العازف الروسي والسائق الجزائري
سامي كليب
على جري عادته كل صباح ،يصدح صوته بالغناء. ما ان تدق الساعة التاسعة صباحا حتى يجتاح صوته طوابق البناية. يجتاحها بقوته وصفائه. صاحب الصوت السوبرانو شاب روسي في مقتبل العمر يجاورني في شقتي الباريسية منذ ٣ سنوات. قبله كان نباح كلب جارتي الأرستقراطية الفرنسية العجوز يملأ المكان. وجدوها جثة باردة كصقيع الشتاء الفرنسي في عز الشتاء. لم تنفعها كل النياشين التي طالما زينت صدرها في الاحتفالات الرسمية. ماتت وحيدة فبكى كلبها. او هكذا أوحى بصوته المتهدج قرب الجثة. غالبا ما يموت الكلب حزنا بعد موت سيده. الوفاء في غريزته. البشر فقدوا الوفاء وجنحوا صوب الغرائز .لم اسألها يوما عن سبب نياشينها والأوسمة . مرة واحدة قالت بحسرة العارف قرب الرحيل :” لم يبق من تاريخي غير ما يزين صدري “. لعلها كانت طبيبة في الحرب لعالمية الثانية، او مجرد ممرضة او مقاومة . ليس للأمر أهمية . بقيت منتصبة القامة وهي تودع الرابعة والثمانين . تتكيء عل عكازها وتنظر الى الاعلى كأنها تتحدى الزمن . لا يناقض عنفوانها سوى ضعفها ووهن الجسد حين تمرض. كان أنينها يجذبني لطرق بابها. تفتح وتبتسم رغم الألم وتدعوني للدخول. تشد الشمال الصوفي على كتفيها وتتكون على نفسها . اعرض عليها الذهاب لعند طبيبها فترجوني الا افعل. تقول لي ” فقط ابق معي قليلا وحدثني سأصبح افضل ” . فعلا كانت تصبح افضل . كانت تحب. زهور اتنا المشرقية. نشر بها سويا . اشعر انها تعافت قليلا. احدثها عن اخر رحلة لي . تبتسم. تتثاقل عيناها تعبا ومرضا . اساعدها لتستلقي على سريرها . اضع كوبا من الماء قربها وأغلق بابها . ماتت وانا على سفر. ربما لم تشأ ان أراها تموت. كنت السبب الوحيد لفرحها . لعلها لم ترد ان تكون السبب الأخير لحزني.
هكذا يموت الناس في عواصم الغرب. هنا كل شيء متوفر الا بعض انسانية تدفئ العجوز في ليالي الشتاء .
دعوت جاري الروسي لشرب قهوة الصباح . اعتذر عن صوته العالي. ابتسمت وقلت لا باس فصوتك اقل إزعاجا من نباح الكلب . ضحكنا . أخبرته عن جارتي المرحومة فشاركنا بعض الحزن . تلمع عيناه حين يتحدث عن حبه لفرنسا. يقول انه لم يخترها فقط لدراسة الموسيقى والغناء الأوبرالي ففي بلاده المعاهد اهم . اختارها لان جدته الفرنسية زرعت في قلبه شوقا لمدينة الانوار لم يقو يوما على مقاومته. تلمع عيناه اكثر حين يتحدث عن فلاديمير بوتين . يستوي في جلسته. يضع كوب القهوة على المنضدة . يوحي بانه يستعد لإلقاء خطاب . نعم رئيسنا أعاد لنا مجدنا وتحدى العالم . فلاديمير وضع الاطلسي كله اما خيارين : اما يقبل الندية وليس التبعية او ليتحمل وزر المواجهة . ثم ان فلاديمير رفع شان المواطن الروسي وحسن اقتصاده . وأفقته لكني سألته : ” طالما انت تحب فلاديميرك الى هذا الحد لماذا جئت تعيش في ربوع الاطلسي ؟ “. ضحك بصوته السوبرانو وقال :” انها جدتي اللعينة زرعت هذه السوسة في قلبي ” . سألني عن وضع سوريا . قلت له :” وما علاقتك بها ” . كاد يستهجن سؤالي :” يا صديقي نحن نتابع اخبار دمشق كما اخبار القرم عندنا . المعركة واحدة “.
ينهمر مطر خفيف على باريس . يحث المشاة الخطى. يلتصق الأولاد بأمهاتهن تحت المظلات الواقية . يتجمع بعض المشاة حول طاولات مقاهي الأرصفة . تلمع وريقات الأشجار كأنها خارجة لتوها من حمام مغربي . تبدو المدينة النظيفة أصلا اكثر رونقا بعد حمامها الاول في هذا الربيع. لا مجال للسير على الأقدام رغم سحر السير تحت المطر . يتوقف التاكسي. يلعن المطر وزحمة السير . الزحمة التي تزعجه هي عبارة عن ٥ سيارات تدافعت بسبب المطر . فكرت ببيروت والقاهرة وضحكت . فهمت من لكنته الفرنسية المفخمة الأحرف ومن سحنته السمراء انه مغاربي الاصل . علمني السفر ان أميز بين عشرات اللهجات. قلت له ” انت جزائري أليس كذلك ؟ ” سارع قبل ان انهي السؤال ” لا أنا قبائلي ” . هو من أمازيغ الجزائر من منطقة القبائل الكبرى . اهل الشرق يعرفونهم باسم البربر وهم لا يحبون هذا الاسم. اعرف حساسية السؤال الثاني لكني تعمدت طرحه :” يا اخي انت جزائري وتحمل جنسية بلدك فلماذا تقول انك امازيغي ولست جزائريا ” . سمعت منه ما اسمعه منذ سنوات . نقمة على العرب . ونقطة على التهميش في بلاده. ونقطة على السلطة . ورغبة في التمايز . يشعر الامازيغي المتعصب لامازيغيته ان في هذا التمايز ما يجعله اقرب للغرب الذي يعيش فيه . ربما الغرب يعزز مثل هذا الشعور لكن الأكيد ان هذا الوطن العربي بات بحاجة الى نهضة جديدة. الأمازيغ يريدون دولة . الاكراد يريدون دولة . جنوب السودان انسلخ عنه بخيراته الطبيعية والنفطية . جنوب اليمن آيل للانفصال . شبح الفدراليات والتقسيم يخيم على ليبيا والعراق وسوريا واليمن . جزيرة مايوت انسلخت عن جزر القمر والتحقت بفرنسا … والحبل على الجرار
ترجلت من التاكسي ومشيت تحت المطر . في ذهني سؤال واحد : لماذا يعتز الروسي ببلاده ونحن نخجل باوطاننا ؟.
شاهد أيضاً
في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)
قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …