ثمّة فرقٌ بين أن تُطلق اسم “العدوّ الصهيوني” أو “الإسرائيلي” على الوجود البشري الذي احتلَّ فلسطين، واغتصب أرضَها ودُورَها وطردَ شعبَها، وأن تعبّر عن فعلِهِ بـ”الاحتلال” و”العدوان” و”الاستعمار”، وبين أن تقول: “إسرائيل”، أو “الشعب الإسرائيلي”، أو “المواطنون” أو المدن والقرى “الإسرائيليّة”.
وهناك فرقٌ بين أن تختار عنوان “فلسطين”، وتستخدم مصطلح “التحرير” للإشارة إلى قضيّتها، أو “العودة” لرجوع أصحاب الأرض إلى ممتلكاتهم، أو “المهجَّرين”، و”الصراع العربيّ الإسرائيلي”، وبين أن تختار عناوين من قبيل “النزاع الفلسطيني الإسرائيلي”، أو “اللاجئين” أو “عرب 48” أو “غزّة” و”الضفّة الغربيّة” أو “أراضي 67″، وغير ذلك.
إنّ كلَّ تسميةٍ أو وصفٍ ممّا سبق يعكسُ بُعداً من أبعاد الصراع، ووجهًا من وجوه النظر إلى الموضوع، يُمكن أن تخفي البُعد الأساسيّ خلفَها، وتتبدّل على أساسه قاعدة الصراع، ومعايير التقويم حتّى للذات وهويّتها، وآليّاتها وطموحاتها، وقد ينعكسُ ذلك على المنهج التثقيفي والتربوي والمقاربة الإعلاميّة والسياسيّة، وقد يفتحُ، نتيجةَ المتغيّرات والضغوطات الواقعيّة المتنوّعة والمتسارعة، على تنازلات تُصبحُ “مقبولة” بعد أن كانت “لاءاتٍ” حاسمة وراسخة؛ حيثُ وجدنا أنّه خلال عقدين من الزمن تحوّلت اللاءات العربيّة: (لا صُلح ولا تفاوض ولا اعتراف) بالكيان الصهيوني، إلى حركة تنازليّة لدى الأنظمة العربيّة، قد تخفي ضمنًا حالة الاستقالة الفعليّة من قضيّة التحرير واستعادة الأرض وصون المقدّسات وفرض العودة للشعب الفلسطيني إلى أرضه، ومشكلة هذه الأنظمة هي أنّها غير قادرة على مصارحة الشعب بما توصّلت إليه، لكون فلسطين قضيّة متجذّرة في وجدانه، بل في أدبيّاته الدينية؛ الأمرُ الذي دفع نحو إنتاج ظروف قُصد من خلالها إلى تدجين الشعوب وتطبيع ذهنيّتها بتقبّل الاحتلال، بل واعتبارهم أحيانًا من ضرورات التطوّر في الاقتصاد والعلم وما إلى ذلك.
وتفرُضُ طبيعةُ المحدوديّة في الأبعاد التي تختزنها التسميات قياسًا إلى أبعاد الواقع نفسِهِ، أنّه لا يُمكننا استحضارُ كلِّ أبعاد الموضوع من خلال إطلاق اسمٍ أو وصفٍ ما على ذلك الموضوع، ولذلك نجد أنفسنا مجبرين على الإشارة إلى الموضوعات والأشياء والأفراد عبر تسميات أو توصيفات محدّدة تركّزُ على بُعدٍ أو جانبٍ معيّنٍ منها؛ وعندئذٍ سيمثّل اختيارُ تسمية أو وصف من بين تسميات وأوصاف مُفترضة في حدّ ذاته موقفًا وحُكمًا يستند إلى مبرّرات الانتقاء في اللحظة التاريخية والظرف المحيط.
إذًا، إطلاق اسمٍ أو وصفٍ ما على موضوع معيّن يُعدُّ اختزالاً للموضوع في بُعدٍ من أبعاده، قد يكونُ بهدف إعطائه قيمة إيجابيّة أو سلبيّة، وبذلك تختزن التسمية، أو التوصيف، حُكماً قيميّاً يتمّ تكريسه عبر الربط المتكرّر بينه وبين الموضوع، بما قد يؤسِّسُ لذهنيّة عامّة أو صورةٍ نمطيّة قد تتحوّل إلى أيديولوجيا ثابتة على مرّ الزمن.
على أساس ما تقدّم، نحاول أن نقارب مسألة الجدل الذي أثير حول مسألة إدراج كلمة “المقاومة” في البيانات الوزاريّة للحكومات اللبنانيّة، من دون الدخول في الجدل التفصيلي حول المبرّرات، التي هي ـ في جزءٍ منها على الأقلّ ـ عمليّة اختزالٍ للمقاومة في حدثٍ أو أحداثٍ معيّنة، واستبعادٍ لجوانب كثيرة من الصورة الذهنيّة التي تتشكّل في الحقلِ اللغوي الدلالي المتشكّل من الاستخدامات اللغويّة للمفردات المتنوّعة.
ولا بدّ أن نؤكّد هنا أنّنا نتناول المقاومة كمشروعٍ وخيارٍ في إدارة حركة الصراع الدائر في منطقتنا وعليها، يتحرّك ضمن عوامل جيو/سياسيّة وإستراتيجية وربّما وجوديّة وحضاريّة، بعدما أقحمت كثيرٌ من أوجه الصراع ضمن هذه التسمية ـ أي الوجوديّة والحضاريّة ـ كـ”نهاية التاريخ” و”صراع الحضارات” وما إلى ذلك. والمقاومة ضمن هذا المشروع هي أكبرُ من أن يتمّ حصرها في مجالٍ جغرافيّ أو مذهبيّ، أو في أسلوبٍ معيّن؛ لكنْ بلا شكّ لا بدّ أن يقومَ عمودُه الفقريّ على المقاومة المسلّحة في مواجهة كيانٍ قائمٍ على العسكرة والتوسّع والعدوانيّة والعنصريّة…
من الناحية الدلاليّة اللغويّة، فإنّ مفردة “المقاومة” هي مفاعلةٌ، تختزن معنى ردّ الفعل تجاه قوّة خارجيّة ضاغطة، وهذا المعنى ينسجم مع الواقع؛ لأنّ المقاومة نشأت كردّ فعلٍ على احتلال الصهاينة لفلسطين ولبنان ولأجزاء من الدول العربيّة، بما شكّله ذلك الاحتلال حالة عدوانيّة مستمرّة، ومشروع توسّعيّ، وعقبة كأداء أمام أي تقارب عربيّ وإسلاميّ، فضلًا عن أي وحدة عربية وإسلاميّة. باختصار: المقاومة ردّ فعلٍ على مشروعٍ يستهدفُ ضربَ الوجودِ الحضاريّ للأمّة العربية والإسلاميّة، وليست مسألة ذات بُعد واحد.
ومن الناحية السوسيولوجيّة، لا يُمكن النظر إلى الجدل حول “المقاومة” على أنّه مسألة لغويّة بحتة؛ لأنّ مُفردة “مقاومة” هي مفهومٌ مثَّل مساحة تراكم حقيقي واقعيّ لسلسلة من المعاني المرتبطة بالصراع المركزيّ وهويّته التي ارتكزت إلى عمليّة صناعة القوّة، بما تعنيه هذه العمليّة من مسارٍ يتمّ فيه تفعيل كلّ الطاقات الكامنة في المجتمع المقاوِم في سبيل تحقيق الأهداف. وقد رأينا كيف طوّرت المقاومة بعض الصناعات العسكريّة والخبرة الأمنيّة، كما طوّرت مقاربتها للنُّظُم الإدارية والإعلاميّة، بمعزلٍ عن حجم التطوّر قياسًا بما عليه دولٌ كبرى في هذا المجال. وبذلك يختزنُ مفهومُ المقاومة سلسلة من النجاحات في هذا المجال، وأخذت المسألة مدًى أوسع في التطوّرات العلميّة والعسكريّة التي شهدتها الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، كجزءٍ من عمليّة مقاومة الحصار المفروض عليها منذ انتصار الثورة، بهدف المحافظة على الوجود تبعاً للتحدّيات الخارجيّة المتزايدة في هذا المجال.
كما أنّ مفهوم المقاومة اختزن تبلور نمط التفكير الاستراتيجي في مقاربة قضايا الأمّة، ذلك النمط الذي يرصد الأحداث وأبعادها في مساحةٍ أبعد من دائرة الأفراد والجماعات المنغلقة في إطارها الذاتي أو الجغرافي، ويعكسُ نوعًا من الرؤيويّة التي تضع الأحداث ضمن سياقاتها الإستراتيجية، المرتبطة بتشابك العلاقات السياسيّة بين الدول، وبحركة المصالح التي تسخَّرُ لها الخطط العابرة للحدود.
واختزن مفهوم المقاومة عبر سنواتٍ من الجهاد، مفهوم الانتصار وإمكانيّته عبر التخطيط والإرادة والتدريب إلى جانب الإيمان، حتّى ذُكر أنّ ثمّة مدرسة جديدة في القتال تمخّضت عنها بعض التجارب الجهاديّة، والتي منها حرب تمّوز 2006م.
وفي موازاة ذلك، كانت فكرة المقاومة تطوّر الاجتهاد في فقه الجهاد والدفاع، حيث كانت حركة الواقع تفرض إشكاليّات تتطلّب إجابات شرعيّة عليها، كما أنّ الحركة السياسيّة التي كانت تنشأ وتنمو طبيعياً إلى جانب المقاومة الجهاديّة، كانت تُحرّك خطوط الفكر الإسلامي للتنظير في قواعد الحركة الإسلاميّة وأسلوبها، وقواعد العمل الإسلامي وآليّاته . ولذلك نجد أنّ المقاومة لم تكن مجرّد حالة عسكريّة تنشأ من فكرٍ سطحيٍّ في مواجهة التحدّيات الميدانيّة أو غيرها، كما نجده عند بعض الحركات الجهاديّة التي دفعتها سطحيّتها إلى منحًى إقصائيّ تدميريّ لذاته ولما حوله، ولم تكن سياسة المقاومة ذات أسلوب واحدٍ بعيدٍ عن المرونة والواقعيّة ودراسة المتغيّرات وحجم التحدّيات، إلى غير ذلك.
لقد التصقَ بحركة المقاومة خلال تاريخها مفاهيمُ، تطوّرت حُكمًا، حول الوطن والعلاقة مع الآخر المذهبي في المشروع التحرّري المشترك، والآخر القومي استنادًا إلى زخم الحركة القوميّة فيما يرتبط بمقاومة الاحتلال وتوحيد الجهود العربيّة، والآخر الديني فيما يرتبط بأدبيّات المواطنة والعيش المشترك، والآخر الغربي فيما فرضته آليّات الصراع السياسي من جهة، أو أدبيّات التقارب الإنساني تجاه القضايا الإنسانيّة المشتركة كخطوةٍ لتوسيع قاعدة الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعوب العربيّة والإسلاميّة، وبيان مخاطر السياسات الاستكباريّة التي تكيل بمكيالين وتتنكّر للأعراف والشرائع الدوليّة والقيم الأخلاقيّة والإنسانيّة.
نعم، من الممكن أن يكون رافَقَ تجربة المقاومة، سواء في بداية نشأتها أو خلال مسار تطوّرها، أحداثٌ سلبيّة أو أخطاء على مستوى الخطاب أو الأداء؛ لكنّها ـ قياساً إلى ما تقدّم ـ يُمكن أن تكون طارئة وليست حالة متجذّرة في المفهوم. وأيّاً هو الحال، فذلك لا يبرّر اختزال المفهوم بالسلبيّات والقيام بعمليّة طمس لأبعاد المفهوم الآنفة الذكر، ولاسيّما إذا قسنا الأمر بأهمّية ما تمثّله المقاومة كمشروعٍ على مستوى أولويّات الصراع، ومركزيّة القضيّة لكلّ بلدٍ عربيّ مهدّد، كما للأمّة جمعاء.
واستناداً إلى ما تقدّم، يستطيع المرء أن يعتبر أنّ استبدال كلمة بأخرى يمثّل إيجاد حقلٍ دلاليّ آخر، ومسار تراكميّ لمفاهيم ومعانٍ وآليّات مختلفة، قد تقطع مع كلّ ما سبق من تراكم ٍكُتب بالدم والجراح والألم، كما بالانتصار والإنجاز وصناعة القوّة في عالمٍ لا يفهم غير لغة القوّة، بما جعل منه حركة في خطّ التطوّر الاجتماعي والسياسي والأمني والثقافي وما إلى ذلك، وليس مجرّد سلوكٍ عسكريّ.
ومن الطبيعي عندئذٍ تفهّم أن يعتبر أحدٌ ما أنّ الإصرار على شطب الكلمة لا يمثّل مشكلة تعبيريّة لغويّة، بل موقفاً سلبيّاً تجاه مفهوم تلك الكلمة بكلّ أبعاده، والتي منها خياراتٌ مرتبطةٌ بطبيعة الصراع، في ظرفٍ حسّاسٍ جدّاً من تاريخٍ يُراد له أن يشطب قضيّة فلسطين بكاملها، على وقع الفتن العابرة للدول والكيانات والمجتمعات.
وإذا كان جزءٌ من هذا التعقيد في الجدل حول الكلمة، أو الموقف، صادراً من حالة كيديّة مجرّدة، فالأمر قد يُشير إلى مشكلة في الذهنيّة السياسيّة التي تُدار فيها الأمور على مستوى الوطن ومستقبله، والصراع الأوسع في مساحة المنطقة وتداعياته.
ما من شكٍّ أنّ هناك هواجس نفسيّة واجتماعيّة، ينشأ بعضُها من ذهنيّة ارتاحت إلى تحقيق التوازن عبر منطق الضعف والاستضعاف للذات، كما أنّ هناك إشكاليّات لها علاقة بكيفيّة المواءمة بين التعريف السياسي والقانوني للدولة وبين المقاومة؛ وواضحٌ أنّ في البلد خياراتٍ متعدّدة قد تصل إلى حدّ التباين فيما خصَّ أموراً كبيرًة تتعلّق بالصراع وهويّته والمستقبل وشكله، ولكنَّ ثمّة قواعد وضوابط سياسيّة وواقعيّة عامّة، تُصاغُ على أساسها الدول، وتتحرّك عليها الحكومات، ويُبنى على قاعدتها المستقبل، والتي من أبسط مفرداتها أن يتمّ ملاحظة المحيط والتحدّيات؛ إذ هناك فرقٌ بين أن تصوغ هيكليّة الدولة في بلدٍ اسكندنافيّ مثلاً، وبين أن تصوغه في منطقة زرع فيها كيانٌ توسّعيّ، قائمٌ على التهديد المستمرّ لكّل ما يناقض وجوده العنصريّ، مع غيابٍ لفاعليّة القوانين الدوليّة التي اختبرنا تحيّزها، وما إلى ذلك من عوامل مرتبطة بمفهوم الاستقلال والعزّة والكرامة وغيرها، تفترض أن تكون طبيعة الدولة مرنة مرحليّاً، ريثما تتغيّر الظروف والأوضاع؛ لأنّ القداسة للإنسان بوجوده الحيّ والحضاريّ والعزيز، وليس لهيكليّات إداريّة قد تكون ملائمة لمجالٍ، وغير ملائمة لمجالٍ آخر، تبعًا لطبيعة الاختلاف في الظروف والأوضاع والفرص والتحدّيات.
هذا الأمر يفترض أن يراعي أيُّ حوارٍ حول المقاومة أو الاستراتيجيّات الدفاعيّة عن الوطن، تشابك تلك العوامل، وتعقّد الخطط التي تستهدف المنطقة برّمتها، والخيارات المطروحة على طاولات المستكبرين تجاه مستقبل شعوبنا، وطبيعة المفاهيم الأساسيّة لقيام أيّ وجود عزيز؛ الأمر الذي يمثّل قاعدة لجدّية إنتاج خياراتٍ في الآليات المحقّقة للرؤية التي يُفترض أن تكون واحدة بعناوينها العامّة والإستراتيجية.
بقلم السيد جعفر فضل الله