غادرت أوستراليا قبل ايام قليلة بعدما امضيت فيها قرابة اسبوعين بين اهلي وأصدقائي الذين هاجروا من لبنان من دون أن يهجروه، وبعدما عمَّقت الصداقات التي كوّنتها مع النخب الأوسترالية من أصل لبناني وما أكثرها، التي “بيّضت” وجه الوطن الأم بنجاحها في كل المجالات، وبالمساهمة في بناء هذه الدولة المتقدمة. غادرتها وفي قلبي شعوران عميقان حيال مواطنيها اللبنانيي الاصل. الأول الفخر والاعتزاز لأنهم يعيشون وطنهم الأم فيها، ولا يقطعون “سيرته” ويتحسّرون على أيام عزِّه وإن قصيرة، ويصلّون كي تعود.
أما الشعور الثاني فهو انهم أسّسوا لبناناً خاصاً بهم في أوستراليا مطابقاً للبنان الذي عرفوه. أقلقني ذلك لأن فيه أيضاً انقسامات سياسية وطائفية ومذهبية وعشائرية و”زعاماتية”، علماً أن فيه أيضاً نُخباً أو مجموعات تؤمن بأن استمرار لبنان الكيان والوطن وقيام دولة العدل والمساواة والديموقراطية فيه لا يتحققان إلا بحصر مواطنيه ولاءهم بهما وحدهما. لكن قلقي لم يرعبني. فهذا اللبنان الأوسترالي المنقسم أفقياً وعامودياً يتعايش أبناء شعوبه. يتصادقون ويتنافسون في العمل كما في السياسة، وأحياناً يتقاتلون ولكن من دون أن “تنزل نقطة دم واحدة”. ولا أريد أن أحرم لبنانيي أوستراليا أي فضل في الإنجاز المذكور. فحاجتهم إلى بناء مستقبل لهم ولعائلاتهم، والتزامهم القوانين والأنظمة، والخوف من الغرق في الفوضى الداخلية كما الخارجية التي عاشها لبنان، والتي قد تتسبّب بضياعه، كل ذلك دفعهم إلى العمل والعمل والعمل والدراسة والبناء. لكن الفضل الأكبر في ذلك كان ولا يزال لدولة أوستراليا التي تنتمي إلى العالم الأول الذي ظن اللبنانيون أن دولتهم جزء منه، أو حلِموا بذلك على الأقل. فهي دولة قانون وعدل ومحاسبة وحرية وديموقراطية ومسؤولية. وهي دولة رعاية إجتماعية كاملة، ودولة فرص لا يمكن حصرها بعدد أو بأعداد. عوّدت شعوب لبنان المنقسمة على الإلتقاء كأصدقاء إذا وجدت الصداقة وهي موجودة، وكأبناء وطن أم واحد في المناسبات وما أكثرها في أوستراليا، رغم انقسامات التقاتل القديم الذي لم تندمل بعد جروحه، ورغم أشباح التقاتلات الجديدة الأكثر خطورة من كل ما شهده الماضي.
هذا العيش المشترك أُصلّي أولاً لله عزّ وجل كي يحافظ عليه لبنانيو أوستراليا بل كي يعمّقوه ويجعلوه قاعدة عامة. وأُصلّي كي لا تفرزهم الانقسامات التي حملوها معهم، والتي يأتي بها إليهم “النافذون” في وطنهم الأم، مجتمعات تعتزل بعضها بعضاً أو “غيتوات” لا سمح الله. وأُصلّي أخيراً كي ينقلوا إلى وطنهم الأم تجربة التعايش هذه، إذ ربّما يرتاح ويرتاحون ويكمّلون مسيرتهم في وطنهم الجديد من دون أن ينسوا الوطن الأم. فـ”تنقيز” أوستراليا ودولتها وشعبها وتهديد أمنها ونظامها سيؤذيان الجميع. وهذا ما فعله أشقاؤهم في لبنان.
في النهاية، صارحت أصدقائي وأهلي وأخوتي لبنانيي أوستراليا وقلت لهم لبنان ليس جيداً حالياً وإن مستقبله مجهول، ولخّصت وضعه في حفل إطلاق كتاب الصديق والزميل سايد مخايل “القلب المفتوح” الذي ضمّ فاعليات لبنانيي تلك البلاد على تنوّعها. قلتُ:
أولاً نعيش اليوم في لبنان عدم استقرار أمني مضبوطاً. ولا يعني ذلك عدم حصول خربطات أمنية مثل عمليات تفجير أو اغتيال (قبل استهداف السفارة الإيرانية). وأقول اليوم إن ما حصل أخيراً قد يُنهي الضبط المشار إليه.
ثانياً: نعيش فيه أيضاً عدم استقرار سياسي قد يكون صار عصياً على الضبط.
ثالثاً: لا حلّ في لبنان قبل حلّ أزمة سوريا. ولا حلّ لها قبل تفاهم أميركا وإيران أو تحاربهما مباشرة. ولا حل لإنفجارات المنطقة قبل إتفاق أميركا وروسيا، بل لا حلّ قبل قيام نظام أقليمي جديد في الشرق الأوسط.
فإذا كانت الحال على ما وصفت، وإذا كان اللبنانيون صاروا أسرى تحالفاتهم مع الخارج المتنوّع، إذ لا تحالف بين دول كبيرة وطوائف ومذاهب صغيرة، فهل كثير عليهم أن يعملوا لا لحلٍ لا قدرة لهم على وضعه بل للإبقاء على الوضع الحالي بسوئه تلافياً لأن يُصبح أسوأ؟
ختاماً أشكرُ أهلي وأخوتي وأصدقائي وأحبائي في أوستراليا على حسن الإستقبال والاستماع.
سركيس نعوم – النهار