لولا المقاومة

ابراهيم الأمين

في النقاشات القائمة، على أكثر من صعيد، حول كيفية مواجهة حالة الارهاب التكفيري الذي يضرب انتحارياً في لبنان، يتجنّب المسؤولون الكبار في الدولة الكلام الصريح والشفّاف، خصوصاً في الاجتماعات المشتركة. لكنهم، في غرفهم الضيّقة، يقولون ما يقود الى خلاصة وحيدة: لا هم رجال دولة، ولا هم مسؤولون عن جميع اللبنانيين. هم مجرد عناوين لتمثيل سياسي له جذره الطائفي. وقلة، قلة قليلة فقط، تهتم لأمر بقية الناس، من دون النظر الى مناطقهم وطوائفهم وتوجهاتهم السياسية.

على صعيد القيادات الاساسية في الدولة، يلعب الرئيس ميشال سليمان دور «الناظر». لكن لم يحدث أن رفع صوته يوماً في وجه أي من الأساتذة أو التلاميذ. ويبدو أنه يكتفي بمشهد، يحرص فريقه الاعلامي على تسويقه، يظهر فيه الرئيس متحدثاً وحيداً في أي اجتماعات أو استقبالات. هذه الصورة هي المرض المتوارث في القصر الرئاسي، كما في كل القصور الرئاسية، حيث المطلوب أن يظهر الرئيس بصفته الموجّه، والبقية يصغون، علماً بأنه، في حالتنا نحن، يكفي أن تلتقي أحد الحاضرين لهذه الاجتماعات مباشرة بعد خروجه من القصر، لتسمع أنفاسه التي يخرجها كأنه خارج من سجن. والجريء من هؤلاء يقول لك: أكلنا محاضرة!
في آخر المحادثات حول كيفية التعاون بين الأجهزة الامنية لمواجهة فرق الانتحاريين، تظهر الصورة الحقيقية في شكل يدعو الى القلق. ومن يُتح له الاطلاع على بعض التفاصيل، يمكنه، براحة ضمير، أن يدعو الناس الى توقع المزيد من عمليات القتل المجنونة، والى الحذر من كل شيء، والى عدم الركون الى أي بيان أو موقف يصدر عن أي مسؤول في الدولة، وأن يدعو الناس الى التعاون فقط مع من يثقون، بالتجربة، بأنه يقف الى جانبهم، وأنه يأخذ كلامهم وهواجسهم على محمل الجد!
في لبنان جهاز اسمه أمن الدولة. لا أحد يرغب في كتابة حكايته المملّة، ولا أحد يريد أن يرفع الصوت معلناً عدم الحاجة اليه، لا من قريب ولا من بعيد.
في لبنان، مديرية استخبارات عسكرية، تتبع لقيادة الجيش. مطلوب منها أعظم الادوار. لكنها لا تعطى ما تحتاج إليه من دعم بشري أو لوجستي أو تقني، أو تغطية سياسية كاملة، أو دعم معنوي ومهني شامل. ولا يوفر لها ما يقيها تعب العاملين فيها، أو شر المتآمرين عليها من كل حدب وصوب. ولا أحد يفكر فيها من زاوية المهمات المطلوبة منها؛ فلا تطوير قدرات الضباط والرتباء والجنود العاملين فيها أولوية تتقدم على غيرها، ولا أحد يفكر في أنها وحدة تحتاج، بصورة دائمة، الى كل أنواع الموارد التي تتيح لها منافسة، ليس أجهزة نظيرة لها، بل المجرمين أنفسهم، والتفوّق عليهم.
اليوم، تلعب استخبارات الجيش دوراً مركزياً في مواجهة حرب التكفيريين على لبنان. لكن هل تفعل ذلك بشكل طبيعي؟
مع كل الاحترام لكل معنيّ بالملف، من داخل الدولة وخارجها، إلا أنه يجب رفع الصوت، واختصار الكلام مباشرة مع قائد الجيش: تخفّف من كل الأعباء السياسية. لا تستمع الى الذين يفكرون في كيفية الانتقال الى القصر الجمهوري، وتذكّر أن حياة الناس أمانة في عنقك. وعندما يتعلق الامر بحياة إنسان، لا ينبغي التوقف عند خاطر أحد. لا ضابط من هنا، ولا مدير عام من هناك. ولا رئيس حكومة من هنا، ولا رئيس جمهورية من هناك. ولا رئيس كتلة نيابية من هنا، ولا رئيس حزب من هناك. ولا سفارة أجنبية أو عربية من هنا، ولا جهاز استخبارات خارجي من هناك. تذكر، فقط، أن القادة الذين حُفرت أسماؤهم في التاريخ هم فقط الذين ثبّتوا أقدامهم في الارض، وثبّتوا رؤوسهم فوق أكتافهم، وتوجهوا نحو الخطر نفسه، وقاموا بما يجب عليهم القيام به.
في لبنان، أيضاً، فرع المعلومات في قوى الامن الداخلي، والمملوك من قبل تيار المستقبل وشركائه في الوطن المهجر. لهذا الفرع حيثية رئيسية تستند الى وعائه السياسي، وهي حيثية تجعله الأكثر نشاطاً في المناطق الخاضعة لنفوذ تيار المستقبل. وبـ«العربي المشبرح»، وسط سنّة ودروز ومسيحيي 14 آذار. وهؤلاء موجودون في كل لبنان. ولهذا الفرع نفوذ إضافي، بعد اندلاع الأزمة السورية. حيث يوجد لبنانيون أو سوريون أو عرب أو أجانب يعملون في دعم المعارضة السورية المسلحة.
اليوم، يملك فرع المعلومات نفوذاً كبيراً في مناطق لبنانية عدة، تعتبر من الناحية الأمنية أرضاً خصبة للمجموعات التكفيرية، والملاذ الآمن للفارين من عناصر هذه المجموعات، والمقر الأفضل للتجهيزات الامنية والبشرية واللوجستية». وهذه المناطق تشمل المخيمات الفلسطينية وصيدا وإقليم الخروب، وبعض مناطق بيروت، وطرابلس وعكار الى جانب البقاعين الاوسط والغربي ومنطقة عرسال. كذلك فإن لهذا الفرع نفوذه غير العادي في كل سجون لبنان، حيث تدار من هناك مجموعات كبيرة تعمل اليوم تحت راية الجماعات التكفيرية.
في سياق عرضه لسبب مواجهة الأزمة، يرى فرع المعلومات أن ملف التفجيرات محصور في ثلاث نقاط: المناطق السورية الحدودية مع لبنان في منطقة القلمون، المخيمات الفلسطينية، وسجن رومية. هذا ما كتبه ضباط الفرع في دراسة عرضت على من يجب عليه اتخاذ القرار. لكن التشخيص أرفق بخلاصات منها: ان فرع المعلومات غير قادر على الوجود أو التفاعل في مناطق المعارضة السورية، وان عرسال القريبة من هذه المناطق تشكل وضعاً خاصاً لا يمكن التعامل معه بطريقة عادية. كذلك يرى الفرع أنه غير قادر على العمل داخل المخيمات الفلسطينية لأسباب وأسباب. لكنه مستعد للعمل داخل سجن رومية، مقترحاً على وزير الداخلية أن يمنح الإذن بمداهمة السجن، والقيام بعمليات تفتيش دقيقة، وسحب جميع الموقوفين خارج زنازينهم، وفرزهم سياسياً وجرمياً، ثم إجراء تعديل في السجن يمنع وجود أكثر من عنصرين في كل غرفة. ووضع شروط تقنية وفنية وأمنية تحول دون تواصل هؤلاء مع أحد خارج السجن.
الفرع لا يرى أن هناك ما يمكن القيام به في عرسال التي خرج منها مفجّرون وأدوات تفجير، ولا يرى ما يوجب التحرك في عكار التي خرج منها انتحاري واحد على الاقل، كما لا يرى ضرورة للعمل في صيدا التي خرج منها انتحاريان. وهو، أيضاً، لا يجد حاجة الى العمل في البقاعين الاوسط والغربي، لأنه ينظر الى المنطقة بعين سياسية لا أمنية. أما بيروت، فيراها تحت السيطرة، ولا بأس إن تمت مفاجأته ـــ أو هذا ما قيل ـــ بأن نعيم عباس يعيش داخل الطريق الجديدة، وأن سيارتين على الأقل انطلقتا من شرق الطريق الجديدة باتجاه الضاحية قبل تفجيرهما وسط الناس.
قصة الدركي الذي تحدث عنه نعيم عباس قد لا تكون ذات أهمية استثنائية. وربما لا حاجة إلى أي نوع من التدقيق الاضافي بعد تحقيقات فرع المعلومات معه. لكن المفارقة كانت في مسارعة الفرع، وخلال ساعات قليلة جداً، الى نفي علاقة الرجل بالملف التفجيري، بينما لا نعرف لماذا يصرّ الفرع على استمرار توقيف أشخاص من الشمال بتهمة «الكلام» على تفجيرات محتملة، ربطاً بتفجيري مسجدي السلام والتقوى الإرهابيين.
وبعد…
ثمة كلام لا يعجب أحداً، ولا حتى أصحابه. ولكنه كلام يجب أن يقال، رضي من رضي وغضب من غضب. وهو أن استخبارات الجيش، كما فرع المعلومات، يعرفان، بالوقائع والمعطيات والدلائل الحسية، أنه لولا الجهود الخارقة ـــ نعم الخارقة والجبارة ـــ التي ببذلها جهاز أمن المقاومة، لما أمكن تحقيق أمور كثيرة في هذا الملف. لكن، إذا كانت قيادة الجيش تتعاون مع المقاومة بصورة اعتيادية، ولا تستغرب قدراتها، أفلا يشعر ضباط فرع المعلومات بالغيرة والحسد ـــ مهنياً على الأقل ـــ لكون جهاز أمن المقاومة قادراً على العمل أمنياً، وبصورة فعالة، في المناطق التي يفترض أنها تحت عيون الفرع ورجالاته من الأمنيين والسياسيين على حدّ سواء؟
قال رئيس بلدية اللبوة أول من أمس: «نحن وأهالي عرسال شركاء في كل شيء، لكن الكلام لم يعد يفيد. صار المطلوب ما هو أكثر لمواجهة جنون التكفيريين».
هذه العبارات تصلح اليوم في وجه فرع المعلومات، لكنها تصلح، أيضاً، في وجه أي مسؤول رسمي يجيب الأجهزة الامنية بأنه لا داعي لإقرار خطط الآن، ما دام هناك حكومة جديدة ستبصر النور خلال أيام. وتصلح في وجه مسؤول يخشى على حياته من التكفيريين إن هو سمح بعمليات أمنية وقائية ضد المناطق التي ينشطون فيها. وتصلح أكثر من كل ما سبق، في وجه أفراد يتوهمون أن التكفير فيروس مخصص لفئة من الناس فقط، وأن لقاحاً وهابيّاً سيقيهم شر هؤلاء المجانين الذين لا يهوون سوى لعبة الموت المفجع في أي وقت!

المصدر: صحيفة الأخبار

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …