لا يمكن لأحد أن يلغي الآخر

لا ينام بياض الشيب في لحية السيد محمد فضل الله، كما تبدو في الصورة المؤطرة برائحة السيد العطرة، خلف كرسي، حفظ معالم جسده المنهك بالمرض، والذي لم يبعده في كل الأوقات عن الناس. الكرسي نفسه الذي رتب شكل قماشه على جسد السيد، يفتقده حتى الآن، كما يفتقده كل من عرفه وآمن برسالته، رسالة الحوار ومحبة الآخر.رحل السيد. رحل قبل خمسة أعوام، وسكن الكرسي نجله الأكبر السيد علي فضل الله. “مختار” كان له لقاء صريح، قريب من القلب، ومن القلب إلى القلب، مع سماحته، وهذا ما جاء فيها.

 

-كيف تمضي الأيام في ظل غياب العلامة السيد محمد حسين فضل الله؟

الإنسان دائماً على مرور الايام يشعر بمدى الحاجة إلى حضور سماحة السيد على مختلف الميادين. طبعاً على المستوى الشخصي، يشعر الواحد منا بحاجة عميقة، لأن السيد ترك أثراً في النفس. وعلى المستوى العام، في كل الساحات، يشعر الشخص بقوة دور السيد في هذه المرحلة التي تضج بالفتن والصراعات، وكم نحن بحاجة إلى الوعي الذي كان يعيشه، والعمق الذي كان يقارب به الأمور، إضافة إلى المنطق الذي كان يستطيع من خلاله الوصول إلى عقول الجميع ليقنعهم، أو إذا ما استطاع أن يقنع فئة قليلة، فكان يستطيع أن يبرد الجو.

نحن نحتاجه في هذه الأجواء العاصفة التي تضج بها المنطقة، وطبعا التعقيدات التي تحصل هي كبيرة وكبيرة جداً، وهي متشابكة أكثر مما كانت في وقت سماحة السيد، لكن في النهاية، يبقى المنطق واحداً، والأسلوب واحداً.

اعتقد أن سماحة السيد أكد حضوره في تلك المرحلة، وأنا متأكد أنه كان قادراً على اثبات حضوره في هذه المرحلة أيضاً، ونحن نثق دائما أن الفكر الذي طرحه والمنهجية التي اعتمدها باقية، وباستطاعتها أن تؤدي دوراً معيناً، وكان دوره سيكون أكبر لو ما زال موجوداً بيننا.

 

-هل هناك أية ذكريات خاصة ما زالت عالقة في ذاكرتك مع المرجع؟

ذكريات المرحلة الأخيرة كانت ممزوجة مع الظروف الصعبة التي كان يعاني منها سماحة السيد، لكن يمكننا القول إن السيد، خلال هذه المرحلة التي كان فيها في أشد حالات المرض، لم ينكفئ عن الإنتاج، والحديث عن الأمور المعقدة، كأنه كان يحاول أن يقدم كل ما يشعر به.

لذلك برز لدى السيد في تلك المرحلة، بعيداً عن الجانب العاطفي، حرارة كبيرة في العمل والعطاء، برغم كل ظروف المرض، وكان حاضراً في ذلك الوقت، ليفكر كثيرا بالمرحلة اللاحقة التي سوف تأتي واستطاع أن يضع قواعد، تشكل ضمانة لمستقبل العمل والمؤسسات.

 

-هل هناك أية ذكريات خاصة عن محاولة الاغتيال في العام 1985؟

في ذلك الوقت، لم أكن موجوداً في المنزل، كنت في مكان آخر، لكنني هرعت إلى منطقة بئر العبد حاملاً شعور الخوف، خصوصاً عندما استمعت إلى إذاعة صوت لبنان، التي بثت حينها أن “السيد قد قتل مع عائلته”. الأمر كان صادماً بالنسبة لي، لكنني وصلت ورأيت سماحة السيد، وشعرت كم كان في ذلك الوقت، مطمئناً وصلباً وقادراً على التحدث في الظرف الذي شهد وجود شهداء وجرحى ومعوقين ومشاهد دموية، إضافة إلى مشاهدة بيت العائلة الذي تعرض للتهديم، والعائلة التي اصابها الرعب، لكن الصلابة والروحية التي حملها السيد في شخصيته، هي التي يشعر بها الإنسان في ذلك الوقت، لأن شخصية السيد كانت مبنية على الطمأنينة في أشد الحالات خوفاً.

 

في الدين

-عدد كبير من المسلمين برزت لديهم تساؤلات حول تحديد المرجعية الدينية بعد وفاة المرجع، فهل يمكن أن توضح سماحتك لنا أكثر هذا الموضوع؟

طرح هذا الموضوع بمجرد وفاة سماحة السيد، وقد تواصلنا مع الناس وقالت جميع المراجع الأحياء، إن هناك من يرى جواز البقاء على تقليد الميت، وأن هناك من يرى الوجوب.

 فقد قلنا للناس إنه انطلاقاً من اهمية جواز البقاء، يقتضي منكم أن تبقوا على تقليد المرجع، وما دمت انت تقتنع به وترى أنه أعلى من الموجودين، فتكون بذلك حققت فكرة الوجوب.

لذلك قلنا إنه من الإحتياط أن تبقوا على تقليد سماحة السيد، وبعض الناس يسألون حول ما اذا كان هناك مرجع يجب العودة إليه لتحديد المعضلة، فنقول إنه لا حاجة للمراجعة طالما هناك اتفاق، ولكن إن كان هناك مسائل فقهية لم يكن للسيد أي اطلاع عليها، فعليكم ان تعودوا إلى مرجع آخر.

 

-في كل عام يبرز خلاف بين السنة والشيعة، وحتى بين الشيعة أنفسهم، يتعلق بكيفية تحديد شهر رمضان ونهايته. ما هي الطريقة التي تحددون من خلالها بداية ونهاية الشهر؟

هذا الموضوع هو موضع خلاف فقهي، في جانبيه. الجانب الأول يطرح سؤال هل يؤخذ بالحسابات الفلكية، أو لا بد من الرؤية البصرية في الجانب الثاني؟ هناك رأي يقول إنه يجب رؤية القمر بالعين المجردة، أو قد يكون هناك امكانية استعمال المناظير او التلسكوبات.

هناك رأي كان يتبناه سماحة السيد، والذي يقول فيه إن الرؤية كانت وسيلة في الوقت الذي لم يكن هناك أي وسيلة اخرى. لماذا يذهب الشخص ليرى، أليس للتأكد من وجود الشيء؟

اليوم تطور العلم للدرجة التي تسمح بتحديد ولادة الهلال القمري، قبل أن يستطيع أحد أن يراه، ويمكننا من هذه اللحظة أن نحدد ولادة القمر في السنوات المقبلة. إذا استطاع العلم أن يوصل الإنسان إلى هذه القناعة، فلم يعد الإنسان محتاجاً إلى البحث عن الهلال بالنظر، خصوصاً أن موضوع الرؤية قد يعتريه الشك، نظراً لتلوث الجو، وفي بعض الأوقات تحجب بعض الغيوم الرؤية. لذلك نحن نقول إن الرؤية وسيلة وليست هدفاً.

هناك خلاف ثانٍ يتعلق بالسؤال حول هل إذا ثبتت الرؤية في بلد معين، يمكنها أن تثبت في بقية البلاد، أو يبقى لكل بلد خصوصيته؟ هناك رأيان لدى الفقهاء سواء كانوا السنة والشيعة، يؤكد صحة النظرية نفسها. وهناك رأي يقول إن لكل بلد خصوصيته.

نحن ندعو إلى توحيد الآراء، نظراً لكون وجود عدم بقاء هذا الموضوع محط خلاف كبير، أولاً لتوحيد الناس لأننا بحاجة إلى كل مفردات التوحيد، وثانياً لأن الناس وصلت إلى القمر، ونحن لم نستطع حتى هذه اللحظة التأكد من ولادة الهلال من عدمه، في الوقت الذي يعرف الناس فيه متى يحصل الخسوف والكسوف، وتوقيت الفجر والشروق والغروب.

في النهاية يمكننا القول إن هذه هي قناعات الفقهاء، ونتمنى أن يصلوا إلى قناعة واحدة.

 

من العالم

-برز من نحو أسبوع استحقاق جديد على الساحة العالمية بحيث اقرت الولايات المتحدة الأميركية حق المثليين بالزواج، فما رأيكم حول هذا الموضوع؟ وهل من الممكن أن نشهد زيجات مثلية في لبنان؟

هناك من يعمل على التسويق لهذا الموضوع، كأنه أمر طبيعي، حتى أنه لم يعد مستهجناً أن تخرج بعض الفئات في مظاهرات صغيرة لتطالب بهذا الحق.

برأينا، الموقف الديني واضح، نظراً لاعتبار الأمر غير جائز، ويسيء إلى إنسانية الطبيعة البشرية، وإلى ما بنيت عليه الحياة. فقد بنى الله الحياة على أساس الزوجين، الذكر والأنثى، وهذا لا يجب أن ندخله ضمن إطار الحرية، كونه من المفترض أن تقف الحرية عند العناوين الأساسية التي وجدت عليه الحياة.

الحياة مبنية على التزاوج والتوالد، وهذه الحالة شاذة وليس مفروضاً أن تتحول إلى حالة طبيعية. بعض الناس يحاولون أن يتذرعون بأن لهؤلاء حقاً في الحرية، ولكن إذا فتحنا باب الحرية في هذا المجال، فالأمور ستكون مفتوحة على احتمالات أسوأ.

 

-ما هو البديل برأيك؟ بعض الأشخاص يدعون إلى قتلهم ونبذهم؟ هل يحل قتلهم المسألة؟

لا بد أن تعالج هذه الظواهر، نظراً للأسباب التي ترتبط في كل حالة، هناك من يعتقد أن التربية هي السبب الأساسي، وهي جزء من الحالات المرضية التي تحصل في المجتمع ويجب أن تعالج. لن نقول إن العلاج سيحل المشكلة، إنما سيزيدها تفاقماً، وسيصبح لهؤلاء صفة المظلومية، وسيكثر من وجودهم، ونحن نقول يجب معالجة هذه الظواهر، ويجب أن يكون هناك صرامة في هذا الموضوع، لما له من تبعات سلبية على الجنس البشري.

 

-بعض رجال الدين يأخذون من دورهم مطية لأعمال يهدفون فيها إلى الكسب المادي غير المشروع، ويكثر عدد الشكاوى الصادرة عن الناس عن الفساد الموجود في المحاكم الجعفرية والمحاكم الدينية، وهناك بعض رجال الدين الذين يقدمون عروضاً للنساء المطلقات، في عقد زواجات متعة؟ فما رأيكم؟

السلك الديني موجود كسائر القوانين والقيم، إنما الواقع الذي تشير اليه موجود أيضاً، اوهو يخضع لطبيعة الناس الذين يتخذون من الموقع ديني رسالة ويشعرون بمسؤولية تجاهه، وهناك من يتخذه وسيلة للعيش. هناك من دخل إلى هذا السلك، نظراً لفشله في المجتمع، وهذه المشكلة كانت وما زالت.

من المفترض أن يكون للقيادات الدينية دوراً، في أن لا تسمح لهذه الظواهر أن تتفشى، ويجب إعادة تنظيم هذا السلم، كي لا يدخل إليه من هم ليسوا أهلاً له.

على المجتمع أيضاً أن يكون واعياً، ولا يجب أن يخضع أحد لاستغلال إنسان يحمل هذا العنوان، ويجب أن يتكون الرقابة فعالة أكثر، ولا سيما أن الرقابة سهلة في هذا الموقع، بسبب السلوك الظاهر والواضح في تصرفات الشخص.

المؤسسات الشرعية هي جزء من منظومة الدولة اللبنانية، ويتفشى إليها ما يتفشى إلى إدارات الدولة، من رشوة ومحسوبيات، وما أشرت له من استغلال لحسابات خاصة.

نحن ندعو الجهات الدينية إلى احترام خصوصية وتميز الموقع الديني، وأن يكون هناك صرامة في اتخاذ التدابير والقرارات ضد الأشخاص الذين يسيئون إلى هذا الموقع، نظراً لكونه يتصل بأعراض الناس.

 

-ما رأيكم بظاهرة اطلاق النار العشوائي خلال المناسبات في الهواء وإصابة الأبرياء؟

نحن اطلقنا عدة مواقف في هذا الخصوص، وقلنا إنه لا يجوز هذا الأمر تحت اي اعتبار، مهما علا شأن الشخص، نظراً لأن هذا الأمر يؤدي إلى إرعاب الناس، عدا عن أن هناك من سقط قتيلا أو جريحاً، ونحن دائماً نقول إنه يتحمل مسؤولية كل من قتل وأرعب واخاف الناس، لأن الظروف الحالية سيئة، وبعض الأشخاص يطلقون القذائف الصاروخية في الصباح الباكر والرصاص. نعتبر أن هذا الأمر من الكبائر.

 

في السياسة

-كيف تصفون العلاقة بينكم وبين حزب الله بعد دخوله إلى سوريا؟

علاقتنا مع حزب الله هي علاقة جيدة، ومبنية على الحوار. من الطبيعي أن يكون لنا رأي في هذه القضية أو تلك، وفي جانب ديني او غير ذلك، ولكن في النهاية، مفترض أن يكون الحوار دائماً، هو الطابع الذي نتعامل فيه مع الذي قد نختلف معه، وكذلك من باب السعي إلى تعميق اللقاء في مواقع مشتركة، ولذلك من الطبيعي أن نكون منفتحين على حزب الله وحركة أمل وعلى كل المرجعيات الدينية في الساحة الشيعية، وطبعاً مع كل المرجعيات على الدائرة السنية والمسيحية، ورسالتنا هي رسالة الحوار والانفتاح، وأكيد يجب الإنفتاح على القريبين منا، وأن نساعد على تعزيز الساحة الشيعية والاسلامية والوطنية.

 

-ما رأيكم بالجرائم التي ينفذها تنظيم داعش؟

هو كيان وجد على أساس التفنن في القتل وهي وسيلته ليدخل الرعب في قلوب الناس، ولكي تفتح الأبواب له سريعاً، وهو الأسلوب الذي اعتمده الكيان الصهيوني، الذي يقوم على الترهيب. نعتبر أن ما يفعله هؤلاء لا ينطلق من أسس دينية صحيحة، ولذلك نرى أن فهمهم للإسلام يسيء إلى المسلمين.

 

-ما هي رسالتك إلى اللبنانيين؟

نحن في مرحلة تضج بالفتن ومرحلة تقسيم المنطقة على خرائط مع الأسف ترسم بالدم. أتمنى أن لا نسمح لأحد أن يأخذنا إلى حيث يريد. علينا أن نحرص في هذه المنطقة على أن نعيش مع بعضنا البعض، مسلمين ومسيحيين، سنة وشيعة، وهذا هو خيارنا أن نعيش معاً، ويحتم علينا ذلك أن نعمق لغة التواصل والحوار، ونزيل الهواجس والمخاوف، وأن نشعر أن لا أحد يستطيع ان يلغي الآخر، والمرحلة بحاجة إلى استنفار الوعي، لأن هذه الفتن ستكون على حساب الجميع، ومن يعتقد أنه رابح، فهو بالتأكيد خاسر.

 

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …