مرّ اليوم الأخير من العام هادئا على الصعيد الشخصي وسيئا على مستوى محيطي الذي يقلقني أكثر فأكثر. طالت أيام البرد فآلمني ظهري من طول ساعات المطالعة والكتابة. في الصباح كان لدي درس إنشاء مع تلاميذ السنة الأولى ثانوي. المطلوب كتابة نص حجاجي. شرحت الدرس بأن في النص الحجاجي أطروحة وطرفان يتجادلان وحجج تاريخية وقانونية وعلمية ونفسية وواقعية و.. في التطبيق طلبت من كل تلميذتين في طاولة كتابة حوار حول آخر موضوع تجادلا فيه، على أن يكون أحدهما “مع” والآخر “ضد”. بعد ربع ساعة طلبت قراءة الحوارات.
كانت جل الحوارات حول الاحتفال بميلاد السيد المسيح وميلاد الرسول. وقد تكرر فيها لفظ حرام. في كل الحوارات هناك معجم ديني في ذم سلوك الكفار الذين لا يصومون معنا ونقلدهم تقليدا أعمى و.. كانت هناك فتاوى تحريم.
سألت التلاميذ: وأين الحجج في الحوارات؟ كم من حجة لديك؟
لم يكن المتحاورون بحاجة لحجج لأنهم متفقون على تحريم الاحتفالات برأس السنة. كان هناك توصيف ديني في كل الحوارات. هذا ما يشغل تلاميذ سنهم خمسة عشر سنة. يتجادلون في الحلال والحرام.
سألت تلميذة: وماذا ناقشت مع أمك في المنزل؟ قالت: من سيغسل الأواني؟
ولماذا لم تكتبي هنا هذا؟
يعرّف أرسطو الجدل بأنه فن الاعتراض والاقتراح. ومن خلال مصادمة الاعتراضات والاقتراحات نصل إلى التركيب. ويتطلب هذا مستوى ثقافي عالي قادر على التأمل العقلي. ويحث الحجاج والنقاش على دهشة الاكتشاف ويقود للتسامح مع وجهات النظر المخالفة. بينما التحليل والتحريم سهل. وهو ينسف كل مناقشة قبل أن تبدأ.
أجد هذا الموضوع أهم من الكتابة عن الانتخابات القادمة وأسعار النفط وعدد قتلى حوادث السير وتبعات فضيحة تنظيم الموندياليتو على وزير الشباب والرياضة الذي يشاع انه سيترقى إلى منصب وزير دولة مكافأة له.
في المساء ذهبت إلى مركز مدينة الدار البيضاء. جلست في مقهى فرنسا. كان الصينيون أكثر من الفرنسيين. طالعت بعض الجرائد ثم نهضت لشراء تذكرة من ترامواي للعودة للبيت. كان هناك صف طويل من النساء وفيه رجل واحد أمام الشباك الإلكتروني. جاء مراهقان لشراء تذكرتين دون انتظار الدور. طلب منهما الرجل الوقوف في الصف، رفضا بينما بقيت النساء صامتات. زادت المواجهة بين الرجل والمراهقين فشرعا في سبه وسب ربه والتلويح باليدين في وجهه. تجلت بوادر العنف.
فجأة تلقى أحد المراهقين صفعات متتالية على وجهه وسحبه رجل أمن بلباس مدني وهو يوبخه “كيف تسب ربّ رجل في مثل سن والدك؟”.
تبادل الواقفون نظرات الامتنان وشعروا بالرضا لأن المنقذ الذي أرسلته الدولة جاء في اللحظة المناسبة. كان الشرطي المتخفي نبيا يملك الجواب العملي لتفسخ السائد. يبدو أن “لا بقاء للفرد دون الدولة” هكذا قال فيخته في خطاب للأمة الألمانية. ورغم أن الخطيب فاشي…
لم يعاقب الربّ المراهق. عاقبه الشرطي. واضح أن الضامن للنظام الاجتماعي هو الجلاد لا الكاهن. في هذه الحالة صفع الجلاد المراهق دفاعا عن الكاهن. مؤخرا طرد رجل أمن من عمله لأنه سبّ الذات الإلهية وشوهد ذلك في فيديو. في الشارع أسمع ذلك يوميا. مؤخرا منع فيلم ريدلي سكوت “الخروج، آلهة وملوك” من العرض في المغرب. احتج مئة شخص على الفايسبوك فرادى بينما فسر المنع بأنه احترام لمقدسات المغاربة لأن الفيلم يصور نبيا وفيه “تجسيد للذات الإلهية”. أشك في أن يكون الذين قرروا منع الفيلم قد شاهدوه. لم يتساءل أحد هل تقدر الكاميرا فعلا على التقاط الأنبياء والذات الإلهية؟ عجيبة هي السينما.
عندما تلقى المراهق الصفعة لم يخطر ببالي أي بند من بنود خرق حقوق الإنسان. في لحظة مواجهة الخطر لا وقت للتفلسف في مجال الفرد والقانون. وجدت فورا نظرية حقيقية للتفسير: هذا ليس خرقا لحقوق الإنسان. وما هذا إذاً؟ التوضيح يخلق مشكلة. لكن سأسمي الأشياء لتنفجر في وجهي: هذا حل أمني والمنبوذون لا معين لهم.
كيف هي صورة مستقبل المغرب من خلال مشاهد التحريم والسب والصفع في المدرسة والشارع؟
صورة مقلقة، لكن لا تعرض الدكاكين السلعة المطلوبة، فمن أين سأشتري التفاؤل؟
هل من دواء للأسئلة؟ كيف ربي هؤلاء المراهقون؟ هل تلقوا تربية أصلا؟ ألم يكبروا في أسر مفككة أو أسر فقيرة يعمل أفرادها ساعات طويلة في مهن منهكة بدنيا، وبالتالي لا وقت ولا طاقة لهم للتواصل مع أبنائهم؟
مرت الليلة باردة وداهمني الاكتئاب الشتوي. صباح اليوم الأول من العام الجديد ذهبت إلى حمام شعبي لتسخين ظهري. كان هناك الكثير من الأطفال مع آبائهم. لم تعد حمامات النساء تسمح بدخول أطفال فوق سن الثالثة. سابقا كان يمكن للأم أن تصطحب ابنها حتى سن السادسة. الآن صار الأب مجبرا على أخذ ابنه للاستحمام لأن الحمام المنزلي بارد. كان الكثير من الآباء يعاملون أبناءهم بعنف شديد. صراخ ولطم وإكراه على البقاء في الغرفة الأكثر حرارة لتزول الأوساخ. يبكي الأطفال ويصمتون ويبكون.. يطلب من الأطفال أكثر من طاقتهم ويجبرون على البقاء طويلا في الحمام الساخن جدا. وحين يرفضون يُضربون. مع كل كلمة صفعة وحشية بدائية همجية..
كان الطفل الذي أراقبه ذاهلا ووجهه مستباحا تماما. بنفس الطريقة التي استباح بها الشرطي وجه المراهق. لقد تجمعت الدموع في عيني. رأيت هذا المشهد من قبل. في البيت والمدرسة. ضربني المعلم بعصا على رأسي فسال الدم. أجبر تلاميذ وسخين على الاستلقاء على الطاولة وضربهم على مؤخراتهم في البرد القارص. في كل مرة أرى أذى أفرح: كنت محظوظا لأن جدتي ربتني ولم يربّني والدي. أعتقد أن الذين تربيهم النساء يكونون أقل عنفا. أما الذين تعرضوا للعنف فيسهل عليهم مد أيديهم لوجوه الآخرين. وقد رأيت تلاميذ في المدرسة يقطّعون صغار القطط أحياء للاستمتاع. يتعاركون بالمحافظ دون ضبط النفس. من يقطّع قطا سيقطّع شخصا.
تروعني مشاهد العنف، وخاصة حين تكون قريبة مني. تعطي للحياة طعم القيح. سبب العنف؟ يعتقد المغاربة أن العصا لمن عصا وأن العصا خرجت من الجنة لتأديب العصاة. العصا للعصاة. يقال”يستصلح السفلة بالهوان”. لكن ماذا لو كانت الإهانات هي التي تصنع السفلة؟
إن الطفل الذي يعامل بكل هذا العنف سيجد ضرب الآخرين أمرا عاديا حين يكبر. والطفل العنيف غير قابل للردع. ويستحيل أن يتفاهم مع غيره. سيكون العنف هو وسيلته للتعامل مع الآخرين. سيحل كل مشكل بصفعة ولكمة. الطاقة الاستيعابية لسجون المغرب تبلغ 30000 سجين. لكن هذه السجون تأوي الآن 70000. و34000 سجين لم يبلغوا سن الثلاثين عاما بعد.
يعامل الكبار أبناءهم بعنف شديد. لا أرى جدوى من عرض الظواهر التي تطفوا على وسائل الإعلام التي تتجدد في كل دقيقة. أبحث عن أصل الشرور في مكان آخر. في تربية هؤلاء الذين يحرّمون ويمارسون العنف بهذه السهولة.
من أين ينبع هذا العنف؟ من البيت. وأين يصبّ؟ يصب في كل أوصال المجتمع ليفككها. والدولة على شاكلة المجتمع، فهل هي تحكمه أم هي تتبعه وتشبهه تماما. وهذه محاولة لقول الصلة بين تحريم الميلاد والفيلم والعنف ضد الصغار.
محمد بعزيز
المصدر: النهار