لم تصحو #فرنسا بعد من هول الصدمة التي تلقتها ليل الجمعة الماضي، فيوم 13 تشرين الثاني سيحفر عميقا في ذاكرة الفرنسيين، لا سيما أنه الحدث الإرهابي الفريد من نوعه على مستويين: الأول، المستوى الفرنسي والأوروبي، فضحايا الهجمات الست المتلاحقة في قلب باريس هم الاكثر عددًا نتيجة لعملية إرهابية بعد تفجير قطار مدريد في إسبانيا على يد إحدى خلايا القاعدة عام 2004 ، والذي أوقع 191 قتيلاً وأكثر من 1700 جريح. والثاني، انه الهجوم الاكبر على الإطلاق الذي يعلن عنه التنظيم المتطرف أو أحد فروعه خارج المناطق التي جعلها ولايات لـ”دولته الاسلامية” في العراق وسوريا وليبيا وسيناء.
أخبار ذات صلة
صورة صادمة للدرع الذي استعملت في هجمات باريس
“هل تسمعون الصراخ؟ و تشعرون بالمعاناة؟ “… الرواية من داخل الباتاكلان
وكانت فرنسا احتلت دائماً مكاناً عالياً على رأس الأهداف الخطابية لـ”داعش”. وكان الناطق باسم التنظيم الإرهابي محمد العدناني، صرح في وقت سابق: “اعلموا أننا نريد باريس – بإذن الله- قبل روما وقبل إسبانيا، بعد أن نسوِّد حياتكم وندمّر البيت الأبيض، وبيغ بِن وبرج إيفل”.
وبالنسبة الى “داعش”، ربما تبدو الهجمات الكبيرة المروعة في الخارج وكأنها أكثر الطرق فعالية للردّ على تدخل القوى الخارجية وردع المزيد من تعمق هذا التدخل، سواء كان التدخل الروسي الأخير في سوريا، أو تورّط فرنسا الأطول أمداً في القتال ضد الاسلاميين المتطرفين في اكثر من بلد في الشرق الاوسط وأفريقيا. وربما تمثل الهجمات على أهداف غربية أيضاً نوعاً من الدعاية المسلحة. وبينما يتم إضعاف “داعش” في معقليها العراقي والسوري، ربما يبحث التنظيم عن إنقاذ ماء الوجه ومحاولة عرض قوّته بأيّ طريقة تتوافر لديه.
وكان “داعش” حدد في بيان مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية، ثلاثة أسباب، أوّلها ما رآه تصدّر فرنسا للحملة العسكرية على التنظيم فى سوريا والعراق، والثاني ما سماه “تجرؤهم على سبّ النبي”، والثالث ما أطلق عليه الحرب على الإسلام في فرنسا. وقد تكون هذه هي الأسباب المعلنة للهجمات الإرهابية على باريس، إلا ان هذه الاسباب يمكن إسقاطها على دول غربية اخرى، فلماذا فرنسا سبقت غيرها الى الجحيم؟
الارجح أن المكانة الرمزية لفرنسا دولياً باعتبارها دولة “العلمانية” والتحرّر الأولى في العالم دفعت التنظيم الى البدء بها، وبالنسبة الى المجموعات المتشدّدة، تجسّد الجمهورية العلمانية صورة الشيطان. وقد زادت من شعور الكراهية إزاء فرنسا، القرارات التي اتخذتها في السنين العشر الاخيرة، مثل حظر الحجاب في المدارس في 2004، وحظر النقاب في 2010، إلى السماح بزواج المثليين في 2013، وهذا ما أدى إلى تفاقم التوتر بين كلّ من فرنسا والجالية المسلمة في داخلها.
إلى ذلك توجد في فرنسا بيئة بشرية مناسبة لتجنيد أعضاء للتنظيم سواء من الجاليات العربية والمسلمة الكبيرة المقيمة في فرنسا أو من الفرنسيين الذين يمثّلون نسبة مهمة من أعضاء “داعش” في المشرق والمغرب العربيين. كذلك، فإن الموقع الجغرافي لفرنسا في قلب أوروبا الغربية وإمكان التنقل منها وإليها بسهولة الى الدول المجاورة بخلاف بريطانيا التي يفصلها عن القارة القديمة بحر المانش، ربما اضطلع بدورٍ في اختيار فرنسا لتكون الهدف الأول الأكبر لعمليات داعش الإرهابية في دول الغرب عموماً وأوروبا خصوصاً”.
وقد كان التنظيم واضحاً فى بيان إعلان مسؤوليته عندما وصف الهجمات الإرهابية بأنها “أول الغيث وإنذار لمن أراد أن يعتبر”، وهو ما يعني أمرين: الأول هو أن المجموعات الهاربة من التنظيم بعد هجمات باريس ستشرع، وعلى الأرجح فوراً وفي خلال وقت قصير للغاية، في تنفيذ عمليات أخرى ذات طابع استعراضي ويهدف إلى إيقاع أكبر عدد من الضحايا. الأمر الثاني هو أن دولاً أوروبية وغربية أخرى ستكون الأهداف التالية لهجمات “داعش” في فترات لن تكون بعيدة أو طويلة على الأرجح.
وكان هذا التنظيم على عكس “القاعدة” الام التي خرج من عباءتها التكفيرية وشراستها الميدانية، يفضل العمل في ميدان معركته القريب، في الاراضي التي يسيطر عليها في العراق وسوريا وليبيا لبناء “خلافاته” وعلى قضم المزيد من “الولايات” المحاذية وضمها في الشرق الاوسط التي تنهار دوله وتتفكك، اي انه كان تنظيمًا محليًّا على عكس “القاعدة” التي تخصّصت في مهاجمة “العدو البعيد” في اميركا وفرنسا. ولم يكن زعيم المجموعة، أبو بكر البغدادي، في أي وقت من الأوقات جزءاً من الحركة الجهادية العالمية، بل يُعتقد أنه لم يسافر أبداً إلى خارج العراق وسوريا. وهكذا فان الفارق بين التنظيمين جوهري، ويكمن في استراتيجية كل منهما، فالقاعدة لم يكن تنظيماً يسعى لإقامة دولة يحكمها، ولم يسيطر على أراض في العالم – بما في ذلك أفغانستان- بما يمكّنه من إقامة هذه الدولة وتوجيه قدراته للقتال فيها وحولها، وكانت استراتيجيته شن هجمات كبيرة على من أسماهم “أعداء الإسلام” سواء فى الدول العربية والمسلمة أو الدول الغربية. أما تنظيم داعش، فقد كانت استراتيجيته التقليدية هى توفير جميع طاقاته البشرية والعسكرية والمادية للقتال في “ولايات دولته الإسلامية”.
لكن المذبحة الباريسية والموجة الأخيرة من الهجمات التي سبقتها والتي أعلن “داعش” مسؤوليته عنها، ربما تشير إلى تغيّر في الاستراتيجية؛ وقد تضمّنت هذه الهجمات تفجيرين انتحاريين في بيروت يوم 12 تشرين الثاني، والتفجير الذي أسقط الطائرة الروسية في مصر يوم 31 تشرين الأول وقبل ذلك تفجير أنقرة الذي ادى الى مقتل أكثر من 100 شخص يوم 10 تشرين الأول، والذي نُسب إلى “داعش” لكن التنظيم لم يعلن مسؤوليته عنه. فهل نحن إزاء إعادة تنظيم جذرية لعضوية وهيكلية داعش وقدراته لكى يتمكن من البدء فى هذه المرحلة الجديدة بالهجمات الخارجية ضد من يرى أنهم أعداؤه؟
يجيب الخبير في الشؤون الاسلامية ضياء رشوان: “شاعت في الدراسات الغربية للحركات الإسلامية العنيفة، وعلى رأسها داعش، خلال الفترة الأخيرة نظرية وجود أفراد أو مجموعات صغيرة للغاية تقوم بالعمليات الإرهابية في بعض الدول خارج العراق وسوريا وليبيا، وأنها ليست على اتصال بقيادة تنظيم داعش المركزية، ولا تتلقى منها أوامر ولا تحصل منها على إمكانات ولا تخضع لما تخطّطه من عمليات. والحقيقة أن عمليات باريس تتعارض تماماً مع هذه النظرية من زوايا عدّة، وترجح أننا إزاء تنظيم صغير يمكن أن يصل أعضاؤه ما بين عشرين إلى أربعين عضواً، وأنه مرتبط بصورة مباشرة تخطيطاً وإمكانات وتنفيذاً مع القيادة المركزية لـ”داعش”.
ويضيف: “توضح ملامح العمليات الإرهابية الست أن المجموعة المنفّذة لها تتراوح بين 15 و20 فرداً، ما بين من استطلعوا، ومن جهزوا المعدات اللازمة لها من مواد متفجرة وأسلحة وسيارات انتقال وإخلاء وتواصل مع التنظيم الأم، لكي يصدر بيانه المفصّل بهذه السرعة. وتوضح هذه الملامح أيضاً أننا إزاء أفراد مدربين بصورة جيدة على أداء كل هذه المهمات القتالية والاستطلاعية والاتصالية، وهو ما يطرح احتمالاً قوياً بأن يكون بعضهم أو قيادتهم المحلية على الأقل ممن سبق لهم القتال في صفوف داعش بالعراق وسوريا أو ليبيا، وعادوا أو أعيدوا بقرار من التنظيم إلى فرنسا لتطبيق استراتيجيته الهجومية الجديدة. ويفتح هذا الباب، إذا صح، مسألة خطورة “العائدين” من داعش إلى بلدانهم الأصلية، حيث إن هناك الآلاف من المواطنين الأوروبيين من المسلمين الأصليين أو المعتنقين للإسلام حديثاً، من المقاتلين في صفوف “داعش”، وعودة بعضهم إلى بلدانهم مع ما لديهم من خبرات وتكليفات وقدرة على تجنيد آخرين من مواطنيهم، يعني أن احتمال تكرار هجمات فرنسا الإرهابية فى بلدان غربية وأوروبية أخرى سيكون احتمالاً كبيراً لا يمكن تجاهله.
في بداية العام، خاطب العدناني الغرب، قائلا: “إنكم لم تروا منا شيئاً بعد”.
وإزاء الضغط الشديد الذي بدأ يتعرض له التنظيم قصفًا وضربًا في سوريا والعراق، يخشى ان يعمد “داعش” إلى الضرب بإيقاع أكثر إيلامًا في الخارج، واختيار الأهداف الناعمة في المدن الغربية الكفيلة بصناعة أكبر عناوين الأخبار.
المصدر: النهار