخص غريب من الساحة القديمة أو من حارة الجماعنة أي مكان المصانع كان يسكر أذنيه بيديه من ضجيج أصوات الماكينات والشواكيش

كان أهل البلدة يفضلون المصلحة على أحسن وظيفة في الدولة ومن هنا تلاحظ أن لا أحد من هذه الأجيال إنخرط في صفوف السلك العسكري من درك وجيش أو في الإدارات الرسمية المدنية بإستثناء الأساتذة، ومن هنا تلاحظ أيضاً أن البلدة لم تشتهر بالزراعة أبداً ولا حتى زراعة الدخان

بقيت المصلحة عامرة حتى منتصف التسعينيات حتى دخلت إلى غرفة العناية الفائقة

كان ذنب هذه المصلحة الوحيد أنها في دولة لا تبالي ولا تحمي ولا تحترم صناعتها ولا صانعيها، سمحت بإستيراد الأحذية من الصين بأقل كلفة ممكنة لأن فرق العملة كبير فبدأ التجار بشحن كونتينرات الأحذية الكبيرة إلى الوطن ليغرقوا بها الأسواق ولا زالوا

وفوق مصيبة الإستيراد ولأن الفساد كان ولا زال مستشرياً بمؤسسات الدولة حلت مصيبة ثانية على المصلحة وتحت إسم المعارف حتى أصبحت أكثر البضاعة تدخل عبر المرافئ إلى الوطن دون ضريبة جمركية مقابل وبعض الهدايا، لتنعكس سلباً أكثر وأكثر على الصناعة الوطنية

 وفوق هذه المصائب ولأنهم أصروا على التدمير المخطط له للمصلحة جاؤوا بمصيبة ثالثة وكانت هي الضربة القاتلة عندما بدأ التجار يأخذون معهم مساطر من موديلات الأحذية التي تصنع في البلدة ليصنعوا مثلها في الصين وشحنها الى أسواق الوطن

  لفظت المصلحة أنفاسها الأخيرة وأصبحت بحكم إكرام الميت دفنه. فبكل زمان في الحرب وفي السلم وفي الإحتلال وبعد التحرير، البرجوازيون وضعهم ظابط وأمورهم ميسرة وأولادهم ممنوع تجنيدهم لا للعدو ولا للصديق ولهم وضعهم الخاص على حساب الفقراء طبعاً

 عندما كانت تصنع الأحذية في البلدة أيام الإحتلال أتذكر مع أني كنت ولداً صغيراً وتتذكرون أيضاً أن من كان يأخذ البضاعة وينزل بها إلى بيروت عبر معبر بيت ياحون ويسرح ويمرح ذهاباً وأياباً وغيرهم ممنوع من عبور المعبر ( لماذا الله أعلم)

وفي زمن التحرير التاريخ أعاد نفسه فهم هم نفسهم من يعبرون ببضاعتهم عبر المرافئ دون حسيب أو رقيب فبكل الأزمنة وبكل الظروف أمورهم وأعمالهم ميسرة وممنوع المس بهم حتى يومنا هذا وستبقى هكذا

قولوا عني ماشئتم قولوا أني أحكي كثيراً قولوا أني أنبش في الماضي ولكن أكثركم يعرف أنه هذا كلام حق وأكثركم بينه وبين نفسه سيقول معي حق

كان تدمير المصلحة جريمة موصوفة تستدعي تحرك القانون ولكن عن أي قانون نسأل في بلد الخصم فيه القاضي، 

وإذا كان الخصم القاضي الشكوى لمن تكون؟ 

 ساهم تدمير المصلحة بتهجير الناس من البلدة أكثر من الإحتلال فهناك عائلات بأكملها أجبرت على الهجرة لأن كان باب رزقهم الوحيد على المصلحة

 عائلة بيت حمود الكريمة كان لها حصة الأسد من كارثة تدمير المصلحة لأنهم كانوا جميعهم يعملون فيها

فهذه العائلة الكادحة الكبيرة لم يبق منها في البلدة الا بضعة اشخاص ربما لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة

هاجروا وكوَّنوا أسراً في مشغن وأولادهم الذين ولدوا هناك لا ذكريات لهم في البلدة لتجبرهم على العودة وكذلك باقي العائلات

فبكل الحكومات المتعاقبة لا نسمع أحداً من وزرائها يشجع على الصناعة الوطنية الكبيرة

 أنظروا إلى وزير الصناعة الحالي وبغض النظر عن إنتمائه السياسي أو الحزبي فإنه لا يزور ولا يتفقد الا معمل بطاطا فنتازيا فقط وكأنه وزير دولة لشؤون معمل فنتازيا مع إحترامي لفنتازيا، فهل توقفت الصناعة عند فنتازيا فقط لماذا لا نسمعه يتكلم عن التهرب الضريبي وعن وقف الإسيتراد لعل المصلحة تزدهر من جديد!؟

على كل الأحوال تحية الى مصلحة الأحذية التي ستبقى راسخة في ذاكرة بنت جبيل والتي لها فضل كبير عليها، والتاريخ سيلعن من ساهم بتدميرها من الدولة إلى التجار العواهر…….

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …