من النادر أن تجد حنجرة في هذا البلد إلا وأصابتها حرقة نار المسجدين. من النادر أن تجد عيناً إلا وبكت الشهداء، الأموات منهم أو الأحياء. من النادر أن تجد إنساناً إلا وصدمه مشهد تلك الطفلة الرضيعة المتفحمة، أم أولئك المارة، أو الباعة المتجولين الذين تحولوا في رفة عين الى أشلاء. من النادر أن تجد أذناً إلا وسمعت الصرخات والآهات والتكبيرات وأبواق سيارات الإسعاف والإطفاء. من النادر أن تجد مؤمناً إلا وانفطر قلبه بعدما شاهد مصلين يبتهلون إلى الله ليحمي عائلاتهم وبلدهم، قبل أن يحولهم العصف الحاقد إلى هاربين يبحثون في كل اتجاه عن أمان مفقود. لكأن سحابة الدخان الأسود، المنبعثة بالأمس، من طرابلس، حملت إلى كل بيت، رائحة موت أسود، لا بل رائحة تحذير، بأن لا أحد بمنأى عن الخطر بعد الآن. لكأن ما كان متوقعاً أن يحصل قد حصل. لقد كان حدس الناس أصدق من حدس السياسيين وتعاملهم مع المأساة. كان أصدق بكثير من تعامل بعض تجار الموت والفتنة والسياسة والدين. هي المأساة في «التقوى». في «السلام». في كل طرابلس، بل كما في كل بيت ومسجد ومدينة وقرية في لبنان. قبل أسبوع، كانت الضاحية الجنوبية هي الضحية، وسقط الشهداء وتهشم الأمن. وبالأمس، زنر الأحمر والأسود كل طرابلس، غير أنها، وعلى عادتها وكما الضاحية من قبلها، لم تنزلق إلى حيث أراد المجرمون أن تكون كل أيامها سوداء. نعم، بدت الفيحاء، وبرغم كل ندوب جولات الموت المتكررة في أحيائها وساحاتها، منذ خمس سنوات، عصية على الفتنة والحقد والموت وتواقة إلى الدولة والحياة والعيش المشترك. أكثر من أربعين شهيداً ومئات الجرحى سقطوا على مذبح طرابلس في الانفجارين اللذين استهدفا، ظهر أمس، وبفارق دقائق قليلة، محيط مسجدي «التقوى» في دوار أبو علي، و«السلام» في مدينة الميناء. هذه الكارثة الوطنية، كانت كافية لوضع اللبنانيين أمام سؤال أمنهم اليوم وغداً. بالأمس كانت الضاحية، واليوم طرابلس، فأي منطقة لبنانية ستختار أيدي الفتنة غداً وبعده، وهل يمكن القول إن هناك منطقة أو فئة لبنانية مستثناة من احتمالات الموت، بعد الآن؟ بالأمس كانت الضاحية واليوم طرابلس، فهل يمكن أن تتحول المصيبة الوطنية في هذه المنطقة أو تلك، إلى مناسبة لصحوة وطنية شاملة، تضع بقدر المستطاع، ضوابط تحول دون تمدد بقعة الدم والموت والدمار، قبل أن تتحول إلى شلال يتجدد معه مسلسل حرب أهلية ظن اللبنانيون أنها أصبحت وراءهم؟ هل صار لزاماً على لبنان، على عتبة النصف الثاني من السنة الثالثة لاندلاع الأزمة السورية، أن ينال نصيبه منها، بعدما ظنّ كثيرون أنه نجا من نيرانها؟ ألا تستدعي النيران السورية التي بدأت تتمدد الى الداخل اللبناني، وتهدد بما هو أخطر وأعظم، مقاربة استثنائية من الجميع، على قاعدة أولوية حماية لبنان وعيشه المشترك والعلاقات بين طوائفه، وخاصة بين السنة والشيعة؟ هل سقطت الحمايات الدولية والإقليمية وبات تفجير لبنان والعلاقات بين طوائفه ومذاهبه ومناطقه، وبالتالي انكشافه أمام احتمالات الحرب المذهبية، مطلباً عند بعض الرعاة الدوليين والإقليميين؟ إذا كانت «العرقنة» تعني انفلات المذاهب من عقالها لا بل تحولها بيئة حاضنة للتكفيريين في هذا الاتجاه أو ذاك، ألا يمكن الاستفادة من حساسية «حزب الله» وحرصه على بيئته اللبنانية، برغم اختلاف بعضها معه، بتحويلها إلى ميزة لتعزيز المناعة الوطنية؟ وألا يتطلب ذلك من الحزب، إطلاق مبادرات في كل اتجاه لتبديد الهواجس والبحث عن المشتركات الوطنية؟ من أين يبدأ وضع اليد على الجرح؟ بالاتهامات ومنابرها المفتوحة، على شاكلة ما اقترفت، أمس، بعض الفضائيات اللبنانية ومقدموها من الاعلاميين، وأصحابها المتعطشون لـ«الجمهور»، أم بالهدوء والتروي والحكمة والتبصر ومقاربة الداء بما يداويه ويمنع إصابة آخرين به؟ أين هي مسؤولية جميع قيادات لبنان وبالدرجة الأولى السيد حسن نصرالله والرئيس سعد الحريري، وألا يستوجب ما يجري من تطورات طاولة حوار ثنائية، تتحول بعد صياغة تفاهمات الحد الأدنى، وأقلها حماية البلد وأهله، إلى طاولة حوار وطنية تناقش كل هموم اللبنانيين السياسية والاجتماعية؟ أين هي مسؤولية رئيس الجمهورية بإحراج الجميع بدل اتخاذ منبر المؤسسة العسكرية الجامعة، للتصويب على جهة أو التلويح بحكومة أمر واقع، سياسية كانت أم حيادية؟ أين هي مسؤولية رئيس المجلس النيابي من موقعيه الحزبي والرسمي، في البحث عن مبادرات تجعل الواقع اللبناني عصياً على الفتنة ومن يدفعون لبنان إليها الى حد أن يصبح الانزلاق الى الهاوية قدراً لا مفر منه؟ أين هي مسؤولية رئيس حكومة تصريف الأعمال، وخاصة بمنع انكشاف مدينته وحاضنته، على صورة ما تبدى بالأمس، من تقصير في أعمال إخماد الحرائق وإغاثة المصابين، وهل صار لزاماً على طرابلس أن تستسلم لقدر الحرمان الذي يجعل جرحها مضاعفاً ومصابها أكثر ألماً؟ أين هي مسؤولية رئيس الحكومة المكلف بجعل أولوية الوحدة الوطنية، عنواناً لا يتقدم عليه أي عنوان أو أمر آخر؟ برغم قناعة الجميع بـأن الأمن سياسي بالدرجة الأولى، أين تكمن مسؤولية الأجهزة والمؤسسات العسكرية والأمنية، وهل أصبح دورها إغاثياً أم يتوجب عليها استثمار تجربتها التنسيقية مؤخراً وقدرتها على شل حركة مجموعات إرهابية، وأن تجعل عيونها مفتوحة في كل منطقة لبنانية، برغم الأعباء الكبيرة الملقاة على عاتقها في الداخل وعند الحدود؟ أين هي مسؤولية رجال الدين ومن يتحمل مسؤولية التحريض والفلتان عبر المنابر ومواقع التواصل؟ من الرويس في الضاحية الجنوبية الى مسجدي التقوى والسلام في طرابلس والميناء، يد الإرهاب والموت والفتنة واحدة. لا تميز بين مصلين ومارة وجالسين في متاجرهم أو منازلهم. لا تميز بين طفل وامرأة وشيخ ومسن. بين لبناني وآخر. بين نازح سوري أو لاجىء فلسطيني. بين فقير أو غني. بين متدين أو علماني. بين موال أو معارض. من الرويس الى طرابلس، الإرهابي واحد. المخطط واحد. المنفذ واحد. الضحية.. كل اللبنانيين.
شاهد أيضاً
في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)
قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …