ساجد الطيري

وقف أمام أم الشهيد علي الهادي نون، الشاب العشريني المبتسم دوماً وأحد أفراد سريّته. نظر إليها بخجلٍ، وقال بصوتٍ تخنقه عبرته: «إنتو بتشيعو شهيدكم لمرّة واحدة، أما أنا فمضطر كل فترة شيّع ولد من ولادي». القائد الذي شيّع وودّع كثيرين من رفاقه، يُرفع اليوم على أكفّهم.

غسان فقيه، الاسم المدني لابن بلدة الطيري الجنوبية. يعرفه أهالي بلدته بـ»الحاج غسان»، ولقبه «ساجد الطيري». من لا يعرفه يسمع عنه. من «العتيقين» في حزب الله. لا يعلم أحد طبيعة عمله، أو موقعه التنظيمي أو المهمات الموكلة إليه. دارت حوله التقديرات والتوقعات، إلا أن الجميع، ضمناً، يعلمون أنه أحد الكوادر الأساسيين في المقاومة.

لم يترك «ساجد» بشهادته زوجته وأبناءه وأفراد عائلته فحسب، بل « شبابه» الذين ربّاهم. هم في أوائل العشرينيات، جلّهم بدأ العمل معه منذ كانوا في السابعة عشرة. «فقدت أباً وأخاً. من كان يسأل عني وعن مشاكلي. مش بس أنا، أنا وكل الشباب اللي معي»، هكذا يروي الشاب الذي سقط جريحاً في الغوطة الشرقية: «سحبني الحاج يومها، كنت بين الحياة والموت. فات لجوّا ع الاشتباك وشالني». تعلّق به عناصره إلى حدٍ كبير، وتعلّق بهم أيضاً. يضيف الجريح: «لما كان يستشهد أخ معنا، وينسحب جثمانو، كان الحج يبكي قدامو متل الطفل، قد ما كان متعلق فينا».

صداقات «غسان»، المدني، تجاوزت عالم «العسكر». يقول أحد الصحافيين إنّه التقاه مرتين في الضاحية الجنوبية عبر صديقٍ مشترك من إحدى قرى الجنوب، ودار بينهما نقاش سياسي. أخبره الصديق المشترك يومها بأنّ «الحاج» «أساسي في العسكر». ورغم «بنيته الرياضية» التي توحي بأنه «عسكري»، اعتقد الصحافي لوهلة أنّه أمام «مسؤولٍ ثقافي» في الحزب. كان «هادئاً ومرحاً» متابعاً للشعر.

خلال الأزمة السورية، أصيب « ساجد الطيري» ثلاث مرّات في الغوطة وحلب. تنقّل على مختلف الجبهات السورية، وكان دائماً في الخطوط الأمامية مع مجموعات الاقتحام. قاد قوات المقاومة التي فتحت طريق حلب، وأصيب في المعركة، وبقي ساعات عدة في الميدان رغم إصابته، وهو يقول لمن حوله «لن أسمح لهم بأن يقطعوا طريق حلب مجدداً».

الروح المعنوية التي تمتع بها الشهيد يرويها زين، أحد جنود الجيش السوري، الذي شارك معه في هجماتٍ عديدة في الغوطة الشرقية في الأحمدية ودير سلمان والعتيبة، وفي القلمون من مزارع ريما، يبرود ورأس العين والمعرة ورنكوس ومعلولا. تأثر زين بـ»ساجد»، وبـ»شخصيته المرحة وباهتمامه بالجميع». لا ينسى اهتمام «ساجد» به، فقد اعتبره أحد أفراد سريّته. يتذكر «تواضعه وتعامله الإنساني، حتى مع أعدائه». يضيف زين، «قبل بدء الهجوم لتطهير بلدة رنكوس من المسلحين، جمعنا وخطب فينا رافعاً لمعنوياتنا. ومع بدء الهجوم، كنا على تماس مع المسلحين، لكننا شعرنا بطمأنينة عجيبة لأننا مع الحاج».

عشق «ساجد» التسلّل ليلاً نحو نقاط العدو. فعل ذلك مراتٍ عديدة، في الغوطة والقلمون. يروي أحد المقاومين الذين كانوا معه في الغوطة أنه أيقظهم ذات ليلة ومنعهم من اللحاق به أو الاقتراب منه، أو حتى إطلاق النار، بل مراقبته، وسحبه إن استشهد.

عرف عن «غسان» تاريخه في قتال العدو الإسرائيلي قبل التحرير، وفي حرب تموز، وكان من القلائل العارفين بسلاح «الكورنيت». مرةٌ واحدة لم تكن لساجد رغبة في الالتحاق بخدمته في سوريا. يومها كانت المقاومة في جاهزيةٍ للرد على عملية القنيطرة. قال لشبابه: «من يشتمّ رائحة القتال مع الإسرائيلي، لا يلتفت لقتال هؤلاء».

في المعارك الأخيرة كان «ساجد الطيري» أحد قادة الهجوم على تلة موسى، ثم على تلة حرف الثلاجة. هناك أصيب واستشهد والتحق برفاقٍ سبقوه. رحل «الحاج» رافضاً لكل الصفات التي أطلقها عليه محبّوه، وانتزع منهم لقباً أحبّه: «أبونا الحاج ساجد».

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …