إنّ أوضح دليل على عدم مرور حرم الحسين بن علي “ع” ومتعلّقيه على كربلاء حين عودتهم من الشّام هو: إنّ رئيس الطّائفة الإثني عشريّة المفيد المتوفّى سنة: “413هـ” مع حرصه الشّديد على ذكر أحداث واقعة كربلاء وقبيلها وبُعيدها ممّا كان بين يديه من مصادر وأبرزها وأهمّها مقتل أبي مخنف، إلّا أنّه لم يذكر ذلك لا من قريب ولا من بعيد، واكتفى بنقل العبائر الّتي استوحاها من مقتل أبي مخنف كما نقلها الطّبريّ في تاريخه فقال:
فأقاموا أياماً، ثمّ ندب يزيد النّعمان بن بشير، وقال له: تجهّز لتخرج بهؤلاء النسوان إلى المدينة، ولمّا أراد أن يجهزهم دعا علي بن الحسين [السجّاد] “ع” فاستخلاه، ثمّ قال له: لعن الله ابن مرجانة [عبيد الله بن زياد؛ أم والله لو أنّي صاحب أبيك ما سألني خصلة أبداً إلّا أعطيته إيّاها، ولدفعت الحتف [الموت] عنه بكلّ ما استطعت، ولكن الله قضى ما رأيت، كاتبني من المدينة، وأنّه كل حاجة تكون لك. وتقدّم بكسوته وكسوة أهله، وأنفذ معهم في جملة النّعمان بن بشير رسولاً تقدّم إليه أن يسير بهم في الّليل ويكونوا أمامه؛ حيث لا يفوتون طرفه، فإذا نزلوا تنحّى عنهم، وتفرّق هو وأصحابه حولهم كهيئة الحرس لهم، وينزل منهم حيث إذا أراد إنسان من جماعتهم وضوءاً أو قضاء حاجة لم يحتشم، فسار معهم في جملة النّعمان، ولم يزل ينازلهم في الطّريق ويرفق بهم كما وصاه يزيد ويرعونهم، حتّى دخلوا المدينة». [الإرشاد: ج2، ص122].
وإذا رجعنا لكتاب مسار الشّيعة للمفيد أيضاً نجده لا يذكر ما يغاير ذلك أصلاً، بل نصّ في أحداث شهر صفر قائلاً: «وفي العشرين منه كان رجوع حرم سيّدنا ومولانا أبي عبد الله “ع” من الشّام إلى مدينة رسول الله “ص”»، [ص46]، كما جاء عين هذا النصّ تقريباً في كتاب مصباح المتهجّد لتلميذه شيخ الطّائفة الإثني عشريّة الطّوسي المتوفّى سنة: “460هـ” أيضاً [ص787]، وظاهر العبارة: أنّ تاريخ انطلاقتهم من الشّام والّتي حصلت بعد تجهزيهم وإرفاق النّعمان بن بشير معهم كان في تاريخ العشرين من صفر، لا أنّه وصولهم إلى المدينة كان في هذا التّاريخ كما يُتخيّل ذلك؛ فمثل هذا الأمر لا إمكانيّة لوقوعه أصلاً، فضلاً عن أن يكون في العبائر أعلاه أيّ دلالة على ورودهم في هذا التّاريخ إلى كربلاء.
نعم؛ ذكر المفيد ومن ثمّ الطّوسي على أنّ جابر بن عبد الله الأنصاري كان أوّل زائر وفد إلى قبر الحسين بن عليّ “ع” في يوم العشرين من صفر، لكنّ هذا بحث آخر إن تمّ فليس له علاقة بموضوع عودة الرّكب الحسيني إلى كربلاء في هذا اليوم نفسه لا من قريب ولا من بعيد كما تُروّج الأكاذيب.
بلى؛ من يتحمّل وزر نقل وتمرير أصل هذه الكذبة في الواقع الإثني عشريّ هو رائد نظريّة الحسين المذهبيّ المُمثّل أعني السيّد عليّ بن طاووس المتوفّى سنة: “664هـ” في كتابه الّلهوف؛ والرّجل لم يعيّن كون تاريخ مرورهم هو العشرين من صفر أصلاً، بل قال في كتابه الّلهوف ما يلي: «ولمّا رجع نساء الحسين “ع” وعياله من الشّام وبلغوا العراق، قالوا للدّليل: مرّ بنا على طريق كربلاء، فوصلوا إلى موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري “رحمه الله” وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل رسول الله “ص” قد وردوا لزيارة قبر الحسين “ع”، فوافوا في وقتٍ واحدٍ، وتلاقوا بالبكاء والحزن والّلطم، وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد، واجتمع إليهم نساء ذلك السواد، فأقاموا على ذلك أيّاماً». [ص225؛ بحار الأنوار: ج45، ص146].
وحينما صنّف كتابه إقبال الأعمال: استظهر من عبارة مصباح المتهجّد المتقدّمة أنّ المقصود منها وصول حرم الحسين “ع” إلى المدينة في تاريخ العشرين من صفر مع أنّها لا تحمل مثل هذا الظّهور أصلاً كما بيّنا، ونصّ أيضاً على أنّه قد وجد في غير كتاب المصباح أنّهم قد وصلوا كربلاء في طريق عودتهم من الشّام في يوم العشرين من صفر، لكنّه نصّ على استبعادهما معاً؛ وذلك: «لأنّ عبيد الله بن زياد “لعنه الله” كتب إلى يزيد يعرّفه ما جرى ويستأذنه في حملهم [إليه]، ولم يحملهم حتّى عاد الجواب إليه، وهذا يحتاج إلى نحو عشرين يوماً أو أكثر منها، ولأنّه لمّا حملهم إلى الشّام روي أنّهم أقاموا فيها شهراً في موضع لا يكنّهم من حرّ ولا برد، وصورة الحال يقتضي أنّهم تأخّروا أكثر من أربعين يوماً من يوم قتل “ع” إلى أن وصلوا العراق أو المدينة. وأمّا جوازهم في عودهم على كربلاء فيمكن ذلك، ولكنه ما يكون وصولهم إليها يوم العشرين من صفر؛ لأنّهم اجتمعوا على ما روى جابر بن عبد الله الأنصاري، فإن كان جابر وصل زائراً من الحجاز فيحتاج وصول الخبر إليه ومجيئه أكثر من أربعين يوماً، وعلى أن يكون جابر وصل من غير الحجاز من الكوفة أو غيرها». [إقبال الأعمال: ج3، ص100؛ بحار الأنوار: ج101، ص335].
وكيف كان؛ فعودة الرّكب الحسيني إلى كربلاء في تاريخ العشرين من صفر أمر لا يقرّه شيء من الوقائع التّاريخيّة المرويّة البتّة، وهذا الرّأي هو مختار خاتمة المحدّثين الإثني عشريّة المحدّث النّوري المتوفّى سنة: “1320هـ” في كتابه المغمور الّلؤلؤ والمرجان فضلاً عن عموم المتقدّمين كما نقلنا نصوصهم آنفاً، لذلك أقولها بضرس قاطع دون تردّد: إنّ دعوى مرور عائلة الحسين بن عليّ “ع” بكربلاء في العشرين من صفر أو أيّ تاريخ آخر ما هي إلّا كذبة مذهبيّة لا أصل ولا فصل لها في الموروث الرّوائيّ المعتبر في القرون الثّلاثة الأولى فضلاً عن لقائهم بجابر بن عبد الله الأنصاري ورؤيته لسواد مقبل من طرف الشّام…إلخ، فهذه أكاذيب ساقطة لا قيمة لها، خصوصاً وأنّ أبا مخنف روى هذه التّفاصيل الّتي نقلها الطّبريّ ومن ثمّ المفيد عنه عن فاطمة بنت عليّ بن أبي طالب الّتي كانت حاضرة في جميع أحداث كربلاء والشّام حتّى الوصول إلى المدينة، وهل يُعقل أن تمرّ هذه النّسوة على كربلاء ولا تنقل هذه التّفاصيل المهمّة مثلاً؟!
ومن أوضح الشّواهد المؤكّدة لذلك هي ما نقله الطّبريّ عن أبي مخنف، عن الحارث بن كعب، إنّ فاطمة بنت عليّ بن أبي طالب والّتي حدّثته عن تفاصيل ما حصل في مجلس يزيد وكذا الطّريق أيضاً والّتي نقلها المفيد بعد التّغيير والابتسار، قد حدّثته إنّها قالت لإختها زينب حين وصولهم للمدينة: «يا أخية، لقد أحسن هذا الرجل الشأمي إلينا في صحبتنا، فهل لكِ أن نصلهُ؟ فقالت [لها زينب]: والله ما معنا شيء نصلُه به إلّا حُليّنا، قالت لها [فاطمة بنت عليّ]: فنعطيه حلينا، قالت: فأخذت سواري ودملجي، وأخذت أختي [زينب] سوارها ودملجها، فبعثنا بذلك إليه، واعتذرنا إليه، وقلنا له: هذا جزاؤك بصحبتك إيّانا بالحسن من الفعل، قال: فقال: لو كان الّذي صنعتُ إنّما هو للدّنيا كان في حليكن ما يرضيني ودونه، ولكن والله ما فعلته إلّا لله، ولقرابتكم من رسول الله “ص”». [تاريخ الطّبريّ، مصدر سابق: ص462].
والله من وراء القصد.
ميثاق العسر