قالوا في ذكرى السيد

آراء تظهر الحاجة إلى فكر سماحته في الظّروف الرّاهنة

في أجواء الذكرى الرابعة لرحيل العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض)، نطلّ في هذا التحقيق على الأدوار المتعدّدة للمرجع فضل الله، في مختلف الساحات الوطنيَّة والسياسيَّة، فضلاً عن دوره البارز في ترسيخ الوحدة الإسلاميَّة، وتفعيل الحوار الإسلاميّ ـ المسيحيّ.

يتضمَّن التحقيق مقابلات مع العميد الدكتور أمين حطيط، وسماحة الشيخ ماهر حمود، والأستاذ رشاد سلامي.

عَلَم لا تقوى الأعاصير على اقتلاعه

يعتبر الباحث والخبير الاستراتيجي، العميد الدكتور أمين حطيط، أنَّ من يتحدّث عن سماحة السيّد، يجد نفسه أمام عملاق إنساني متشعّب الاتجاهات الضّاربة في الأرض، التي تجذّره علماً لا تقوى الأعاصير على اقتلاعه، فالمرجع فضل الله استطاع أن يجعل من زيّه الديني باباً يدخل منه إلى كلّ إنسان، رافضاً بذلك أن يكون أسيراً للمحراب أو الفتوى المتوارثة، فالدّين في اعتقاده في خدمة الإنسان، والدين من أجل سلام الإنسان واليسر وتحصيل الراحة في الحياة.

ويتوقّف العميد حطيط عند عدة أمور أساسية في فكر العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، وفي مقدّمها إيمانه العميق بأنَّ الدين الإسلامي بقواعده وشرائعه، جاء من عند الله سبحانه وتعالى، وهو أفضل ما يمكن أن يصل إليه الإنسان لتنظيم أمور حياته.

ويتابع: “كان همّه الأساس كيف يأتي بالإنسان إلى الدّين، خلافاً للآخرين الذين كانوا يخطئون في التعامل والأسلوب، فيبعدون الإنسان عن الدين، فكانت مسيرة المرجع فضل الله السلوكيّة والإنسانيّة والفقهيّة، تنصبّ في إطار جذب البشر والإنسان والمجتمع إلى الدين، لأن سماحته كان يعتقد أن المجتمع الَّذي تحبك وتنسج علاقاته بمقتضى قواعد دينية صافية، يستطيع أن يسمو وينتج دون الوقوع في شرك الانحراف”.

أما المسألة الثالثة التي ميَّزت فكر السيّد، فتتمثّل في رأي العميد حطيط، بنظرة السيد فضل الله إلى أهمية العقل ودوره في مسيرة الإنسان، فيقول: “نصّ الله سبحانه وتعالى على العقل، وكرّم الإنسان بالعقل؛ هذا العقل الّذي جعله ميزة من مزايا الإنسان، الذي ينبغي أن يُحترم لذلك. ومعروف قوله المشهور عن العقل: احترموا عقول الناس، وكان للقلب موقع عنده، إلا أنّ الحكم الفيصل كان للعقل، كنت أتلمّس ذلك في كلّ نقاشاتي وجلساتي مع سماحته، فكان ينطلق بالحديث من قاعدة عقلية إلى قاعدة عقلية أخرى، متمسّكاً بما سبق، دون أن يمسّ عقل الآخر”.

ويشير العميد حطيط إلى مسألة الانفتاح الحواري على الآخر عند المرجع فضل الله: “على الرغم من أنّ السيّد كان يملك الحجّة إذا ما قارعها مع الآخرين، إلا أنه كان الدّاعي إلى الحوار، فمن يهرب من الحوار، في رأيه، هو الضّعيف، إما في إبراز حقّه، أو في حجته أصلاً. كان يعتقد أنّ من حقّ الآخر عليه أن يسمعه، ومن حقّ الآخر عليه أن يستمع إليه، كان يعتقد أنّ حواراً منفتحاً جادّاً، لا بدّ من أن يصل إلى نتيجة، وإن استهلك الأمر الكثير من الوقت لتحقيقه، وكان يعمل على قاعدة: أعمل ما أوتيت من عمر، وإذا قضى الله أمراً كان مفعولاً، أترك ويتابع غيري”.

فكر المرجع فضل الله حاجة ملحة لوقف الاقتتال والعنف
ويختم العميد حطيط قائلاً: “في ظلّ ما نعيشه اليوم من تقاتل في المنطقة، فإننا أحوج ما نحن إليه، هو فكر المرجع فضل الله، الذي كان يرفض العنف، ويدعو دوماً إلى حفظ السلم الأهلي، لإنتاج بيئة حوارية فاعلة، بعيداً عن لغة الزناد التي تقوم على مبدأ اغتصاب حق الآخر. أمام هذا المشهد المظلم والدموي في المنطقة العربية، نجد كم أن فكر المرجع فضل الله حاجة ملحّة لوقف الاقتتال والعنف، فلو عمل العالم بالحوار من منطلق الانفتاح على الآخر، لما دخلنا في الدياجير المظلمة التي نعيشها. وكلما اشتد الظلام والتقاتل، يتأكّد لنا كم أنَّ طروحات السيد كانت محقة، وكم هي بحق حاجة إنسانية لعالم اليوم!”.

رمز الممانعة والمقاومة

يعتبر الباحث والخبير يتحدَّث سماحة الشيخ ماهر حمود، إمام مسجد القدس في صيدا، عن علاقته بسماحة السيد التي بدأت في أوائل الثمانينات، قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان، منوّهاً بدوره الكبير في رصّ صفوف المسلمين وتوحيدهم، في وجه المؤامرات الإسرائيلية والأميركية، مشيراً إلى أنه كان يمثل رمزاً كبيراً للممانعة والمقاومة في وجه الاستكبار العالمي.

وفي ذكرى الرحيل، يستذكر الشيخ حمود المرجع فضل الله بهذه الكلمات: “لا شكّ في أننا نفتقد سماحة السيد أكثر من أي وقت مضى في هذا الظرف العصيب الّذي تنتشر فيه أفكار التكفير والإلغاء والقتل والذبح وما إلى ذلك من جرائم إنسانية جديدة. إنَّ هذه الأيام الصّعبة التي نمرّ بها، تظهر فيها الحاجة إلى الرّجال، كما يقال: “وفي اللّيلة الظّلماء يفتقد البدر”. إننا نفتقد سماحة السيّد من جهة، ومن جهة أخرى، نتلمّس أفكاره ومواقفه، وكلّ ما يمكن أن يعيننا على وحدة الصّفّ، ونبذ العنف، والتوجّه إلى العدوّ الواحد الموحد لنا جميعاً”.

تجاوز سماحته الحدود المذهبية والجغرافية والتاريخية في مواقفه وآرائه
ويضيف سماحته: “إنّنا نرى أنّ هذا الرّجل العظيم ترك لنا معالم لطريقنا، لا يمكن أن يهملها أحد إذا أراد الخير لهذه الأمّة، وأراد الوحدة للمسلمين، وأراد الخير لكلّ إنسان على سطح الأرض. لقد تجاوز سماحته الحدود المذهبية والجغرافية والتاريخية في مواقفه وآرائه، وأعطى مثالاً عظيماً، كالعلماء “الأحبار”، الذين يتركون آثارهم كما يترك الحبر الأثر على الورق. لقد ترك سماحته أثراً عظيماً في قلوب الناس وفي واقعهم، وفي واقع الفقراء والأيتام والمستضعفين الذي أنشا لهم المبرات والمؤسسات الكبيرة لرعايتهم”.

ويختم الشيخ ماهر حمود قائلاً: “نحن نرى أن آثار المرجع فضل الله وبصماته العظيمة الموجودة في المجتمع، تخفّف من وقع ألم الفقد الّذي نعيشه، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}[يس: 12]، وستبقى آثار السيد رضوان الله عليه، عظيمة وكبيرة وعميقة ومفيدة للآخر. رحمه الله برحمته الواسعة، وعوَّضنا كلّ خير بأبنائه الكرام وتلامذته ومؤسساته ومؤلفاته، رحمه الله برحمته الواسعة”.

مرجعٌ جمع كلّ الأطياف

يعتبر الباحث والخبير يعتبر عضو اللقاء المسيحي، الدكتور رشاد سلامة، أنّه من الأشخاص الذين أسعدهم دهرهم بالتعرف إلى سماحة المرجع السيد فضل الله، وقد زاره ما يقرب من عشر مرات، والزيارة الأولى هي التي أسّست للّقاءات اللاحقة، مشيراً إلى تأثّره البالغ بشخصية السيد العظيمة، التي وصفها بأنها أهمّ شخصية التقاها في حياته، على الرّغم من لقائه العديد من الملوك والزعماء في العالم.

ويقول: “تشرّفت بلقاء المرجع فضل الله حوالى عشر مرّات تقريباً، وقد تعرّفت إليه بصفتي نجل الشّاعر بولس سلامي؛ شاعر عيد الغدير، الّذي كان لديه علاقة إيمانيّة خاصّة بالإمام علي والإمام الحسين، وربما كان ذلك بمثابة جواز مرور طبيعيّ لعلاقتي مع السيد(رحمه الله). أما الصفة الثانية، فكانت أقلّ أهمية، وكانت من موقعي في العمل السياسي، بصفتي النائب الأول لرئيس حزب الكتائب اللبنانية آنذاك. لقد تأثّرت كثيراً بكلّ الزيارات، لكنّ الزيارة الأولى كان لها طعمها الخاصّ، وهي الّتي أسَّست للّقاءات اللاحقة. إنَّ المرجع فضل الله هو من القيادات الّتي يحسب لها الحساب على المستوى الدّيني، كقائد ومرجع، وعلى المستوى الوطني بشكل عام، فقد تكلّم سماحته بلغة النَّاصح والموجّه، على الرّغم من الاختلاف السياسي معه في ذلك الوقت”.

ويلفت سلامة إلى أنَّ سماحة السيّد فضل الله فهم لبنان بطبيعته وباختلافاته الطائفية والمذهبية، متوقفاً عند قدرته على محاورة كلّ الناس، على اختلاف انتماءاتهم السياسية والمذهبية والطائفية، وقال: “دخلنا في شيء من المصارحة في كلّ النقاط المطروحة للتداول والنقاش، كان سماحته يناقش بعمق، وهذه من سمات شخصيّته، أعتقد أنَّ كلّ الفكر الّذي كان يملكه، كان نتيجة تحليل وقدرة على تقديم المواضيع المهمّة والمعقّدة للناس بأسلوب مبسّط وواضح”.

كان المؤنس والمتواضع والمنفتح على الآخر على أهمية موقعه الديني والوطني
ويشير سلامي إلى تأثّره بشخصيّة المرجع فضل الله العالمة والمثقّفة والمفكّرة والمؤنسة والمتواضعة والقادرة على كسر الحواجز والقيود مع الآخر: “كان المؤنس والمتواضع والمنفتح على الآخر، على أهمية موقعه الديني والوطني، فزوّار سماحة السيد فضل الله كانوا من مختلف ألوان الطيف السياسي، وكانوا يشعرون بالتهيب والارتياح حياله”، مؤكداً أن السيد حقق خطوات متقدمة في مجال الحوار الإسلامي المسيحي، من خلال لقاءاته المستمرة مع المعنيين، من سياسيين ومثقفين ورجال دين.

ويختم د. رشاد سلامي قائلاً: “برحيل السيد، خسر لبنان شخصيَّة عظيمة في تاريخه، وأنا خسرت صديقاً مهماً جداً، كان له دور أساس في حياتي الشخصية والعامة”.

الدين في خدمة الإنسان، نبذ العنف والاقتتال، الوحدة الإسلامية، الانفتاح على الآخر، الحوار بين الأديان، السياسية في خدمة الإنسان والوطن. عناوين متعددة طرحها المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض) في حياته، وهي اليوم تمثل برنامج عمل وخطة غير منتهية الصلاحية، تصلح لبناء المجتمعات وتحصينها على مدى العصور القادمة. فإذا كان الرحيل من هذه الدّنيا قدر الكبار، فإن النهج والفكر النيّر لا يموت.

بينات

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …