كانت علاقتي بسماحة السيد موسى الصدر في النجف الأشرف علاقة زمالة وصداقة وحركة إسلامية حوارية، فكنا نلتقي في الدراسات العليا الفقهية والأصولية وكنا نلتقي مع ابن عمه السيد محمد باقر الصدر والسيد إسماعيل الصدر،
وكان أول لقاء بيني وبينه عندما حضر إلى النجف ليقيم احتفالاً بالذكرى السنوية لأبيه، الذي كتبت قصيدة في رثائه.
عشنا معاً في النجف أربع سنين في علاقة وثيقة اكتشفت خلالها الآفاق الواسعة التي كان يعيشها ويتطلع إليها ويفكر فيها، لأنه قبل أن يأتي للنجف كان من بين جماعة تحاول أن تعصرن الحوزة العلمية في قم لأنه كان إنساناً يعيش عصره ويتطلع أن ينطلق علماء الدين إلى أجواء العصر ليكون لهم حس المعاصرة بحيث يفهمون عقل العصر وأسلوبه وتطلعاته.
الانفتاح على الواقع اللبناني:
وعندما سافر أول مرة للبنان وعاد إلى النجف أعطى المجتمع النجفي تقريراً واسعاً عن الواقع اللبناني وطوائفه حاجة كل طائفة إلى رمز يفتح مساحاتها على اللقاء مع الطوائف الأخرى من موقع وعي وعلم وحركة في هذا المجال، وقد كان يفكر أن يفتح للمسلمين بشكل عام وللشيعة بشكل خاص الساحات التي تمثل المجتمع اللبناني ليكون هناك نوع من التواصل والتكامل والتعارف فيما بين المسلمين الشيعة وبين اللبنانيين الآخرين. لذلك تحرك في لبنان ليوسع علاقاته بالمجتمع المسيحي واستطاع أن يحصل على الثقة الكبرى من الشخصيات المسيحية الدينية والسياسية وغيرها.. وهكذا انطلق في علاقاته بالمستوى الذي انفتح فيه على الفاتيكان في علاقة جيدة.
ثم انطلق في الواقع الإسلامي الشيعي وكان يحاول أن يجمع هذه الطائفة ويدخلها إلى العصر من خلال الانفتاح على الأوضاع السياسية التي كانت تهز البلد من خلال أن المرحلة كانت مرحلة التحديات الكبرى للواقع العربي في مرحلة ظهور جمال عبد الناصر وحركته في هذا المجال وقد واجه الكثير من الأساليب السلبية التي كانت تثيرها بعض تيارات اليسار من جهة وبعض العلماء من جهة أخرى، غير أنه كان إنساناً يتميز بسعة الصدر والأفق ولذلك استطاع أن يتحرك بالوسائل الأخلاقية الرفيعة التي تجتذب حتى خصومه.
كان رائداً للوحدة الإسلامية:
كان رائداً للوحدة الإسلامية وكان يحاول أن يؤسس مع الأخوة من المسلمين السنة المجلس الإسلامي الأعلى لكنه اصطدم ببعض الرفض من بعض الشخصيات الإسلامية السنية التي لم توافق على هذا الاندماج وربما كان هناك بعض الخلفيات التي لا تريد للمسلمين أن يتوحدوا في موقع واحد، دور في تعطيل هذه المبادرة.
لذلك عندما بادر لإنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى لم يكن منطلقاً من ذهنية طائفية تريد أن تعزل الشيعة عن المسلمين أو تعزل الشيعة عن الواقع اللبناني المتعدد الطوائف لكنه عندما لم تنجح التجربة في جمع المسلمين في وحدة تؤسس لمجلس إسلامي أعلى يضم الشيعة والسنة أراد أن يجمع المسلمين الشيعة سواء من العلماء أو السياسيين أو الشخصيات المدنية حتى يكون هناك وحدة شيعية تنفتح على الوحدات الإسلامية الأخرى أو الوحدات الطائفية الأخرى.
حركة المحرومين:
كان السيد موسى الصدر يعيش الآفاق الواسعة لإنسانيته لذلك أسس حركة المحرومين التي لم تكن حركة شيعية بل كانت حركة تمثل أكثر من بعد طائفي لأنها كانت تضم الناس من كل الطوائف لأنه أدرك واقع الحرمان في أكثر من منطقة لبنانية، لذلك حاول أن يؤسس لحركة المحرومين حتى يلتقي القائمون عليها في برنامج يؤسس لحل مشكلة المحرومين في لبنان على أساس الضغوط السياسية والضغوط الاجتماعية والاقتصادية.
الانفتاح على الواقع العربي:
وقد كان السيد موسى الصدر منفتحاً على الواقع العربي الذي يتجاوز لبنان وهذا ما يفسر علاقته الخاصة بالرئيس حافظ الأسد وبالرئيس جمال عبد الناصر الذي كان يحمل صورة سلبية عنه، لكنه عندما التقى به واستمع إليه اقتنع أنه شخصية مخلصة للإسلام والمسلمين ولا تخضع لسياسة الشاه الذي كانت سياسته سياسة أمريكية بالكامل منفتحة على إسرائيل حيث اعترف بها واقعياً ـ لذا كان موضع تقدير من الرئيس عبد الناصر.
وكذلك رأينا كيف امتدت علاقته بالسعودية وربما كان انفتاحه على العالم العربي هو الذي أدى به لقبول زيارة ليبيا عندما قدمت له الدعوة وكانت هي آخر نشاطه ولا يُعرف حتى الآن كيف انتهت هذه المأساة.
تأسيس المقاومة:
إننا عندما نتذكر سماحة السيد موسى الصدر نتذكر الشخصية التي لم تنطلق من حالة عصبية بل انطلقت من حالة انفتاح على الوطن كله في نطاق الوحدة الوطنية وعلى حوار الأديان في نطاق علاقته بالحوار الإسلامي المسيحي وعلاقته بالعالم العربي في مواجهة إسرائيل وكان له الفضل الكبير في تأسيس المقاومة ضد إسرائيل..
لقد كان الإنسان الذي يملك صدراً واسعاً وعقلاً واسعاً وحركة منفتحة على الإنسان كله وعلى الإسلام كله ولذلك فإننا نشعر في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان والعالم الإسلامي إننا نفتقده ونشعر بالفراغ الهائل الذي تركه.
ولا أنسى أنه كان من الشخصيات الفاعلة القوية في دعم حركة الإمام الخميني في الثورة الإسلامية وكان يستقبل المجاهدين الذين يتحركون في خط الإمام، كان رجلاً متنوع الآفاق وكان شخصاً متنوع الأبعاد.
ونحن عندما نعيش ذكراه فإننا نشعر بأنه من القلائل الذين كانوا يمثلون الشخصية الإسلامية الرسالية المنفتحة على الإنسان كله وعلى الإسلام كله.
خط الإسلام الحضاري:
لقد كانت علاقتي معه علاقة صداقة عميقة لا تمنع من أن تختلف في وجهات النظر، وكنا نلتقي ونتفق في الأهداف والآفاق وأن علينا أن نعمل على أساس الأفق الواسع على المستوى العربي والإسلامي وعلى أساس المواجهة للاستكبار العالمي المتمثل بأمريكا من جهة وبإسرائيل من جهة أخرى.
كنا نمثل خطاً واحد هو خط الإسلام الحضاري المنفتح على العالم كله وخط التشيع الحضاري المنفتح على الواقع الإسلامي كله.
كنا معاً ضد التخلف وضد الخرافة وضد الغلو، وضد كل ما يسيء إلى الأمة، لذلك فإنني أشعر عندما أتذكره بالحزن الكبير، لأنه حزن الرسالة وحزن الأخوة التي تنفتح على خط الرسالة.
شاهد أيضاً
في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)
قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …