كيف تتوب الأمّة توبتها النّصوح ؟

ألقى سماحة السيّد جعفر فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

في هذا اليوم، يقفُ المسلمون بكلّ ألوانهم وألسنتهم وأجناسهم على صعيدٍ واحدٍ، يستظلّون السماء ويلتحفون الأرض، يستنزلون الرّحمةَ من اللهِ الّذي جمعهم بنداءِ إبراهيم منذ فجر التّاريخ..

هذا اليوم هو يومُ دعاءٍ وتضرُّعٍ ومسألةٍ..

هو يومُ تذكُّرٍ للوقوفِ بين يدي الله، يومَ يبعثُ الله الخلائق لتلقى ما قدّمت أيديها.. فإمّا إلى نعيمٍ، وإمّا إلى لعنةٍ خالدةٍ..

وهذا اليومُ هو يومُ تفكُّرٍ وتأمُّلٍ أيضًا..

تفكُّرٍ في ارتباطنا بالله عزّ وجلَّ.. نعم، نحن في حاجةٍ إلى إعادة النّظر في نوعيّة ارتباطنا بالله تعالى؛ لأنّنا قد نجد أنّنا في واقعنا لا نعرفُ موقعنا من ربِّنا، وبالتّالي نجهل كثيرًا من مسؤوليّاتنا في الحياة…

أبعاد التّوبة

قد تفيضُ الدّموعُ من أعيُننا خشوعًا في صلاةٍ أو في دعاءٍ، في هذا اليوم أو غيره.. وكُلٌّ منّا يرومُ التّوبةَ النّصوحَ.. لكنْ هلّ فكَّرنا ما هي التّوبةُ النّصوحُ؟ هل هي أن ندعو الله أن يتوبَ علينا فحسب، أم أنّ التوبةَ مسارٌ ثلاثيّ الأبعاد؛ وما لم نحقِّقْ هذا المسار، فلن تكون التّوبةُ نصوحًا؟

البُعد الأوَّل: التّغيير الوجداني النفسيّ، وهذه هي دلالة أنَّ من شروط التَّوبة النّدم على ما فات؛ لا ندمَ من دونِ إخلاصٍ، ولا إخلاصَ من دونِ وعي أهمّيّة الاستقامة، ولا وعي لأهمّية الاستقامة من دون إدراكٍ لفلسفة الذّنب وتأثيراته في النّفس وفي المجتمع والحياة، عندما يتحوّل من سلوكٍ فرديّ إلى ظاهرةٍ يقومُ بها المجتمع.

البُعد الثّاني: تغيير في القرارات الاستراتيجيَّة لسلوكنا، وهذا ما يعبَّر عنه بالعزم على عدم العود إلى الذّنوب. ولا تغيير في القرارات من دون وعي الظّروف الّتي أدَّت إلى الوقوع في المعصية، ولا وعي للظّروف من دون دراسة كلّ إنسانٍ لواقعه المحيط به، سواء في حياته الفرديَّة أو في حياته الاجتماعيَّة.

البُعد الثّالث: الإصلاح، وهنا قد يكون لدينا نموذجان من النّاس: نموذجٌ يريد الإصلاح من دون أن يحرّك إرادته في سبيل تغيير الظّروف المحيطة به، والّتي كانت سببًا في تزيين الحرام والمعصية؛ وهذا النموذج يبقي نفسه في جوّ مليءٍ بالعناصر الّتي قد تضعف مناعته، ولذلك يعصي من جديد.

أمّا النموذج الثاني، فهو الذي يعمل على تغيير الواقع من حوله، لتكون الظّروف مساعدة للطّاعة لا للمعصية، وللقرب من الله لا للبعد عنه، وللعمل الصّالح لا العمل الفاسد.

هذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {إلّا من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا فأولئك يبدِّلُ الله سيّئاتهم حسناتٍ وكان الله غفورًا رحيمًا ومن تاب وعمل صالحًا فإنّه يتوب إلى الله متابًا}[1].

توبة الأمّة

وإذا كان هذا هو مسار الفرد لتحقيق التّوبة النصوح في حياته الشخصيّة، فإنّ هناك توبة الأمّة، والّتي تتطلّب مسارًا مشابهًا، يعمل على تغيير البنية النفسيّة للأمّة، في توجّهاتها التي تقارب بها القضايا… كيفَ نتوبُ كأمّة إلى الله من صراعاتٍ ولا نزال نعيشُ العصبيّة المذهبيّة والحزبيّة والقبليّة وما إلى ذلك؟! وهذا المسار يعمل على أن تعيد الأمّة دراسة قراراتها وتوجّهاتها السابقة، في كيفيّة إدارة اختلافاتها وصراعاتها فيما بينها.. وعند ذلك، يكون من واجب الأمّة أن تحرّك كلّ العناصر الّتي أدّت إلى معصيتها توجيهات نبيّها، ولا سيّما في حجّة الوداع، حيث روي عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (ص) في حجَّة الوداع: “يا أيها النّاس، أيُّ يوم هذا؟ قالوا: هذا يومٌ حَرَامٌ! قال: أيُّ بلدٍ هذا؟ قالوا: بلدٌ حَرَام! قال: فأيُّ شهرٍ هذا؟ قالوا: شهر حرام! قال: إنَّ أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحُرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا. ثم أعادها مرارًا، ثمَّ رفع رأسه إلى السّماء فقال: اللّهمَّ هل بلّغت. مرارًا. – قال: يقولُ ابنُ عبّاس: واللهِ إنها لوصيّة إلى ربِّه عزَّ وجلَّ – ثمَّ قال(ص): ألا فليبلِّغ الشّاهد الغائب! لا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقابَ بعضٍ”[2].

ليست التّوبة هي أن نسجِّل نقاطًا على بعضِنا البعضِ، ليحمّل كلُّ فريقٍ المسؤوليّة للفريق الآخر؛ لأنَّ هذا يعني أنّ شيئًا من مشاعرنا النفسيّة وطريقتِنا لم يتغيّر، بل هذه طريقَتُنا منذ أن اختلف المسلمون بعد رحيل رسول الله(ص)، قدَّسنا كثيرًا من أساليب الماضين حتّى حسبناها دينًا… كيفَ لنا أن نتوبَ ولسنا مستعدّين أن نعيد النّظر في تعاطينا ذلك؟!

الخطبة الثانية

يمرُّ الواقعُ الإسلاميّ في هذه المرحلة في حلقةٍ خطيرة وغير مسبوقة؛ لأنّ التحدّيات لا ترتبطُ بصراعٍ سياسيّ وأمنيٍّ فحسب، وإنّما طفا على سطحها بُعدٌ عقيديّ فقهيّ فكريّ، بات يهدّد، ليسَ الطّرحَ الإسلاميّ للحكم والدّولة فقط، وإنّما الإسلام كدينٍ، وكخيارٍ حضاريٍّ يُمكن أن يرقى في تجربته إلى قيادة الحضارة الإنسانيَّة على أسس صحيحة.

حرب على ذهنيّة الأمّة!

وممّا يؤسَفُ له، أنَّ من العوامل الّتي أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، أنَّنا كمسلمين استغرقنا خلال العقود الماضية بصراعاتنا فيما بيننا، واستنزفنا طاقاتنا على التّجييش ضدّ بعضنا البعض، باسم الحالة المذهبيّة تارةً، والحالة القوميّة أخرى، والحالة الحزبيّة ثالثةً، وما إلى ذلك من انقسامات، وخلّدنا الهزائم الّتي منينا بها ضدّ أعدائنا واحتفلنا بها، وتنكّرنا لكلّ الانتصارات الّتي حقّقناها ولم نبنِ عليها، وكان الشّغل الشّاغل لكثير من المثقّفين ورجال الدِّين، هو كيف ينظّرونَ لكلّ هذا الوضع السياسيّ المتأزّم، عبر الإعلام والنّشر والفتاوى وما إلى ذلك، لا كيفَ يؤسِّسونَ للمستقبل ومواجهة تحدّياته؛ حتّى بتنا أمّة مفكّكة الأوصال، سهلةً لكلّ طامعٍ، وساحةً لكلّ محتلّ.

لقد تركنا كمسلمين كلّ عناصر قوّتنا، حتّى أوصلنا الأمور إلى الاستعانة بالمستكبرين، الّذين أطلقوا عنوان محاربة الإرهاب كأساس للدّخول إلى مناطقنا عبر الطّائرات التي تقصف، وعبر الجيوش التي تحتلُّ، وبدأوا – بشكلٍ غير مباشر – يهيّئون الأرضيّة للنّفاذ إلى مناهجنا، ليستبدلوا بها غيرها بما يتناسبُ مع مصالحهم ومنهج تفكيرهم، تحت منطق عجزنا وضعفنا عن اجتراح الحلول لأنفسنا، ومن يرفُضْ، فسيكون مع هذه النّماذج الّتي وضعت في دائرة الإرهاب.

إنّ ما يجري اليوم هو حربٌ على ذهنيّة الأمّة، ليست حربًا على الإرهاب عسكريًّا وأمنيًّا وسياسيًّا فحسب، وإنّما هي حربٌ على صورة الإسلام الحضاريّ، وتكريسٌ لصورةٍ مشوّهة وحشيّة، تجعل من الإسلام مسخًا ينبغي القضاء عليه، حتّى وجدنا أنَّ “إسرائيل” القائمة على الإجرام والعنصريَّة أصبحت تزايد في هذا الأمر.

ما معنى أن يجري ربط الإرهاب بالإسلام؟ وهذا بدأ منذ عقود، وكان هناك إصرار على عدم تقديم تعريفٍ واضحٍ لمفهوم الإرهاب؛ لماذا؟!

ما معنى أن يُربطَ مفهوم الخلافة اليوم بممارساتٍ وحشيّة لا تمتّ إلى الإسلام بصلة؟!

ما معنى الحديث الاعتباطي عن عدم الفرق بين حركات المقاومة في العالم الإسلاميّ والمنظّمات المفْسِدة في الأرض؟!

واليوم: ما معنى أن يتمَّ الرّبط بين مفهوم “الدّولة الإسلاميّة” والوجه الوحشيّ العنفيّ الّذي لا يمتّ إلى البُعد الإنسانيّ بأيّ صلةٍ؟!

هل المراد أن يؤسَّسَ – تحت ضغط الإعلام والصّور المتلاحقة – للحرب المقبلة الّتي سيكون صريحًا حينَها عنوانُها: الحرب على الإسلام؛ لأنّه لم يعد في أذهان النّاس من فرقٍ بين الإسلام والإرهاب! ويتمّ من خلال ذلك الخلط بين كلّ التّجارب الإسلاميَّة، سواء في العقيدة أو الفكر أو في بناء الدّولة أو ما إلى ذلك!

أزمة العالم الإسلاميّ

إنّ المشهد الإسلاميَّ بالغُ التعقيد؛ فمنَ الأمَّة من لا يدرون ماذا يفعلون! ومنهم من لبس لبوس الإحباط أو التعصُّبِ حتّى أعماه ذلك عن فهم ما يجري! ومنهم من يعرفُ أنّه يخدم مخطّطاتٍ كبرى! وحكّامٌ، وحتّى رجال دينٍ، لا يفكّرون في شيء اسمُهُ عالم إسلامي ومشروع إسلامي حضاري، وأعداءٌ يتربَّصون بنا الدّوائر!

إنّنا نعتقد أنَّ العالم الإسلامي قادرٌ – لو تكاتفَت جهودُه – على حلّ مثل هذه المشكلة، ولكنّ العالم الإسلاميّ نفسه في أزمة: أزمة عقل ومنهج، وأزمة علاقات وأخلاق، وأزمة هويّة حضاريّة، وما هذه الظّواهر التي نجدها اليوم سوى أحد إفرازات تلك الأزمة.

إنّنا نعتقد أنّ على الفصائل الواعية في الأمّة أن تتحرّك في خطّين إذا أردنا:

الخطّ الأوّل: إبقاء العين مفتوحةً على مخطّطات الاستكبار العالمي، والّذي يتداعى إلينا اليوم كما تتداعى الأكَلَةُ إلى قصعتها؛ وإبقاء كلّ أوراق القوّة في مواجهته حاضرةً لاستثمارها في أيّ وقت، وهذا ما يفترض أقصى درجات الإعداد والتّعاون بين مكوّنات الأمّة، بغضّ النظر عن اختلافاتها وتبايناتها الحاليّة.

الخطّ الثّاني: الخطّ الفكريّ والثّقافي الّذي لا يستغرق في ما يجري في اللّحظة الرّاهنة، بل يعمل من أجل تحصين السّاحة الإسلاميّة، ومواجهة كلّ التحدّيات الفكريّة والثقافيّة الّتي تواجه أجيالنا الحاليّة والقادمة، حتّى نؤمّن الأرضيّة الّتي نملك فيها تحويل أيّ تحدٍّ إلى فرصةٍ للقوّة والنصر والتقدّم في قيادة الأمّة؛ وهذه ليست مسؤوليّة رجال الدين فحسب، وإنّما هي مسؤوليّة الجميع، لقد قال الله تعالى: {وما كان المؤمنونَ ليَنْفِروا كافَّةً فلولا نفرَ من كُلِّ فرقةٍ منهم طائفةٌ ليتفَقَّهوا في الدِّينِ وليُنذِروا قومَهُم إذا رجعوا إليْهِمْ لعلَّهُم يحذَرون}؛ وفقه الدِّين هو فقه كلّ ما تحتاجه الحياة، في بنائها الحضاريّ، وقيمها الرّساليّة. المسألة هنا تشبه النّفير العامّ، وليس لأحد أن يستبعد أحدًا، تحت أيّ اعتبار؛ المسلمون بكلّ ألوانهم مسؤولون!

[1] سورة الفرقان، الآيتان 70-71.
[2] ابن حنبل، مسند أحمد، ج1، ص230.

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …