داود رمال
اللقاء مع الرئيس الدكتور سليم الحص في جلسة صباحية، حيث أتم عامه الرابع والثمانين، هو أمر استثنائي. «ضمير لبنان» هو اليوم في مرحلة تعمّق بقراءة المرحلة في لبنان والمنطقة العربية.
قلة هم الذين يعرفون هذا النموذج الذي ترك بصمة كبيرة في تاريخ لبنان، بصمة رجل الدولة الاستثنائي في الزمن الاستثنائي.
زاهد في الزعامة والمناصب والمواقع والمصالح.. لكنه غارق في الهمّ الوطني والعربي. يمتلك سليم الحص تجربة عميقة في الواقع اللبناني، وهو تمكّن من تدوين سجل حافل من تجارب اليوميات اللبنانية.
سليم الحص هو ذلك النموذج الشفاف لرجل يمارس الديموقراطية بمعناها الحقيقي في محاولة لتصحيح مقولته الشهيرة «في لبنان الكثير من الحرية والقليل من الديموقراطية».
وهو لذلك تحديداً دفع أثماناً باهظة لم تثنه عن متابعة مسيرته الناصعة، متحصّناً بـ«تفشّي» مبادئه وقِيمه وثوابته وأدبياته وسلوكياته في وسط لبناني لم تصبه «لوثة» الانتماءات الجامدة والعصبيات المذهبية والطائفية.
بقي سليم الحص في أذهان الكثيرين ذلك الرجل الآتي من «جمهورية أفلاطون» إلى واقع مؤلم في الجمهورية اللبنانية.
وبقي سليم الحص رمزاً لحلم قيام دولة عادلة ديموقراطية عصرية.
يحلو للحص أن يبدأ صباحاته مع صوت السيد فيروز، لكن الصباح وحده لا يروي ظمأه الدائم لصوتها، فيكون الحل بالاستماع إلى أغانيها معظم الأوقات. للرئيس المعتزل المناصب حكاية طويلة مع السيدة الفيروز، يتحمس لروايتها: ابنتي وداد، وكانت لا تزال صغيرة، طلبت مني ومن والدتها ليلى (رحمها الله) ان نأخذها الى منزل السيدة فيروز لتتعرف عليها. كان ذلك قبل الحرب الأهلية عام 1975. وبالفعل، توجهنا بها الى منزلها في الرابية، وعندما وصلنا قرعنا الباب وفتحت السيدة فيروز، فخاطبتها قائلا: أنا سليم الحص ومعي زوجتي ليلى جئنا بصحبة ابنتنا وداد لأنها راغبة في التعرف عليك كونها تعشق صوتك. ومنذ ذلك الوقت نشأت بيننا وبين السيدة فيروز صداقة لا تزال مستمرة الى يومنا هذا، نلتقي معها باستمرار، لكن ابنتي وداد تلتقيها دائماً، وهي تحضر كل حفلاتها بشكل متواصل.. وأنا ايضاً.
عشق فيروز لا يحجب صوت أسمهان عن مسامع الرئيس، ولا صوت ام كلثوم أو الموسيقار محمد عبد الوهاب. مع ذلك، سرعان ما تجده يقود الحديث إلى فيروز مجدداً. يقول «صوت فيروز يمر على مسامعك كالنسمة العليلة، ثم يحملك بين جناحيه ويطير بك إلى الفضاء الرحب، في حين أن صوت السيدة ام كلثوم يطربك، لكنك تبقى جالساً ورجليك على الأرض».
لزياد الرحباني نصيب أيضاً من حب الحص: ليس ظاهرة فحسب، بل مبدع ونابغة ايضاً كوالده وربما اكثر، ولا يوجد مثيل له الآن لا في لبنان ولا في العالم العربي. يتذكر يوم شكته والدته أمامه، لأنه لا يرد على طلباتها بالتلحين لها باستمرار. ينتهز فرصة اللقاء ليدعوه إلى الغزارة في العطاء الفني، سواءً عبر السيدة فيروز أو عبر إعادة إحياء مسرحه.
ينتقل اللقاء الوجداني مع الرئيس الحص بسلاسة من التاريخ إلى الحاضر، من العروبة إلى الوطنية، من عبد الناصر إلى السيد حسن نصر الله ومن فؤاد شهاب إلى الياس سركيس. يعطي رأيه بصراحة مطلقة بكل شخصية أو قضية.
من الحديث عن الفن اللبناني والعربي الى الحديث عن الفكر السياسي الذي يعتبره «ضمير لبنان» ارقى درجات التطور الاجتماعي عند الشعوب والمجتمعات. برأيه «لا تقدم ولا تطور ولا تحديث لأي مجتمع الا من خلال فكر سياسي نيّر». هذا هو سبب تأثره بالقومية العربية وإعجابه بشخصية الزعيم جمال عبد الناصر واحترامه ايضاً لفكر انطون سعادة وتقديره لجرأته وإقدامه.
ويعتقد الحص أنه لو أن الله أمدَّ بحياة الرئيس عبد الناصر لكان قادراً على استكمال مشروعه في بناء مصر متطورة وديموقراطية، وعالم عربي متجانس بين أقطاره وكياناته. ولذلك يرى أن لا تطور ولا تقدم لشعوب المنطقة خارج إطار العروبة الجامعة. فالحركة العروبية التي ساهمت في بزوغ عصر النهضة، هي الوحيدة القادرة على تحصين مجتمعاتنا العربية من التفرقة الطائفية والمذهبية.
من هنا يرى الحص انه على العرب في جميع اقطارهم العودة الى عروبتهم التي تجمع في طياتها جميع مكوناتهم الدينية، الإسلامية والمسيحية. فـ«الاسلام القرآني» بتنوع مذاهبه، لا الإسلام التكفيري، هو القادر على إعادة انتاج روح العروبة. في ظل الاسلام القرآني شهد تاريخنا العربي اهم ثلاث حضارات هي: الحضارة الأموية والحضارة العباسية وفي ظلهما وعبرهما انطلقت الحضارة الأندلسية التي امتدت 800 عام. من هنا ان «الاسلام القرآني» السمح هو حاضن علم الطب والهندسة والفلك والشعر والأدب والفن والتطور، وهو مطالب في الوقت نفسه بالحفاظ على وجود المسيحية المشرقية التي هي من اصل وتاريخ وجذور هذه المنطقة. والمسيحية المشرقية، سواءً على مستوى الكنيسة القبطية في مصر او على مستوى الكنائس الارثوذكسية والكاثوليكية في كل من العراق والاردن وفلسطين وسوريا ولبنان، وجودها هو غنى للمنطقة ولأهلها وهي تتكامل روحياً ودينياً مع الاسلام القرآني ليشكلا معاً جوهرالعروبة الصافي.
لذلك يرى الرئيس الحص انه لا خلاص لشعوبنا الا بالعروبة الجامعة بجناحيها الاسلام القرآني والمسيحية المشرقية، ولا تطور ولا تقدم لها الا بالابتعاد عن انظمة الاستبداد. واذا لم يتم تدارك هذا الأمر أخشى ان يشهد العالم العربي صراعاً شديد الحدة بين دعاة «الاسلام القرآني» ودعاة الاسلام التكفيري.
وعن اسباب حرصه على المسيحية المشرقية لتبقى وتتكامل مع «الاسلام القرآني»، يقول الحص: هل نسينا عصر النهضة من البساتنة الى شبلي الشميل وأمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخايل نعيمة وخليل سعادة وانتهاءً بميشال عفلق وقسطنطين زريق وأنطون سعاده الذي كان إعدامه جريمة بحق الفكر الانساني؟ ورغم انني لا التقي مع سعادة في بعض طروحاته القومية، لكنني احترم افكاره ومعجب بشخصيته. وفي إحدى المناسبات السياسية (عيد مولد سعادة في الأونيسكو قبل سنوات) قلت إنهم ليتهم حكموا عليه بالمؤبد بدل الإعدام وبقي في سجنه يكتب وينتج فكراً نيراً، لكان اغنى عقولنا ومجتمعاتنا بفكره المنفتح الحضاري المتطور. لقد أعدموه وهو في الأربعين من عمره وكان قد اعطى هذا الفكر الاجتماعي المتقدم، فلو بقي على قيد الحياة وهو في سجنه تصوروا بماذا كان سيغنينا فكراً.
فؤاد شهاب رجل مؤسسات
وعن رأيه بالـ«المدرسة الشهابية»، قال الرئيس الحص: الرئيس فؤاد شهاب كان رجل المؤسسات، وعلينا الاعتراف بفضله في بناء المؤسسات العامة التي لا تزال تسيّر الى الآن شؤون الدولة. وقد ساهمت هذه المؤسسات في نهضة لبنان العلمية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة والعالم حتى اطلق عليه لقب «سويسرا الشرق». ولولا الحرب الأهلية التي ضربت البلد عام 1975 لكان لبنان قفز الى مصاف الدول الراقية والمتقدمة. لكن الحرب الأهلية أعادته خمسين سنة الى الوراء. والادارة الرسمية التي جاءت بعد انتهاء هذه الحرب فشلت في إعادة البلد الى تألقه وتقدمه ليعود كما كان عليه قبل الحرب الأهلية، والخطأ الوحيد الذي يُعاب على النهج الشهابي هو تحكم المكتب الثاني (شعبة المخابرات) في بعض مفاصل الحياة السياسية في لبنان آنذاك.
وعن سرّ صداقته الشخصية بالرئيس الراحل الياس سركيس التي فتحت أمامه أبواب رئاسة الحكومة في بداية عهده، يقول الرئيس الحص: لقد ربطتني بالرئيس سركيس صداقة شخصية متينة. فهو شخص نظيف الكف وشريف رحمه الله، وقامت صداقة شخصية مجرّدة ونبيلة بيننا من خلال عملنا معاً في مصرف لبنان، هو حاكم للبنك المركزي وأنا رئيس للجنة الرقابة على المصارف التي كان لي شرف تأسيسها بعد أزمة بنك «انترا» وكنت ايضاً اول من ترأسها.
يتابع الحص: قبيل انتخابه رئيساً للجمهورية بأشهر قليلة طلب مني الرئيس سركيس تحضير مشروع لإعادة إعمار المناطق التي تضررت خلال حرب السنتين. فأعددت مشروعاً لإنشاء «مجلس الإنماء والإعمار». وبعد الانتهاء منه والاطلاع عليه من قبل الرئيس سركيس ابلغني رغبته بتعييني وزيراً للتصميم لأتولّى شخصياً الاشراف على عمل مجلس الانماء والاعمار عند وبعد تأسيسه. وعندما انتخب رئيساً للجمهورية كشف لي عن عدوله بتعييني وزيراً للتصميم (التخطيط) وعن رغبته بتكليفي برئاسة الحكومة. وعندما شكلت الحكومة أسست فوراً مجلس «الانماء والاعمار» وفق الدراسة التي وضعتها وعينت الدكتور محمد عطالله اول رئيس له.
رياض سلامة ناجح وجريء
وعن رأيه بصديقه الحاكم الحالي لمصرف لبنان رياض سلامة والقاسم المشترك بينه وبين الرئيس الياس سركيس في قيادة السلطة النقدية، يقول الحص: القاسم المشترك بين الرئيس سركيس ورياض سلامة في حاكمية مصرف لبنان هو ان للاثنين شخصية هادئة ورصينة ومتزنة. يضاف الى ان رياض سلامة يتمتع بجرأة وإقدام وصاحب قرار مكّنه ذلك من الحفاظ على الاستقرار النقدي، رغم الظروف السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية الصعبة التي مرّت بها البلاد خلال العشرين سنة الماضية ولا تزال تعيشها. وهو استطاع، ليس فقط الحفاظ على الاستقرار النقدي، بل بناء قطاع مصرفي قوي ومتين وضعه من حيث التقنية والانتاجية في مصاف القطاعات المصرفية العالمية. وهذا الامر كان الحافز لي لاتخاذي قرار التجديد له بدون تردّد في حاكمية مصرف لبنان عندما ترأست الحكومة في بداية عهد الرئيس اميل لحود عام 1998. ونجاحه هذا كان الحافز لي ايضاً لترشيحي له ولقائد الجيش آنذاك العماد ميشال سليمان للرئاسة عام 2007.
وعما اذا كانت ترشيحاته مجدداً للرئاسة عام 2014 ستكون على غرار ما كانت ترشيحاته الرئاسية عام 2007 يجيب الحص: نعم.. علماً ان كل الخيارات الرئاسية تبقى مفتوحة حتى الربع الساعة الاخير.
«8 و14آذار»
يجمعهما «البزنس السياسي»
وعن رأيه بالحياة السياسية الراهنة التي يعيشها البلد، يقول الحص: أنا قلت سابقاُ إن في لبنان الكثير من الحرية والقليل من الديموقراطية. وهذا يعني أننا نفتقر للحياة السياسية الصحيحة. وما نعيشه اليوم هو «فوضى سياسية وإعلامية»، وحتى «فوضى فنية وثقافية واقتصادية». كل شيء تدنى مستواه وقيمته.. كل شيء في البلد اصبح «مسخرة». حتى عمليات الخطف والابتزاز المالي حولت الدولة وأجهزتها ومسؤوليها وقادتها الى «اضحوكة». وصارت جلسات مجلسي النواب والوزراء «مثل قلتها، لا بتقدّم ولا بتأخّر بشيء». وهذا يعني ان القوى السياسية التي تنهش خيرات الدولة والوطن والموزعة بين ما يسمى «8 و14» آذار هي «وجهان لعملة واحدة» يجمعها «البزنس السياسي». وهذه القوى تعتاش على أدران النظام الطائفي الذي ينهش بجسم الوطن ويمنع تقدمه وتطوره كما ينهشون هم وأزلامهم خيراته.
عن الخلاص والحل يقول: الخلاص والحل هو في إقرار قانون انتخابي راقٍ وحضاري يقوم على النسبية وينتج طبقة سياسية جديدة، ويعطي أجواء عامة نظيفة يستطيع الضعيف فيها محاسبة القوي ومساءلته «من اين لك هذا؟».
نصرالله قائد تاريخي واستثنائي
وعن رأيه بالمقاومة اللبنانية وقائدها السيد حسن نصر الله، يقول الرئيس الحص: المقاومة الوطنية اللبنانية أعادت الأمل الى قلوب اللبنانيين والعرب بقرب استعادة فلسطين من المغتصب الاسرائيلي. وهي في بطولاتها وصمودها وانتصاراتها أسّست لمستقبل واعد، واكّدت ان الانسان اللبناني والعربي قادر على اجتراح المعجزات والانتصارات، اذا توافرت له الارادة الصلبة والقيادة الحكيمة والواعية والقوية، كما هو حاصل اليوم بوجود السيد حسن نصر الله على رأس المقاومة، انا معجب به واعتبره «قائداً تاريخياً واستثنائياً».