ماذا يريد الجنرال

بقلم جورج عبيد

ليست الأزمة الحالية في لبنان مسيحيّة عابرة. بل هي أزمة وجود لبنانيّ تهاوى بتهاوي مكوّناته في وحول الصراعات فيه وحوله، وقد تكوّنت بالاعتداء الوجوديّ السافر على الوجود المسيحيّ المكوّن الجوهريّ للبنان اللبنانيّ، ولبنان المشرقيّ، وأخيرًا لبنان العربيّ. والتكوين المسيحيّ للبنان بألوانه تلك، جاء جذوريًّا، ومن ثمّ تشرعن دستوريًّا، بحرص شديد على أن تلك الألوان تجسيد للحقيقة الميثاقيّة الراسخة والمؤسّسة للحقيقة اللبنانيّة بآفاقها الكيانيّة، وامتداداتها الكونيّة الرحبة. تتميّز الأزمة الحاليّة والحادّة بالشكل على تلك الصفة الطاغية، ولكنّها في جوهرها تظهر أنّ إضعاف المسيحيين في لبنان تمهيدًا لإلغائهم بيولوجيًّا بالمعايير السياسيّة والأمنيّة والإداريّة، هو المقدّمة لإلغاء بيولوجيّ واضح يطال الجيل الجديد منهم بالتحفيز على الهجرة، فيبطل الدور والحضور، كتوطئة واضحة وصريحة لإلغاء لبنان فريد ومتميّز في المدى المشرقيّ بتلك الألوان المؤلّفة لذاتيّته الخاصّة والمتميّزة. وفي واقع الأمور، ما كان لبنان فريدًا لو لم يكن المسيحيون وجهه المضيء، ويؤلّفوا مع المسلمين ميثاقًا قائمًا لا تتوطّد ثقافته ورؤاه إلاّ بالشراكة الفعليّة والحيّة، تترجمها مقولة “الديمقراطيّة التشاركيّة”، وربّما “الشركويّة”، ومعناها في لبنان، تجسيد المادّتين 24 و95 من الدستور القائلتين بالمناصفة الفعليّة، إن رام اللبنانيون بأطيافهم وأطرافهم الحفاظ على الدستور كإطار ناظم وضامن لهم، واعتبار مقدّمته الميثاقيّة نصًّا جوهريًّا لا يخدش بالممارسات السياسيّة الفجّة.
المعركة التي يخوضها رئيس تكتّل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون، تنتمي بتفاصيلها وحراكها، إلى هذا اللبنان عينًا بحقيقته الميثاقيّة السّاطعة من ألوانه الوجوديّة والذاتيّة، التي ساهم المسيحيون بالتأسيس لها. وتنطلق معركته بفهم دقيق يشاء للبنانيين أن يدركوه من خلال تجربته وما قاله في مؤتمره الصحافيّ الأمس، بأن لبنان الإسلاميّ لن يستقيم بشقّه إلا بلبنان المسيحيّ. هذا شرط حقيقيّ لتبيان الوجه الميثاقيّ المضيء، بعدما هتكت حرماته وشرفاته المطلّة على المديين العربيّ والغربيّ، بالاستيلاء الواضح على حقوق المسيحيين، بسلبها منهم، بعد سلب قرارهم الحرّ في التكتّلات السياسيّة الناشئة على أطلال طائف وأدوه حين ولدوه. والمأساة أنّ ثمّة يقظة عادت لتشتعل من جديد، في ذاكراتهم ومذكراتهم، بأنّ المسيحيين إن عادوا إلى دورهم السياسيّ الطليعيّ والواسع، فسيوقظون من جديد المارونيّة السياسيّة، وربّما بتوسّع أكبر المسيحيّة السياسيّة. ولذلك كان القرار بعد إقرار اتفاق الطائف بالانقلاب عليه، بالاستيلاء على حقوق المسيحيين تمهيدًا لاستيلادهم في كنف المذاهب الأخرى الطاغية، مستندين على تسوية أميركيّة سعوديّة سوريّة، سلبت لبنان من جوهره الحقيقيّ مبطلة فعل المارونيّة السياسيّة، ومحيية طائفيّات باتت أشرس منها وأفتك على المستويات كافّة، بخطّة واضحة وممنهجة، فضحها بعد حين ذلك التسجيل الصوتيّ في المحكمة الدوليّة، لحوار الرئيس رفيق الحريري مع نائب وزير الخارجيّة السوريّ آنذاك وذلك قبل أسبوعين من اغتيال الرئيس الحريري، وفيه شاء قانونًا انتخابيًّا على قياسه في بيروت العاصمة خوفًا من التطرّف المسيحيّ آنذاك المتمثّل بميشال عون وجبران تويني وصولانج الجميّل، وهو تطرّف معاد لسوريا على حدّ تعبيره. إنّ المعركة التي يخوضها العماد عون، وبكل وضوح، تهدف إلى إبطال كلّ الطائفيّات السياسيّة بممارساتها الحروفيّة لتأمين حركة سياسيّة جديدة تستعيد الميثاق المفقود، بقانون انتخابات ركّزت مذكّرة بكركي في 9 شباط 2014 بضرورة أن يؤمّن المناصفة الفعليّة بين المسيحيين والمسلمين. واستند البطريرك بشارة الراعي في مذكّرته آنذاك على الأسباب الموجبة التي عليها استند “اللقاء الأرثوذكسيّ” في تقديم مشروعه الانتخابيّ، والقائمة في متن أدبياته السياسية. ويدرك العماد عون منذ تبنيه لمشروع اللقاء الأرثوذكسيّ الانتخابيّ، بأنّ المناصفة ليست لأجل نفسها بل هي الطريق الأسلم واللغة الأفصح لتعبيد الطريق نحو إلغاء الطائفيّة السياسيّة المدوّنة شرط تأسيس لجنتها في المادة 95 من الدستور، انطلاقًا من المناصفة الفعليّة. الدولة المدنيّة هاجس دائم عند المسيحيين، وليس هاجسهم التجمّد والتجلّد بدولة الطوائف. ويبدو أن هاجس المسيحيين في نصوعه ليس هاجسًا سنيًّا أو هاجسًا درزيًّا بشقّه الجنبلاطيّ المحض على وجه التحديد، وتلك هي الطامة الكبرى، ذلك أنّ هذا الهاجس انحصر بالمسيحيين والشيعة وببعض الدروز المندرجين في فلسفة العروبة منذ ثورة سلطان باشا الأطرش بوجه الفرنسيين في جبل العرب، والأدبيّات الشيعيّة واضحة بهذا الاتجاه على الرغم من التمايز بين بعض العلماء، كما في كتاب “الوصايا” للإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين، أو فيما هو قائم في أدبيات “حزب الله” وخطابات أمينه العام السيّد حسن نصرالله غير البعيدة عن الهاجس المسيحيّ، وبعض منها قائم في ورقة التفاهم بين التيار الوطنيّ الحرّ وحزب الله.
والإمعان في النظر بالهواجس، يقتضي لفت نظر النائب وليد جنبلاط، بأنّ الخطورة على مكوّنه ليست من المسيحيين، بل من الذين قصفوا المكوّن الدرزيّ بصواعقهم وراجماتهم لحظة أظهر الرجل قيمة التسوية ومعناها ومحاسنها على الجميع لسعد الحريري بالتحديد. فاستهدف الدروز من “جبهة النصرة” في قلب لوزة في جبل السماق والسويداء، وقد حاول جنبلاط غير مرّة مغازلتهم مما أغضب عددًا كبيرًا من مشايخ الطائفة الكريمة. ويصرّ مصدر سياسيّ على وليد جنبلاط بضرورة التلاقي في معركة استعادة الميثاق مع العماد ميشال عون و”حزب الله” من جديد، فالمعركة ليست مع سنّة لبنان، ففي الطائفة السنيّة الكريمة وجوه راقية ووطنية ويعوّل عليها في المهمّات الصعبة، المعركة هي لتصحيح خطأ كبير ارتكب سنة 2005 خلال التحالف الرباعيّ، وقد بدأ مسار التصحيح بورقة التفاهم مع حزب الله، ومن ثمّ بورقة إعلان النيات مع القوات اللبنانيّة في الإطار البنيويّ، وبرأي هذا المصدر إن التصحيح ينبغي أن ينغرس في العلاقة المسيحيّة-الدرزيّة، حتّى لا يؤكل وجودنا المشترك في هذا الإقليم المتوتّر.
لم تعد معركة ميشال عون محصورة بالتعيينات أو رئاسة الجمهوريّة، بل هي أبعد بكثير من تلك الأهداف على الرغم من قراءات تسطيحيّة تحاول بعض الأقلام تقديمها للراي العام مفادها بأنّ العماد عون يرفع سقفه بالمطالبة بتغيير النظام كحجة للعودة إلى التسوية أو الصفقة بينه وبين النائب سعد الحريري. والواقع أنّ تلك المسألة هي تفصيل في كلّ متراكم. فالتفاصيل تشي بأنّ الأزمة هي أزمة وجود مسيحيّ خطيرة، وهي تاليًا نابعة من أزمة نظام سياسيّ لبناني تدحرج كثيرًا، وأزمة وجود لبنانيّ يحتاج لقراءة جديدة حتى ينهض.
بهذا المعنى ليست المسألة مسألة سقوف مرتفعة، بل هي أزمة وجوديّة متماهيّة مع أزمة المسيحيين العرب ضمن الإقليم المتوتّر والملتهب. والقراءات السياسيّة النقديّة أظهرت بأن استقامة النظام السياسيّ اللبنانيّ، وعودة الحياة إلى الدولة، وإن كانت ارتبطت بواقعيّة الأحداث في المنطقة إلاّ أنّ توازن الحلّ وتشكّله يتم بترسيخ تفاهم حقيقيّ يقتنع فيه الأطراف بانّ النظام السياسيّ إن بقي على هشاشته فالاستقرار الهشّ والمعطوب والمطلوب دوليًّا في لبنان على الرغم من هشاشته ومعطوبيّته آيل للسقوط والتحوّل إلى انفجار خطير.
هل سينزل شباب التيار ومناصروهم إلى الشارع؟ الجواب في مجلس الوزراء. فإمّا يصحح المسار أو أنّ الشارع هو السبيل لحراك سياسيّ يقود إلى نظام سياسيّ جديد، وقانون الانتخابات النيابيّة هو عموده الفقري.
لقد نعى الوزير السابق إدمون رزق في حديث تلفزيونيّ دستور الطائف القائل في مقدّمته بأن لا شرعيّة لسلطة تناقض ميثاق العيش المشترك. لقد هوت تلك الشرعية بالافتئات المتعمد على حقوق المسيحيين بل الوجود المسيحيّ، والشرعيّة لا تستعاد إلاّ باستعادة الميثاق وتجديد الدستور، والمعركة عنوانها استعادة الميثاق وتجديد الدستور، ومعها استعادة جمهوريّة مفقودة في ليل الإقليم الملتهب.

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …