شقة في رأس بيروت

قبل ثلاثين سنة، أسبوعاً بأسبوع، انتقلنا إلى شقّتنا هذه في رأس بيروت. كنّا هاربين من «خطّ التماسّ» السيّئ الصيت الذي أقمنا على مقربة منه عشر سنواتٍ من عمر الحرب. في مقامنا الجديد، كانت السماء واسعة فوق رؤوسنا، في تلك الأيام، ومن شرفتنا كان يمتدّ في الفضاء، بين المباني القريبة والبعيدة، زقاق أفقي ينتهي إلى البحر. كنّا نحبّ أن نقول للزائر الجديد: خاطِرْ بالتواءٍ في عمودك الفقري تشاهِد البحرَ من هذه الشرفة! اليوم، أصبح علينا أن نذهب إلى موضعٍ بعينه من الشقّة لنرى إن كانت السماءُ لا تزال حيث تركناها. ومن الشرفة، إذا خرجنا إليها، يظهر لنا مستنقعان سماويان ضيّقان، متكسّرا الحدود، هما كلّ ما تركته لنا المباني الجديدة الشاهقة من سماء. تلك سماء لا تكفي، في الشتاء، لتقدير احتمال الصحو واحتمال المطر. كثيراً ما نسيء التقدير فنترك المظلّة ونعود مبلّلين… أو نأخذ المظلّةَ بلا داعٍ فننساها حيث نذهب… ليس هذا، بطبيعة الحال، كلّ ما جرى لنا في ثلاثين سنة، بصفتنا من سكّان هذا الحيّ. هذا غيضٌ من فيض. أقول هذا مع أن ما سبق يشير إلى تغيير في المدينة يصحّ وصفه بالتاريخي. المدينة، في هذه السنوات الأخيرة، تنتقل من طراز عمارة إلى آخر. وقد يصحّ القول إن نقلة بهذا الاتساع والعمق لم تحصل من ستين سنة. انتقلت المدينة بين الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي من عمارة تتراوح طبقاتها بين واحدةٍ وأربع إلى العمارة ذات الطبقات السبع. وهذه الأخيرة هي التي تنتمي إليها عمارتنا، وهي التي تُغلب على أمرها اليوم وتبدو صائرةً إلى الاضمحلال. يُغْلب الإسمنتُ المألوف المكحّل بالزجاج ومعه الحديد المشغول أو الألمنيوم الذي تعرضه الشرفات المفتوحة. يَغْلبه طغيان الزجاج الذي يشتمل على الشرفات ويضمّها إلى دواخل الشقق. ولكن ما لنا ولتحوّل المدينة بأسرها… ولنمكث لحظاتٍ في شارعنا الضيّق.

لعشر سنواتٍ خلت، كانت حركة الشارع لا تزالُ تخفّ كثيراً ابتداءً من بعد الظهر، فنمضي أوقات راحتنا… مرتاحين. اليوم أصبح الشارع وجواره لا ينام إلى ساعات الصباح الأولى. كان يغلب هنا محلّ التاجر ومحلّ الحرفي: بائع الثياب أو اللوازم الكهربائية، الحلاّق ووكالة السفر، متجر الأثاث… اليوم تكاد تطغى على هذا كله، في الشارع وفي الجوار، عشرات من المطاعم والبارات وما يسمّى الـ»بَبْز» وهو شيء هجين بين البار والمطعم لا يجد دليلاً على تفوّقه خيراً من اقتحام آذان الساهرين مع عوائلهم أو النائمين في أسرّتهم بأقبح الموسيقى. هذا والموسيقى ليست وحدها مصدر الإزعاج، بل إن هذه المرابع لا تتّسع دواخلها لروّادها فيتجمّع أكثرهم على أرض الشارع ويعلو هناك لغطهم مع الموسيقى.. وقد ينفرد من بينهم واحد يقف في الثانية صباحاً تحت نافذتك بالضبط ويهاتف من هناك واحداً آخر أو واحدة ملزماً إياك بسماع قصةٍ لعلاقةٍ مشتبكة بقصّةٍ لحياةٍ برمّتها. لا موجب للنوم هنا: لا للطفل ولا للمُسنّ، لا للعامل ولا للعاطل. 

والحال أن مصادرة الروّاد لأرض الشارع أمرٌ تلقائي وقد يكون حقّاً من حقوق المواطن (ما أدراني؟)… ولكن المريب أن تكون هذه المرابع، بلا أبواب تغلق على ما يجري فيها وأن يكون بعضها بلا جدران أصلاً ما خلا ألواح زجاج لا تصدّ وحدة الحال بينها وبين الجوار.. وكأن أصحابها والروّاد منزّهون عن المعصية، فليس عليهم أن يستتروا. ذاك مريبٌ لأن بعض الجوار سكنيّ يفترض أن يكون محميّاً ممّا يسمّيه القانون «إقلاق الراحة». 

وفي تفسير غفلة القانون عن الإقلاق الثابت وفي إتاحته رخصاً تعامت عن مواصفاتٍ هي والإقلاقُ واحدٌ يتداول الأهالي أقوالاً مختلفة. بعضهم يزعم أن الرشوة أُمّ العجائب. وبعضهم يؤكّد أن الحماية السياسية منشورة على هذه المرابع: من صاحب الرخص العديدة إلى الفاليه باركنغ. وبعضهم يردّ الاستباحة إلى جبن الجيران عن مواجهة الحُماة الأشاوس.. إذ هم يباشرون، بين حينٍ وآخر، مبادرة احتجاجٍ ثم ينكصون… وفي انتظار أن يأفل نجم هذه البقعة، بما هي مساحة للسهر، من تلقاء نفسه (وهو ما سبق أن حصل لشوارع أخرى في المدينة) يتّخذ القادرون لأبوابهم المطلّة على الشارع زجاجاً مضاعف السماكة وقد يزجّجون الشرفات أيضاً. الإجراء عالي الكلفة ومتفاوت الفاعلية، والاضطرار إليه ظلمٌ محضٌ فوق ذلك، ولكنه قصارى ما يرى القومُ أنهم يستطيعونه.

نعم هلّلنا مؤخّراً لإنذارٍ وجّهته المحافظة إلى بعض من هذه المرابع… إنذارٍ لم يتناول شرعية موقعها، حيث هي ولا غياب التجهيز العازل ـ بما فيه الجدران ـ لما ينبعث منها من ضجيج في كلّ وقت. وإنما اقتُصر على دعوتها إلى الالتزام بالمواقيت القانونية وإلى اجتناب «إقلاق الراحة» الذائع الصيت. هلّلنا مع ذلك، ولكن بقي الحذر حليفنا، فنحن لبنانيون نعرف ميل الأنظمة والقوانين في بلادنا إلى الغفوة الطويلة بعد كلّ يقظةٍ عابرة… 

مهما يكن من أمرٍ، يبقى أن نوع العمارة الجديد والوجهات الجديدة الغالبة لاستعمال بعض منشآته، في الحي، تُغيّر كلّها من الانفعال بالأشياء والروائح والأصوات. ثمّة شعورٌ ينشأ بالإقامة في موضع عاد غيرَ معَدٍّ للإقامة، إذ أصبح مدرجاً في أرخبيل السياحة. وهو ما يوسوس للمقيمين ليل نهار هنا أنهم هم الغرباء وأن الطارئين في الهزيع الثاني من الليل هم مستحقّو المكان أو أصحابُه. في حالتِي بدأ هذا الشعور من منظر الأشجار.. حين قدومنا إلى الشارع، كان فيه أشجار معدودة مختلفة الأنواع والأشكال وخضرةٌ على شطرٍ من سياجٍ هنا أو هناك وزروع تُزهر على شرفات. كان الشارع يتميّز بهذا كلّه عن شوارع أخرى مجاورة. هذا كلّه كان لنا: كان منّا وفينا من حين وصولنا. المباني التي أنشئت حديثاً فرضت، بنمطها المعماري وبالبعض من طرق استعمالها، إزالة هذه المعالم أو إخفاءها. لم تبخل هذه المباني بالأشجار. غُرست أشجار على الرصيف أمام بعضٍ من المباني المنشأة مؤخّراً، ولكنّ هذه الأشجار التي يؤتى بها متماثلة وكبيرة تُشعرني بأنها شيء مصطنع أو طارِد. تُشعرني بأنها زينةٌ سياحية غيرُ مكينة، معدّةٌ، لا للمقيمين، بل لعابري الليل الذين لن تحظى منهم بالتفاتٍ أصلاً، تُشعرني بأن في تكوينها عنصراً بلاستيكياً خفيّاً. تشعرني بأننا، نحن المقيمين، ثقلاء فرَضَنا على الساهرين حظٌّ عاثر وأنه بات علينا الانصراف من هذا الحيّ… من هذه المدينة… من هذه الدنيا. ليس لي منفذٌ، والحالة هذه، غير أن أهزأ بهذا كلّه!

كاتب لبناني

أحمد بيضون

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …