سماحة العلامة السيد محمد علي فضل الله
الجمعة 12 شوال 1435هـ الموافق 8 آب 2014م
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، وَأفَضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَى أَشْرَفِ خَلْقِ اللهِ وأعزِّ المُرسَلينَ سَيِّدِنَا وحَبيبِنَا مُحَمَّدٍ رسولِ اللهِ وعلى آلهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَأصحَابِهِ الأخيَارِ المُنْتَجَبين.
جاء في الكتاب العزيز في سورة الإسراء في الأمر بالوفاء بالعهود: وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً [الإسراء: 34]، وجاء في سورة المؤمنون في الحديث عن أخلاقيّات المؤمنين وصفاتهم: وَالَّذينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8] وجاء في سورة الرعد: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ*الَّذينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد: 19-20].
تنطلق هذه الآيات للتركيز على واحد من أهمِّ أخلاقيَّات الرِّسالة الَّتي أراد اللهُ للمسلم أن يعيشها ويجسّدها، وهي حالة الانضباط في مجال الالتزامات الَّتي ينطلق على أساسها في حياته، والعهود الَّتي يطلقها مع الله ومع النَّاس..
فقد جاء الإسلامُ ليركِّز على أخلاقيَّات المسلم، الَّتي أراد له أن يحملَها داخل ذاتِه وفي مجتمعه، وفي كلِّ مُحيطه، ومجريات حياته. وليست الأخلاق الَّتي يركِّز عليها الإسلام، هي مجرَّد الكلمة الطيبة، والوجه البشوش الضاحك، وحسن المجالسة، وذلك مطلوب في التَّعامل مع النَّاس من حولنا، ولكنَّ الأخلاقَ الإسلاميَّةَ المطلوبة أشملُ من ذلك بكثير، إذ هي حالة نفسيَّة تحرِّك كلَّ خطواتِه، ومنهجه وأساليبه.
فالخلق الإسلامي يتطلب منك التعامل في كل الحياة على أساس الصدق، في الكلمة الَّتي تطلقها بين النَّاس والموقف الَّذي تقفُه والتَّعامل الَّذي تجريه مع من حولك، فلا تمارس الكذب ولا تلجأ إليه في أيِّ واحدةٍ من هذه المجالات، لأنَّك تبتعدُ عن أخلاقيَّاتك حين تحمل روحيَّة الكذب والنِّفاقِ وتضليلِ الآخرين..
والملحوظ، أنَّ أخطر ما يواجهه المجتمع في الحياة هو فئة الكذَّابين والمنافقين، الَّذين يمثِّلون أخطر أمراض الداخل، فالعدوُّ الظَّاهر تَسهُل مواجهتُه وطريقةُ التَّعامُلِ معه، أمَّا من لبس ثياب الصداقة الَّتي تخفي تحتها البغض والعداوة، فهو الَّذي يمثل الخطر والضرر..
وهذا ما نلمسه في التعامل مع الكثير أهل السياسة والحكم الَّذين يرفعون شعارات الإسلام في الوقت الَّذي يسيرون تحت رايات الاستكبار المعادي الظالم، أو الَّذين يرفعون شعارات الحرِّيَّة والعدالة وحقوق الإنسان، في الوقت الَّذي ينتهكون فيه، كلَّ هذه القيم.
لقد رفض الإسلامُ الكذب ونهى عنه بشدَّة وشدَّد على تركه لأنَّه يمثِّل قيمة سلبية تزرع الشكوك وتبذر الفرقة بين مكوِّنات المجتمع وتؤدي في حال تفشِّيها إلى تفتيته وتدميره.
ونحن نلاحظُ أهميَّةَ الصِّدق في إصلاح النفوس وتهذيبها وإرشادها إلى خطّش الاستقامة من خلال نماذج متعدِّدة وردت في التاريخ الإسلامي ومنها ما ورد في بعض الرّوايات أنَّ رجلا جاء إلى النَّبي(ص) فقال له: أنا أستسر بخلال أربع –يعني أنَّه لديه أربع ممارسات لا يتركها-: الزنا، والسَّرقة، وشرب الخمر والكذب، فأيَّتَهُنَّ شئتَ تركتُ لكَ يا رسولَ الله-فهو يريد من الرسل أن يخفِّف عنه ويسمح له بالإقدام على هذه الممارسات مقابل ترك واحدة منها-. فقال(ص): دَعِ الكذب. فلما تولَّى -الرَّجل وابتعد عن رسول الله(ص)- همَّ بالزِّنا فقال: يسألني فإن جحدتُ نقضتُه ما جعلتُ له –يعني أنَّه إذا كذب يكون قد أخلَّ بوعده والتزامه تجاه رسول الله(ص)- وإن أقررتُ –إذا صَدقَ ولم يكذب- حُدِدتُ أو رُجِمت-وهذا عقاب الزَّاني في الإسلام-. ثمَّ همَّ بالسرقة، ثمَّ في شربِ الخمر، ففكر في مثل ذلك –بأنّضه إذا كذب يكون قد أخلَّ بوعده والتزامه وإذا صدق يتعرَّض للعقاب-. فرجع إليه فقال: قد أخذتَ عليَّ السَّبيل، قد تركتُهُنَّ أجمع، فالتزامه بترك الكذب أدَّى به إلى ترك كلّ المعاصي، لأنَّه ما من معصية إلا وفيها كذبٌ أو ما يدعو إلى الكذب. ولذلك ورد في الحديث عن النبي (ص) أنَّه قال: مِن أعظمِ الخطايا: اللِّسانُ الكَذُوب. وعنه(ص) قال : ثلاثُ خصالٍ من علامات المنافق: إذا حدَّث كَذَب، وإذا ائتُمِنَ خان، وإذا وَعَدَ أخلف.
أما نحن فقد جعلنا للكذب يوماً عامًّا وعالميًّا نكذب فيه بكلِّ جرأة مع أنه محرم بكل أساليبه إلا بعض الخصوصيات. فقد ورد عن رسول الله(ص) أنَّه قال: إنَّ الكذبَ لا يصلحُ منهُ جِدٌّ ولا هَزل، ولا أن يَعِدَ الرَّجلُ ابنَه ثمَّ لا يُنجِزُ له، إنَّ الصِّدق يهدي إلى البِرّ ، وإن البِرَّ يهدي إلى الجنَّة، وإنَّ الكَذِبَ يهدي إلى الفُجور، وإنَّ الفُجُورَ يهدِي إلى النار. وعن الإمام علي(ع) أنَّه قال: لا يَجدُ عبدٌ طَعمَ الإيمان حتَّى يترُكَ الكَذبَ هزلَهُ وجِدَّه.
وعلى هذا الأساس كان الصِّدقُ عماداً من أعمدةِ الحياة السَّليمةِ المُستقرَّة، فكان من أهمِّ أخلاقيَّاتِ الإسلام.
إنَّ الإسلام يدعوك لأن تكون صادقًا في كلِّ حركتك، ومن خلال صدقِكَ تستطيعُ أن تكون أميناً فترفضَ الخيانةَ في أي شيء من مبدأ وموقفٍ وقضيَّة. وخصوصًا حينما تعقِدُ العهودَ في معاملتك مع الله ومع المجتمع المؤمن من حولك، بل حتَّى عندما تُعاهدُ أعداءك، فتكون صادقًا بالالتزام بعَهدِك وتعهُّدكَ حينما تُقدِمُ عليه، وهذا ما نلمسه من حركة رسول الله(ص) الَّذي كان يلتزم بما يعاهد عليه المشركين ولا ينقض عهدهم إلا إذا نقضوه، كما جرى في معاهدة الحديبية مع قريش. ولذلك قال سبحانه في سورة الرعد: وَالَّذينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد: 25].
ولعل الكثير من مشاكلنا تتمثَّلُ في نقضِ العُهود، وهو من مميزات اليهودِ وسِماتِهم البَارِزة، الَّتي عانَى منها الإسلام والنبي(ص) في التعامل معهم.. فقد عاهدهم النبي(ص) حين دخل المدينة المنورة على المسالمة، ليكونوا في حماية دولة الإسلام وكتب لهم ذلك في وثيقة المدينة لكنهم أبَوا إلا النَّقض. فنقضوا عهدَهُم مرَّات عدة ولذلك اضطرَّ النبيُّ إلى حربهم وإبعادهم عن المدينة كما جرى مع يهود بني قينقاع ويهود بني النَّضير الَّذين كانوا يسكنون أطراف المدينة في قلاعٍ خاصَّة بهم.
ونحن في هذه المرحلة الزمنية نلتقي في 10 شوال بذكرى معركةِ الأحزاب الَّتي تمثل المواجهة الكبيرة الثلثة للإسلام مع المشركين بعد بد وأحد، نواجه أسلو اليهود في نقض العهد، مع رسول الله(ص).
فبعد الانتصارات المتلاحقة للنبي(ص) والمسلمين، في بدر وأُحُد حين أصبح المشركون يشعرون بالخوف من هذا الامتداد الكبير للإسلام والرسول(ص) ولذلك قرروا أن يخوضوا حربا كبيرةً يقضون من خلالها على رسول الله(ص) وعلى دولته الإسلاميَّة النَّاشئة وبدأ التحريضُ على هذه الحرب من خلال اليهوديّ (حُيَي بن أخطب) فاجتمعت قريش وقبائل العرب في جيش كبير وتوجهوا به إلى المدينة.
بلغت الأخبار رسول الله فاستشار أصحابه فأشار عليه الصحابيُّ الجليل سلمان الفارسيّ بحفر خندق حول المدينة يكون حاجزا مانعا من اجتيازها واجتياحها، فوافق رسول الله(ص) على ذلك ونفَّذه المسلمون، كلُّ ذلك وهم مطمئنُّون إلى وجود عهد مع اليهود على الصلح وعدم القتال وعدم إعانة أحد من المشركين على المسلمين، غير أن اليهود نقضوا العهد بعد وصول جيش المشركين وحاول المشركون اقتحام المدينة فلم يقدروا عليه إلا قليل منهم وبينهم بطل قريش (عمرو بن عبد ودّ العامريّ) الَّذي لم يجرؤ أحد على حربه إلَّا الإمام علي(ع)، فقال رسول الله عندها: برز الإيمان كلُّه إلى الشرك كلِّه، وعندما قتل عليٌّ (ع) (عمرو بن عبد ودّ) قال رسول الله(ص): ضربةُ عليٍّ يوم الخندق تعادل عمل الثَّقلين -أي الإنس والجنّ- إلى يوم القيامة.
ثمَّ أنزل الله رحمته على المسلمين وأرسل ريحًا شديدةً اقتلعت خيام جيش قريش وحلفائها فرجعوا إلى ديارهم خائبين خاسرين. وانصرف رسول الله بعدها إلى تأديب يهود بني قريظة الَّذين خانوه وخانوا عهده فحاسبهم بحسب شريعتهم وأنزل بهم أشدَّ العقاب، وهو قَتلُ المُقاتلين وأخذُ أموالهم وذريَّاتهم، وهو العقاب المذكور في التوراة لخائن العهد.
أيها الإخوة… إنَّ علينا أن نكون الصَّادقين في كلامنا وأفعالنا ووعودنا وعهودنا لأنَّ الحياة من حولنا تحتاج إلى هذه القيَم الصَّالحة حتَّى تعمُر وتزدَهر، وإنَّ الكذب والخيانة يُفسدان المجتمعات، وينشران الفساد في الأرض.
إنَّنا عندما ننظر إلى الواقع الإسلاميّ اليوم، نلاحظ أنَّ ما حدَّثنا عنه القرآن الكريم من صفات اليهود في زمن الرسول(ص) من كيدٍ للإسلام ونقضٍ للعهود والمواثيق، لم يتبدّل ولم يتغيَّر في زمننا الحالي، حيث يستمر احتلالهم للمسجد الأقصى المبارك، وتدنيسهم لمقدسات المسلمين والمسيحيين، كما يستمرُّ عدوانهم و جرائمهم وسفكهم لدماء الشعب الفلسطيني المظلوم.
فبعد حوالي شهرٍ من العدوان على غزة، أدت حمم وطائرات وصواريخ العدو إلى قتل ما يقارب الألفي شهيد وإصابة أكثر من تسعة آلاف جريح، جلّهم من الأطفال والنساء والشيوخ، لكن لم يستطع الصهاينة رغم كل ما اقترفوه من جرائم بشعة وما سفكوه من دماءٍ بريئة، أن يُسقطوا إرادة الشعب الفلسطيني، أو أن يُلحِقوا الهزيمة بقوى المقاومة، الَّتي صمدت صموداً كبيراً، واستطاعت أن تُلحق ضرباتٍ قوية بالعدو، وأن تفرض عليه واقعاً لا يستطيع تجاوزه، وهو واقع قوة المقاومة وصمودها وتنامي قدراتها في ضرب كل الأهداف الصهونية على امتداد مساحة الاراضي المحتلة، بفعل الدعم الكبير الَّذي قدمته إيران وسوريا والمقاومة الإسلامية في لبنان، مما أشعَرَ العدو بعمق المأزق الَّذي وقع فيه، مع تلقيِّه لضربات كبيرة بعد اجتياحه البريّ الَّذي فشل فشلاً ذريعاً، حيث تلقى خسائر كبيرة في صفوفه بلغت حوالي 300 بين قتيل وجريح بحسب اعترافاته، كما فشل في منع إسقاط الصواريخ، وفي حماية جبهته الداخلية الَّتي باتت تحت رحمة صواريخ المقاومين، الأمر الَّذي دفعه إلى تنفيذ المجازر الوحشيّة، في محاولة لإضعاف عزيمة المقاومة وكسر الإلتفاف الشعبي حولها، لكن المقاومة صمدت صموداً بطولياً، ومعها الشعب الفلسطيني في غزّة الَّذي عضّ على الجراح والآلام، مما دفع العدو إلى قبول الهدنة مُرغَماً، دون أن يحقق أيَّ هدفٍ من أهداف عدوانه، حيث ازداد الإلتفاف الشعبي حول المقاومة، كما برزت من جديد لدى شعوب العالم، الصورة الإجرامية لإسرائيل العاجزة عن إلحاق الهزيمة بالمقاومين، والَّتي لا تكفّ عن قتل الأطفال بطائراتها وصواريخها، وسط صمت الدول الكبرى والأمم المتحدة، الَّتي باتت شريكةً فعليةً في جرائمها.
ومع بدء سريان الهدنة، ينبغي على قوى المقاومة أن تبقى على أهِبِّة الإستعداد لمواجهة مكر العدو ونقضه للعهود، وأن لا تتراجع عن أهدافها وأهمها فك الحصار عن غزة، حتى لا يكسب العدو في السياسة ما خسره في الميدان من هيبة جيشه العاجز عن إسقاط المقاومين، ومن تآكل قدراته الردعيَّة، رغم كلّ بطشه وإجرامه.
وفي الوقت الَّذي ينشغل العالم بجرائم الصهاينة في غزة، تحركت الجماعات التكفيرية المتخلفة في لبنان، لتهاجم مواقع الجيش اللبناني في عرسال فيسقط له الشهداء والجرحى، في محاولةٍ إجرامية تُثبت عمالة هذه الجماعات وإرتباطها بالعدو الصهيوني، وسعيها لضرب لبنان بشعبه ومقاومته وجيشه.
وقد أثبتت الأحداث الأخيرة، أنَّ الجماعات التكفيرية تشكٍّل خطراً داهماً على لبنان كلِّه، بجميع طوائفه ومكوناته، فلا يقتصر خطرها على طرفٍ دون طرف، وأنَّ كل الأصوات الَّتي تتعالى في الداخل لتشكل غطاءً لهذه الجماعات، إنما تفضح مُطلقيها وتكشف خيانتهم لشعبهم وبلدهم وأمتهم، لأنَّ من يدافع عن هذه الجماعات بشكل مباشر أو غير مباشر، من النواب والقوى السياسيَّة، إنَّما يعبِّر عن قمَّة الخيانة والسُّقوط الأخلاقي والإنساني، من خلال دعم هؤلاء الَّذين يعيثون في الارض فساداص، ويستهينون بكلِّ القيم والأخلاق والتعاليم الدينية، ويمثَّلون غاية الوحشيَّة والتخلُّف والإجرام.
إنّ علينا أن نقف صفاً واحداً في مواجهة الأخطار الَّتي تتهدد بلدنا وأمَّتنا، سواءً من جانب الصهاينة أو التكفيريين، حتى نستطيع إن شاء الله تجاوز هذه المرحلة الصعبة وإحباط مخططات الأعداء والمستكبرين .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ } {التوبة:105} والحمدُ للهِ ربِّ العالمين