اتخذ الجدل القائم حول بناء مسجد جديد فـي مدينة ستيرلنغ هايتس منعطفاً خطيراً الأسبوع الماضي بعد تحوله الى مادة سجال انتخابي تفوح منه رائحة العنصرية ضد المسلمين فـي المدينة التي تستعد للانتخابات البلدية المقررة فـي تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
وإذا كان المنعطف الأول هو تصعيد المشاعر العدائية ضد العرب والمسلمين، فإن الأمور قد تتجه الى منعطفات أكثر خطورة وتعقيداً مع استمرار زخم حملة الكراهية التي يقودها متعصبون كلدان والتي تجحت فـي إرباك حسابات رئيس بلدية مايكل تايلور الذي يخوض معركة إعادة انتخابه للبقاء على رأس بلدية تُعدّ رابع أكبر مدينة فـي ولاية ميشيغن، حيث يقطن ستيرلنغ هايتس حوالي 130 ألف نسمة يشكل الكلدان وباقي العرب المسيحيين شريحة أساسية منهم، الى جانب أقلية صغيرة من المسلمين.
تايلور وقع فـي المحظور عندما ظن ان حملة الكراهية والتعصب هذه، تمثل -فعلاً- الجالية الكلدانية التي لا غنى له عن أصواتها، حيث شن معارضو إقامة مسجد على تقاطع شارعي راين والميل 15، حملة تهويل تبناها مرشحون آخرون، تتهم تايلور بتبني سياسات معادية للكلدان فـي حال موافقته على المشروع، مما دفعه الى إطلاق تصريحات مريبة فـي معرض إعلانه رسمياً عن رفضه لبناء المسجد، قبل محاولاته اللاحقة للتملص من أقواله.
النشاطات الاحتجاجية ضد المسجد المزمع بناؤه لم تتوقف منذ أواسط آب (أغسطس) الماضي حيث أعرب كثيرون من السكان عن رفضهم لإقامة المشروع لأسباب متعددة، وذلك خلال اجتماع هيئة التخطيط المدني وثم المجلس البلدي، فضلاً عن تنظيم سلسلة من الاعتصامات ضد المشروع الذي سيحسم مصيره فـي الجلسة القادمة لهيئة التخطيط فـي العاشر من أيلول (سبتمبر) المقبل.
الهواجس والاحتجاجات التي أوردها المعارضون لم تنحصر بالخطاب العنصري الصريح الذي استدعى ردوداً جازمة من المنظمات الحقوقية، بل تضمنت أيضاً عدة نقاط جديرة بالاهتمام الى جانب حجة الازعاج وازدحام السير، حيث أعرب بعض السكان عن قلقهم الحقيقي إزاء موقع المشروع القريب من محطة الإطفاء، ما قد يربك حركة مرور سيارات الإسعاف والطوارىء.
لكن اللافت أنه رغم توفر الحجج القانونية والتنظيمية لعرقلة المشروع، أصر البعض على التمسك بالخطاب العنصري الصريح الذي يؤدي إلى تأجيج مشاعر الكراهية بين الكلدان والعرب المسلمين فـي مترو ديترويت، وهي قضية أصبحت مطروحة عملياً على بساط الانتخابات والبازارات السياسية، حيث لجأ العديد من المرشحين للمناصب البلدية، الى تبني الاتهامات الموجهة لرئيس البلدية الحالي وإدارته باتباع «أجندة خاصة» لصالح المسلمين على حساب الكلدان فـي المدينة، على خلفـية مشروع المسجد الذي تقدم به «المركز الإسلامي» فـي مدينة ماديسون هايتس لتلبية حاجات الجالية المتنامية فـي ستيرلنغ هايتس.
خطاب عنصري
وكان رئيس بلدية ستيرلنغ هايتس قد أعلن مطلع الأسبوع الماضي موقفاً رسمياً على صفحته على الفـيسبوك، مؤكداً للسكان الكلدان أنه يعارض بناء المسجد. وكتب تايلور «يحاول بعض المرشحين للمجلس هذا العام تخويف الكلدان وأصحاب الأعمال بإخبارهم أن لدى البلدية جدول أعمال مؤيد للمسلمين»، وأضاف «وفـي الوقت نفسه يشكو هؤلاء المرشحون أنفسهم من تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين إلى الولايات المتحدة.. ستيرلنغ هايتس ترحب وتستقبل المزيد من اللاجئين الكلدان من أي مدينة أخرى فـي العالم. فـي الواقع، تشير التقديرات إلى أن لدى ستيرلنغ هايتس أكبر عدد من الكلدانيين من أي مدينة فـي العالم باستثناء بغداد».
ولكن فـيما بعد فـي موقف آخر، حذفه لاحقاً من «الفـيسبوك»، يوضح تايلور قائلاً «ينشطر قلبي من أجل الكلدان فـي العراق وفـي جميع أنحاء العالم لما يتعرضون له من ترويع من قبل الإرهابيين الإسلاميين.. سأفعل كل ما فـي وسعي لحماية ودعم والدفاع عن السكان الكلدانيين فـي ستيرلنغ هايتس. انا لا علاقة لي بالمسجد ولا أريده أن يُبنى هناك».
كلمات تايلور المتخاذلة لقيت ردود فعل هائلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومن قبل جماعات الحقوق المدنية، التي عبرت عن استنكارها من ربط رئيس البلدية قضية تمويل المسجد من السكان المسلمين الأميركيين المحليين باضطهاد الآلاف من المسيحيين العراقيين فـي الشرق الأوسط.
وحاول تايلور التراجع عن موقفه لاحقاً، من خلال الادِّعاء بأنه لا يعارض إقامة المساجد فـي ستيرلنغ هايتس، ولكنه كان فقط يعارض موقع البناء بسبب هواجس التنظيم العقاري (زونينغ) التي طرحها السكان.
لكن «مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية» (كير-ميشيغن)، الذي قام الأسبوع السابق بإصدار بيان يدين فـيه الخطاب العنصري الفاضح من قبل بعض السكان فـي ستيرلنغ هايتس، اعتبر أن كلام تايلور يجب ألا يمر مرور الكرام.
وقال مدير الفرع الإقليمي للمجلس فـي ديترويت، داوود وليد، إن مواقف رئيس البلدية العلنية ضد المسجد لا تدعو فقط للتساؤل حول مدى التزامه بالحقوق المدنية لجميع سكان المدينة، ولكنها أيضاً تدعو للمساءلة لاحتمال قيامه بالتأثير على القرار المنتظر لهيئة التخطيط» .
وقامت منظمة «كير» بإبلاغ وزارة العدل الأميركية بأن معارضة بناء المسجد فـي ستيرلنغ هايتس قد تؤدي الى وقوع انتهاكات لقانون «استخدام الأراضي الديني ومؤسسات الأشخاص» (RLUIPA).
الحملة على مواقع التواصل الاجتماعي
الحملة العنصرية ضد المسجد كان لها من يغذيها على شبكة الانترنت، وفـي مقدمة هؤلاء صفحة «أمة الكلدان» على الفـيسبوك، التي تضم أكثر من ١٧٠٠٠ عضو، والتي تقود حملة لحشد السكان الكلدان فـي ستيرلنغ هايتس للتجمع والتجمهر للاعراب عن رفضهم «للمسجد العملاق غير الحساس».
وطلبت الصفحة من السيِّد حسن القزويني ان يعتذر عن خطبة ألقاها يوم الجمعة، ٢٨ آب، (اغسطس) فـي ديترويت، وصف فـيها السكان الكلدان المعارضين لبناء المركز الاسلامي بأنهم «بغيضون ومتعصبون» مقارناً سلوكهم بسلوك تنظيم «داعش».
كما سارعت «أمة الكلدان» إلى الاشادة بموقف تايلور عندما وجد أوجه الشبه بين المسلمين الأميركيين والإرهابيين فـي الشرق الأوسط، حيث قام الناشطون بتشارك التصريحات ونشرها على أوسع نطاق. «شكرا للسيد رئيس البلدية مايكل تايلور لدعمك للشعب الكلداني. اننا سنواصل الاحتجاج على هذا المشروع الذي يفتقر للحساسية واحترام الغالبية، غالبية مجتمعنا المحلي الكلداني فـي ستيرلنغ هايتس»، قالت صفحة «أمة الكلدان».
وبعد رد الفعل العنيف، حاول تايلور فـي وقت لاحق التوضيح أنه ليس معادياً للإسلام.
تايلور يتراجع
يوم الثلاثاء، أطلقت «صدى الوطن» تغريدة عبر موقع «تويتر» -تضم تايلور- الى حساب وزارة العدل الأميركية مع عبارة: «بناء مكان للعبادة هو جزء لا يتجزأ من الحرية الدينية».
وقد استجاب تايلور لتغريدة الصحيفة بالتغريد المقابل «وأنا موافق مئة بالمئة على دعم حق المركز الإسلامي الاميركي فـي بناء مسجد فـي ستيرلنغ هايتس»! وفـي نفس اليوم، رد تايلور أيضاً على دعوة من المقيمين المحليين فـي مترو ديترويت على «الفـيسبوك» بأن يدين رسمياً التعصب ضد المسلمين فـي مدينته، فأجاب «إنني أُدين التعصب ضد المسلمين، من دون مواربة».
الجالية الكلدانية بريئة من معارضة المسجد؟
ومنذ تحول قضية مسجد ستيرلنغ هايتس الى سلعة ساخنة لدى وسائل الإعلام، ظهر فـي المقابل خطاب أكثر تعقلاً فـي أوساط الجالية الكلدانية، حيث أكد قياديون فـيها أنه لا توجد سوى «أقلية صغيرة» من المسيحيين العراقيين فـي المدينة الذين يشاركون فـي الحملة المعارضة لبناء المسجد، ويؤكدون أن السكان البيض هم فـي طليعة التحركات الاحتجاجية، استناداً الى أشرطة الفـيديو المنشورة على «يوتيوب». أما المسيحيون العراقيون المعارضون فهم ليسوا فقط من الكلدان بل منهم من الآشوريين والسريان الذين غالباً ما يخلطهم الناس خطأ مع الكلدان، وكانوا حاضرين فـي الاجتماعات والاحتجاجات.
وقد تحدث نابي يونو، نائب الرئيس للعلاقات المجتمعية فـي «المجلس العربي الأميركي والكلداني» مع «صدى الوطن» فقال إنه لم يكن على دراية بمجموعة «الفـيسبوك» المسماة «أمة الكلدان»، ولكنه شعر أنها أشبه بصفحات «النازيين وحليقي الرؤوس إذا ما حكمنا عليها من اسمها فقط».
وقال يونو ان العديد من الكلدان الأميركيين المحليين فـي ستيرلنغ هايتس وعموم مترو ديترويت لا يدعمون المعارضة التي تستعر فـي ستيرلنغ هايتس. «أنا ضد ما يفعلون وأؤيد تماماً حق المسلمين ببناء مسجد» أكد يونو، وأضاف «الجميع أحرار فـي ممارسة دينهم.. هذه هي الطريقة الأميركية.. بناء الكنائس الكلدانية يتم فـي تروي وماديسون هايتس وبلدة شيلبي ووست بلومفـيلد وفارمنغتون هيلز. المسلمون واليهود لديهم نفس الحقوق. شخصياً، أنا لست متعاطفاً مع هذه المعارضة. ويجب ان يعرف هؤلاء أن ما يقومون به ليس عملاً أميركياً».
وأشار يونو الى تعاطفه مع الموجات الأخيرة من المهاجرين العراقيين المسيحيين «الذين عانوا من الاضطرابات فـي وطنهم»، واردف «إن العديد منهم يأتون إلى الولايات المتحدة بعقلية ملتوية عن الإسلام»، مشيراً الى أنهم يتناسون حقيقة أن «داعش» تسببت بقتل مسلمين أكثر بكثير من المسيحيين.
من جهته، قال نبيل رومايا وهو من السكان الكلدان الذي يعيشون فـي مدينة تروي المجاورة، إن الصراع فـي ستيرلنغ هايتس تم تضخيمه إلى حد كبير. وأشار إلى أن «لا ينبغي على المسلمين المحليين أن يفترضوا ان غالبية الكلدان يعارضون قيام المركز، لان هذا فقط يؤدي لصب الزيت على النار»، وأردف أن «أخذ الأمور الى هذا المستوى يعني أننا نذهب الى تقسيم المجتمعات الإسلامية والمسيحية هنا.. وهذا لن يفـيد أحداً. بل فـي الواقع إنه تماماً ما يحصل فـي العراق بنسبة أو أخرى ولا نريد حصوله فـي مدننا هنا».
وتابع «هناك ميل إلى وجود عقليات مختلفة بين فئات بين المجتمع الكلداني»، مشيراً إلى أن «العديد منهم ترسخوا فـي مترو ديترويت لعقود وقضوا سنوات طويلة فـي بناء علاقات مفـيدة مع الجالية المسلمة فـي ديربورن وعموم المنطقة».
ويحث رومايا كُلّاً من المسيحيين والمسلمين «على التزام الهدوء وترك الإجراءات القانونية تأخذ مجراها»، مؤكداً يجب أن تسوى المشاكل من خلال الحوار وفهم احتياجات الجانبين. نحن نعيش فـي أميركا والقانون الأميركي يكفل الحريات وحقوق التعبير الدينية، لذلك لدى كلي الجانبين الحق فـي ممارسة حقوقهم. والبلدية تستمع ونأمل أنْ تتخذ قرارها قريباً».
وقد تم تعيين موعد لاتخاذ قرار نهائي من قبل هيئة التخطيط بشأن المسجد يوم الخميس ١٠ أيلول (سبتمبر) عند الساعة السابعة مساء.
سامر حجازي – «صدى الوطن»