حصّتي منه أسرار صغيرة بقلم : مهى زراقط.
صورة السيّد وفتاواه ستبقى في الذاكرة (هيثم الموسوي)كانت جدّتي تحكي دائماً بصوت منخفض، لكنّ صوتها كان يقترب من الهمس عندما كانت تودّعنا ونحن عائدون من القرية المحتلة في الجنوب إلى بيروت. تقترب من أمّي، تعانقها وتقول: «نيّالكون يا إمّي جيرة هالمؤمن». نصعد إلى سيارة الأجرة، وأسأل أمي عن قصد جدتي من هذه العبارة، فتغيّر الموضوع، وتروح تحدّث السائق عن أمور أخرى. لا تجيب إلّا عندما نصل إلى البيت، وبلهجة مؤنّبة: كم مرة قلت لكِ أن تنتبهي إلى كلامك ونحن في القرية؟ أستغرب اللهجة، فأنا لم أُفشِ السرّ الذي نبّهتني أمي إلى ضرورة كتمانه. لم أقل لأحد إننا نسكن في بئر العبد، قرب الجامع الشهير، وإنّ في بنايتنا مركزاً للمقاومة. كان هذا سرّنا صغاراً، وكان الحفاظ عليه يمنحنا شعوراً بالفخر، فنحن أيضاً نشارك في المقاومة لأننا لا ندلّ إلى أماكن وجودها، وخصوصاً أنّ ذلك المكتب كان يومها سريّاً بالفعل. أقول لأمي: وماذا قلت، لقد سألتكِ ماذا قصدت جدتي؟ تجيب: جدّتكِ قصدت السيد محمد حسين فضل الله. يومها أضفت اسم السيّد إلى لائحة الأسرار الصغيرة التي أحتفظ بها، من دون أن أعرف أنه سيكون السرّ الأكبر في حياتي. أحكي عنه بحبّ، علناً أمام الجميع، وأحتفظ لنفسي بحصتي منه. علاقتي التي وطّدتها به دائماً أسرار صغيرة، تصلني همساً. بدءاً من همسات جدتي، التي لم يكن يخفّف من شعورها بالغربة عن غرفتها الصغيرة في القرية، حين تزور بيروت مرغمةً لعيادة الطبيب، إلّا زيارة لوالدة «السيّد المؤمن»، قريبتها، واحتمال أن تراه هناك. مرةً عادت ضاحكة وراحت تحكي كلّ الليل كيف دخل السيّد على أمّه وقبّل يديها، وكيف عرفها، وتذكّر جدّي فحدّثها عنه منادياً إياها: «يا بنت خالتي». قالت لي بفخر: «ما السيّد بيقربنا يا ستي». بدوري، صرت أقول لأصدقائي: «ما السيّد بيقرب ستّي». قلتها أول مرة لزميلة في المدرسة، خضت معها مغامرتي الأولى بالخروج ليلاً من البيت، على الرغم من ممنوعات أمّي الكثيرة. «إلى الجامع يا خالتو، بدنا نسمع الدعاء»، قالت زميلتي لأمّي، وركضنا كي لا نتيح لها فرصة تغيير رأيها. ممرّ صغير بين بنايتين أوصلنا إلى الجامع الملاصق، صعدنا إلى الطبقة الثانية، وأدّينا الصلاة. كنت أردّد العبارات التي يقولها فضل الله بصوته، وأبحث عنه في المكان. أطلّ برأسي من فوق فأراه محاطاً بالشبّان الذين أعرف أنهم في المقاومة. كانوا يصلّون خلفه، يستمعون إلى عظته ويجالسونه ليطرحوا عليه أسئلتهم. هل سأفعل ذلك يوماً؟ هل سيكون بوسعي أن ألتقيه وأطرح عليه أسئلتي؟ ماذا سأسأله؟ ذلك المساء كتبت أسئلة كثيرة على دفتري. قلت لنفسي، عندما ألتقيه يوماً سأساله إياها كلّها. وبقيت أحلم بيوم ألتقيه فيه، حتى بعدما انتقل إلى الجامع الكبير في حارة حريك، وبعدما بتّ أسمع من البعض عبارات مسيئة بحقه، تستنكر فتوى يسمّونها «جريئة» أصدرها من هنا، أو رأياً أدلى به من هناك. همست لي صديقتي في الثانوية: «يمكننا أن نلتقيه بعد صلاة الجمعة في جامع الحسنين، وتستطيعين طرح أسئلتكِ عليه». قلت لها: «نعم، سأفعل»، لكنّي لم أملك يوماً جرأتها، هي التي كانت تعاني خللاً عاطفياً في عائلتها، وكتبت له تشكو من قصة حب فاشلة، فأعطاها موعداً لمقابلته. سردت لي بالتفصيل كيف دخلت، هي الشابة المراهقة إلى مكتبه، وكيف طلب من مرافقه الخروج لكي لا يربكها، وبادر هو إلى الحديث. قال لها: «لم أحبّ أن أكتب لكِ، ولا أن أحلّ الأمر عبر الهاتف. أنتِ شابة والمستقبل أمامكِ، الإنسان يتعلّم من الأمور التي يصادفها في حياته حتى لو أخطأ، والأهمّ ألّا تستصعبي الأمر». يومها قالت لي إنها شعرت بالسيّد يحدّثها كوالد «هكذا كنت أراه، والداً، وهو لم يخذلني وعاملني كابنته». على الرغم من هذا الموقف الذي عاشته صديقتي، لم أتشجّع على طلب موعد منه. بقيت الرهبة موجودة، فقد كانت لي أسئلتي الخاصة جداً، التي اعتقدت أنني لن أجرؤ على طرحها عليه. لكنّ الفكرة بقيت تلحّ عليّ. ذات يوم اخترت عدداً من أسئلتي، كتبتها على ورقة وسرت باتجاه منزل السيّد. يومها شعرت بأنّني في صدد القيام بحدث استثنائي في حياتي. حدث لن أنساه. أطرق باب السيّد، أقابل رجل دين في مكتبه، وأضع أسئلتي في حوزته. يطمئنني الشيخ الذي استقبلني أنّ الأسئلة وصلت، فأتشجع وأقول: أريد أن يجيب السيّد شخصياً عليها. يقول لي: نعم. طبعاً. أعود بعد يومين لأحصل على الإجابات، وأحزن لأني أجدها مطبوعة، وليس بخط يد السيّد. يقول لي الشيخ: أنتِ صاحبة الأسئلة الثورية؟ تفضّلي، هذه الإجابات. أعود أدراجي وأنا أسأل نفسي كلّ الطريق: من الذي وصف أسئلتي بالثورية، هو أم السيّد؟ وأحزن لأن الإجابات لم تلبِّ ثورتي. لم أقتنع، وبقيت أشعر برغبة في العودة مجدّداً للقائه. كثيرون ممن نلتقيهم يومياً يحتفظون بأسرار لقاءات جمعتهم بالسيّد مع الوقت كانت أسئلتي قد بدأت تقلّ. كنت قد بدأت أتدجّن وصرت أعتقد أنّني عندما سألتقي السيّد سأكون قد فقدت القدرة على طرح السؤال. لا أكاد أقتنع بهذا الأمر، حتى يهمس صديقي في العمل بأنه أخيراً اتخذ قرار الزواج. هو شابّ متديّن، من دون تزمّت مثل كثيرين من مقلّدي مرجعية فضل الله. يقول لي إنّ السيّد هو من شجّعه على اتخاذ القرار بعد مرحلة التردّد التي عاشها. هو أحبّ فتاة أقامت علاقات جنسية مع آخرين من دون زواج، كان مقتنعاً بقراره لكنه أراد تشجيعاً من شخص يثق به فلجأ إلى السيّد. «قال لي تزوّجها، ليس لأنك تحبّها فحسب، بل لأنها بدأت حياتها معك بالصدق، وكان يمكنها أن تكذب. عليك أن تحترم هذه الخطوة، واعلم أنك بموقفك هذا قد تكون تحميها من الاستمرار في طريق هي لم تعد تريده لنفسها». إجابة وجدها الشاب صادمة، على الرغم من أنه كان واثقاً بأنه سيخرج راضياً من مقابلته. ما صدمه قول السيّد له: «آن لنا أن نخرج من الموروثات، وهذا التعريف للرجولة المرتبط بنقاط الدم التي يراها الرجل ليلة زفافه. وكأنّ كبرياء الرجل الشرقي لا تتحقّق إلا بهذا الانتصار. هذه أمور نفسية علينا تخطّيها». كان يكفي أن يكشف الصديق هذا السرّ، حتى يتشجّع شاب آخر ويحكي لنا، همساً أيضاً، سبب طلاقه من الفتاة التي أحبّها ست سنوات، وأنجب منها طفلة. يومها عارضه الكثيرون لأنّ زوجته كانت ممتازة بشهادة الجميع، وشهادته أيضاً. إيمانه جعله يلجأ إلى السيّد لأنه لا يريد أن يظلم امرأة لم تؤذه، «أخبرت السيّد بتفاصيل خاصة عن مشكلتي معها، فوجدته ينصحني بعدما ناقشني طويلاً، بأبغض الحلال. «طلّقها، أفضل لها ولك»، قال لي. على الرغم من ذلك خانتني الشجاعة، ولم أقابل السيّد إلا بصفتي الصحافية. طرحت عليه عدداً محدوداً من الأسئلة بسبب ضيق الوقت. وعندما خرجت من مكتبه غير مكتفية، طلبت المزيد من الوقت. سُئل إن كان مستعداً لمقابلتي مجدداً، فطلب مني أن أنتظر خروج زوّار من عنده، واستقبلني بوجه باسم وسؤال: «ما الذي لم يقنعكِ؟ اسألي». سألت وأنا أفكر في كلّ من حمّلوني أسئلة وأحاول أن أخرج وفي حوزتي إجابات لهم جميعاً. وقلت لنفسي، مقابلتي هذه ستكون مدخلاً لمقابلتي الخاصة التي سأطلبها منه قريباً… ولم أفعل. وبقيت علاقتي به همسات يردّدها الأصدقاء عن اتصالات وأسئلة خاصة وجدوا في إجابات السيّد عليها حلولاً لمشاكلهم. هي أسرار صغيرة يحتفظ كلّ منّا بواحد منها ولا يفصح عنها إلا في لحظات المكاشفة. كثيرون ممن نلتقيهم يومياً اتصلوا بمكتبه طلباً لاستشارة أو لإنصاف. كثيرون طرقوا بابه المفتوح للجميع من دون موعد بين يومي الاثنين والخميس. كثيرون لم يجدوا غيره عاقداً لقرانهم. أما هو، فوحده من أبقى حزنه سراً. مرة واحدة ونادرة، فتح قلبه للناس، كان حزيناً وعبّر عن حزنه في محاضرة خاصة خرج كثيرون منها حاملين همّ السيّد، الذي كبر قبل أوانه، ورحل قبل موعدي معه. قبل أن أطرح عليه سؤالي الذي يبدو أنه سيبقى سراً بالفعل.
شاهد أيضاً
في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)
قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …