مسيحيو الشريط

علي الصغير
تاريخ المقال: 09-06-2014 02:25 AM
إذا كان الوجود المسيحي في لبنان أصبح من ميزات هذا الشرق المتحوّل، فإن لهذا الوجود في قرى بنت جبيل طعما خاصا في منطقة يؤخذ عليها اصطباغها بلونين وحيدين منذ التحرير دون منازع أو حتى شريك.
عمر المسيحيين على هذه الأرض من عمر المسيحية. فهنا تتداخل الجغرافيا مع التاريخ مع حاضر شهد صراعات على هذه الأرض وبسببها.
لعبت الأحداث الأمنية والسياسية التي تعاقبت على منطقة بنت جبيل خلال عقود القرن الفائت وبداية عقد هذا القرن دورا محوريا في رسم تلاوين النشاط السياسي، التي تقلبت بين فترات جزر طويلة وأخرى متقطعة من المدّ.
وقد تشابهت بعض تفاصيل هذه الصورة في نموذجها المسيحيّ والشيعي خاصة في فترة ما قبل الاحتلال. شكّلت الحركات السياسية في القرى المسيحية امتدادا لمحيطها الشيعي إلى حد ما نظرا للقرب الجغرافي وتداخله من جهة وللامتداد الديموغرافي من جهة أخرى، خاصة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
وعليه يمكن تقسيم مراحل العمل السياسي فيها منذ القرن الماضي وبدايات هذا القرن ضمن مراحل عدة، وكان لمحيطها الداخلي والسكاني تأثيره المباشر على رسم معالم تلك الحقبات. لا ينفي ذلك التأثيرات الآتية من وراء الحدود الجنوبية. لكن بالنسبة إلى هؤلاء، تتصدر الهموم اليومية أولوياتهم. الامن والأمان، فرص العمل، النزوح إلى العاصمة طلبا للعلم وفرص العمل، وضعهم الاقتصادي، ناهيك عن «تفاصيل» كشحّ المياه وغياب أي دعم زراعي أو مهني او اية رعاية من الدولة المحسوبين عليها مواطنين. انهم أبناء اطراف، حتى بالنسبة الى الاحزاب المسيحية.
رسم التاريخ وأحداثه اللاحقة صورة الحياة السياسية في تلك القرى منذ الاستقلال وصولا الى الحدثين المفصلين على الساحة المسيحية المتمثلين بعودة العماد ميشال عون من منفاه وانطلاق تياره السياسي في الجنوب ولبنان وخروج سمير جعجع من سجنه واستعادة «القوات» لنشاطها في تلك المناطق.
كما لا يمكن استبعاد وجود العدو الإسرائيلي على تخوم هذه المنطقة ورغبته الدائمة في توسعة المجال الجغرافي له ناحية حدوده الشمالية التي اتصفت سابقا بالرخوة، فكانت له دائما يد طويلة قادرة على اللعب داخل الساحة اللبنانية. بدأ ذلك منذ لحظة زرعه، ولم تنته بالتحرير بسبب وجود المئات من أبناء هذه المنطقة الذين فروا الى داخل فلسطين المحتلة خلال ايام التحرير في أيار 2000 وممن يعرفون الان «بالفارين إلى إسرائيل» وتحولهم الى «قضية مطلبية سياسية» رفعت شعار إعادتهم مختلف القوى السياسية المسيحية.
على الصعيد السكاني، يتوزع المسيحيون في بنت جبيل على ثلاث قرى رئيسية هي عين ابل، رميش ودبل، إضافة إلى قرية اصغر حجما عقاريا وسكانيا وهي القوزح، ومعظمهم من أبناء الطائفة المارونية مع أقليات كاثوليكية وأرثوذكسية وبروتستانتينية وهم يشكلون حوالي 10 بالمئة من سكان القضاء، وفق الاحصاءات الحزبية والاهلية.
في مرحلة ما قبل الاحتلال الإسرائيلي أو الفترة الممتدة من استقلال العام 1943 وحتى اجتياح 78، كانت الحركة السياسية في هذه المناطق انعكاسا لما تشهده باقي المناطق اللبنانية. فمعظم الأحزاب السياسية التي كانت معروفة في لبنان، سجلت حضورا في الشارع الجنوبي المسيحي وان بتأثيرات مختلفة. لم يتمايز المسيحيون كثيرا عن محيطهم على صعيد السياسات العامة، بسبب الأقلية العددية للمسيحيين من جهة وسيطرة الزعامات التقليدية و«البيكاوية» من جهة أخرى. فهذه الزعامات تحكّمت بمفاصل الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وذلك نتيجة تحكم تلك الزعامات بموضوع زراعة الدخان التي كانت تشكل مورد العيش الرئيسي في المنطقة، إضافة إلى تحكمها بالتوظيفات الرسمية والخدمات العامة وهو ما كان حاصلاً في القرى الشيعية المحيطة أيضا.
لذلك لم يكن الانتماء الحزبي مبنيا على أساس عقائدي وإيديولوجي وإنما كان عبارة عن انتماء عائلي فكانت العائلة الفلانية شمعونية بكاملها دون معرفة السبب، واخرى من مؤيدي «الكتائب» أو الرئيس الراحل سليمان فرنجية.
ثم جاء الاجتياح والتواجد العسكري المباشر للاحتلال الإسرائيلي، الذي كان مهّد له العدو بفكرة ما عرف بـ«الجدار الطيب» والتي أرادها عرابها شيمون بيريز أن تكون موطئ قدم لهم خلف الحدود وذلك عبر إيجاد عناصر محلية تحارب بدلا عنهم. كان الطريق الأسهل لذلك في لبنان عبر التناقضات الطائفية وإشعال فتيل الخلافات والتخويف بين الأقلية المسيحية وبين أكثرية شيعية، فشكّل ذلك أرضيّة خصبة لإنتاج ميليشيا عميلة عرفت بـ«جيش سعد حداد».
استمرت هذه المرحلة طيلة عقدين ونصف من عمر الاحتلال غابت خلالها الحياة السياسية اللبنانية لتحلّ مكانها محاولات الدمج الإسرائيلية إن بشكل مباشر أو عبر عملاء وأحزاب موالية لها.

تنافس عوني قواتي

في التاريخ الحديث لمسيحيي الشريط المحرر، شكل حدث التحرير في أيار 2000 باب الدخول السياسي للخصمين القواتي والعوني الى الشارع المسيحي في منطقة بنت جبيل. ازداد زخم الحراك السياسي مع عودة العماد عون في صيف 2005 وخروج قائد «القوات» من السجن في العام نفسه. فرضت تلك الاحداث إعادة تشكيل الهيكلية السياسية لهذا الشارع الذي يحيط به شارع أخر ادخل عليه التحرير ثنائية حزبية شيعية، هما «حركة امل» و«حزب الله».
كان لزيارة الجنرال عون الى المنطقة في اعقاب عدوان تموز 2006 الاثر الابرز في دخول الجنرال الى قلوب الجنوبيين وتحوله الى مد شعبي بين الجمهور المسيحي، مع الاشارة الا انه وكما هو الحال في باقي ارجاء الوطن فان المعارك الاكثر حماوة تقع بين محازبي هذين الطرفين فيحجب غبار معاركهم وجود باقي الاحزاب.
يشير السياسي العتيق في بلدة عين ابل وجيه خوري والناشط الاجتماعي والخدماتي فيها إلى أن «العمل السياسي قبل الاحتلال والحرب الأهلية كان ذا بعد وطني أكثر مما هو عليه الان حيث كان التعايش من المسلمات فيما هو اليوم من المبادئ التي لا تمارس لاسيما في ظل وجود عقائد حزبية ركبت على موجة التحريض». ويعتبر خوري بأن «العمل السياسي في القرى المسيحية كما في معظم القرى اللبنانية ما يزال محصور ضمن إطار طائفي دون الحس الوطني الجامع»، معتبرا بأن دخول التيار الوطني الحر على الساحة «شكل مدا إيجابيا، كما أن حزب الله كطرف غير مسيحي يمتلك الكثير من الاحترام والتقدير ضمن هذا الشارع».
ويرى خوري ان الكثير من النشاطات التي نقوم بها لا ترتدي اي صبغة حزبية، ويشير الى ان «التيار الحر انتزع وجوده السياسي في عين ابل والمنطقة بشكل عام في وجه تكتلات فئوية ضيقة الافق».
وعلى المقلب الاخر، فقد ساهم طاعون التهجير الذي أصاب المنطقة وتواجد العدد الأكبر من أهالي بلدة عين ابل في بيروت في الدخول القواتي إلى البلدة بحيث اصبحوا يملكون شعبية متميزة عن حضورهم في دبل أو رميش اللتين حافظتا بشكل كبير على التواجد السكاني فيهما إبان فترة الاحتلال لاعتبارات عدة لعل أهمها تمسكهم بالزراعة. وتعتبر رميش الحدودية البلدة الأكثر برتقالية ضمن مثلث يجمعها مع عين ابل ودبل، ويصف احد ناشطي «القوات» في البلدة بأن هذه الحركة الجديدة والمتجددة للقوات هي نتاج فهم عقائدي حزبي وليس مجرد شعور أو وراثة عائلية برغم وجود بعض الخوف لدى الأهالي من العمل الحزبي والذي ربما يعود إلى فترة الاحتلال السابقة، ويعتبر أن الوجود المسيحي وسط اكثرية شيعية لعله يمكن ان يكون عامل غنى بين الطرفين يمكن أن يرسم صورة حقيقية عن التعايش الذي يفترض أن يكون بين اللبنانيين، لذلك يؤكد حرصه على التواصل مع الأحزاب الاخرى لاستمرار هذا التعايش بينهم فيما لو كان لهم نية في ذلك.

دبل تتكيف.. لكن

اما بلدة دبل فلها خصوصيتها التي اورثتها اياها مرحلة الاحتلال اذ يجاهر العديد من أهالي البلدة بأن التحرير شكل بالنسبة لهم «نكسة» على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي. فـ«دبل» التي لا يتجاوز عدد سكانها «5000» نسمة تجند حوالي 500 من شبابها ضمن عديد ما كان يسمى «جيش لبنان الجنوبي» وكانوا يؤمنون دخلا جيدا للبلدة يضاف إلى زراعة الدخان وقد فر هؤلاء مع عائلاتهم إبان التحرير إلى داخل فلسطين المحتلة بحيث تراوح عدد الفارين ما بين 700 و 1000 شخص، لذلك، شكلت فترة ما بعد التحرير فترة مراوحة أو ضياع سياسي بالنسبة لأهالي دبل بخلاف ما شهدته بلدتا رميش وعين ابل التي شهدت عودة عشرات العائلات من ابنائها اضافة الى فورة عمرانية واقتصادية جيدة مقارنة بباقي القرى المحيطة.
وقد أعطت ورقة التفاهم بين «حزب الله» و«التيار الحر» الامل بعودة «العملاء الفارين»، على حد تعبير أحد ابناء البلدة.

السفي

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …