العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
١٣/٤/٢٠١٦ / 6 رجب 1437هـ
في التّخطيط الإسلاميّ للأخلاق الاجتماعيّة في علاقة الإنسان بالإنسان الآخر، وفي الوسائل الّتي يتوسّل بها الإنسان لبلوغ أهدافه، هناك عنوان كبير من العناوين الّتي تحدّث الله عنها في القرآن الكريم، وهذا العنوان ينفتح على خطّين: خطّ يتّصل بالأهداف الخيّرة للإنسان، وآخر يتّصل بالأهداف الشّريرة له.. وقد يستخدم هذا العنوان الّذي هو (المكر) في تصرّف الله مع خلقه. وكلمة المكر تكرّرت في أكثر من آية في القرآن في حركة النّاس وفيما يتصرّف الله به في خلقه، ولا بدّ لنا قبل الدّخول في الحديث عن الآيات الكريمة في هذا المجال، من أن نتعرّف إلى معنى المكر.
تعريف المكر
يقول (الراغب الأصفهاني) في (مفردات غريب القرآن): “المكر: صرف الغير عمّا يقصده بحيلة”، أي هو أن تتحرَّك في حياة إنسان يريد أن يحصل على شيء، فتصرفه عن ذلك بطريقة خفيّة، “وذلك ضربان: مكر محمود، وذلك أن يتحرّى بذلك فعلَ جميل”، يعني أن تخطّط وأن تدبّر في الخفاء بطريقة الحيلة، لتحقّق أمراً جيّداً طيّباً، وفي ذلك قال الله تعالى: {وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[1]، ومذموم، وهو أن يُتحرَّى به فعل قبيح، قال: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}[2]، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ}[3]، {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ}[4]، وقال في الأمرين: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً}[5]، وقال بعضهم، من مكر الله إهمال العبد وتمكينه من أغراض الدنيا، ولذلك قال أمير المؤمنين(ع): “من وسّع عليه دنياه ولم يعلم أنّه مكر به، فهو مخدوع عن عقله”[6].
إذاً، نستطيع أن نأخذ من هذا النصّ اللّغويّ أنَّ المكر يمثِّل التَّخطيط الخفيّ الّذي يتحرَّك به الإنسان لبلوغ غاياته الَّتي قد تكون غايات خيّرة وقد تكون غايات شرّيرة، فنحن عندما نخطِّط من أجل هداية إنسانٍ يتحرَّك في خطّ الضّلال بتهيئة الوسائل الَّتي يمكن أن تفتح عقله على الهدى من دون أن يشعر بذلك، أو أن نخطِّط في ساحة الصّراع من أجل أن نبلغ الأهداف الكبرى الّتي تحقّق لنا الانتصار على الّذين يواجهوننا بالتّحديات، سواء كانت تلك التّحدّيات فكريّة، أو سياسيّة، أو اجتماعيّة، أو أمنيّة، فذلك هو من التدبير أو التّخطيط الخفيّ.
المكر المحمود
وعندما يتحرَّك الإنسان في ساحة الحرب، يمكن أن يخطِّط للانتصار على العدوّ في المعركة ببعض الحيل العسكريّة، وببعض الوسائل الأمنيَّة التي يمكن له أن يحتوي بها العدوّ، فهذا مكر محمود، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أراد لنا أن نبلغ أهدافنا بالوسائل الّتي نملكها، سواء كانت تلك الوسائل ظاهرةً بارزةً، أو كانت وسائل خفيّة، بحيث لا يشعر بها الطّرف الآخر.. والوسائل الّتي يتوسّل بها الإنسان إلى أهدافه، قد تكون في بعض الحالات وسائل محرّمة في ذاتها، ولكنّ الحرام ينقلب إلى حلال أو إلى واجب عندما تشتمل الغاية على مصلحةٍ أهمّ من هذه المفسدة.
فمن الأمور التي يقرِّرها الفقهاء، هي أنّ الإنسان إذا أراد أن يصلح بين شخصين أو عائلتين أو جماعتين، ويتوقّف الإصلاح على أن تكذب، بأن تأتي إلى هذا الفريق وتقول له إنّ فلاناً قد ذكرك بخير، وتأتي إلى الآخر فتحدّثه بمثل ذلك، بما يقرِّب موقفيهما ويليّن قلبيهما، فهذا في الواقع كذب، لأنَّك تحدّثت عنهما بما لم يقولاه، ولكنَّه كذب تُثاب عليه.
حتى إنَّ الحديث عن أئمَّة أهل البيت(ع): “الكلام ثلاثة: صدق، وكذب، وإصلاح بين النّاس”[7]، بحيث أخرج الإصلاح بين النّاس عن حركة الصّدق والكذب.. وهكذا إذا واجهت مشكلة إخبار الظّالم أو العدوّ عن أسرار بلدك أو أمّتك، أو أن تحدّثه عن مكان شخص بريء ليعتقله أو ليقتله، ففي مثل هذه الحالة، يقال لك يجب عليك أن تكذب، فالصّدق حرام، لأنّك لو صدقت لفضحت أسرار أمَّتك السياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة لدى العدوّ، مما يمكن له أن يسقط الأمّة تحت تأثير خططه التي يبنيها على أساس المعلومات الّتي تعطيه إيَّاها.
وهكذا يجب عليك أن تكذب إذا طلب إليك أن تدلَّ على مكان أخيك: “احلف بالله كاذباً ونجِّ أخاك من القتل”[8]. فالصِّدق هنا حرام والكذب واجب، وفي الفقه الإسلاميّ، إنّ الكفَّار إذا تترّسوا بأسرى المسلمين، بحيث وضعوا أسراهم في مقدّمة الجبهة، وتوقَّف انتصار المسلمين في المعركة على أن يقتل المسلمون أسرى المسلمين، فإنّه يجوز لهم أن يقتلوهم في هذه الحالة.. ولذلك قلنا إنّ الغاية الكبيرة تبرِّر الواسطة، فالمعروف أنَّ الغاية لا تبرّر الواسطة في الغايات الشّخصيّة، أمّا الغايات الكبرى التي تمثّل غايات الأمّة أو غايات الخير، فإنَّ الغاية هنا تنظّف الواسطة، بحيث تجمِّد الحرام فيها وتحيلها إلى حلال، بل قد تجعلها واجبةً أحياناً.
لذلك نقول، إذا أردنا أن نصل إلى القضايا الكبرى، ووقفت عندنا في الطّريق ونحن نخطِّط، بعض المفردات الّتي قد تكون محرّمةً، فعلينا أن نوازن بين حجم المفسدة الموجودة في هذا المحرّم، وحجم المصلحة الموجودة في الهدف والغاية، فإذا كانت أقوى من حجم المفسدة الموجودة في الحرام، تجمَّد الحرام وأصبح حلالاً لمصلحة الغاية الكبرى.
إذاً، فالمكر الّذي يعبّر عن التَّخطيط من أجل الوصول إلى الأهداف الكبرى، ومن أجل إسقاط الأعداء والتحدّيات والأوضاع القلقة الّتي لا يريدها الله، محمود، بل لا بدَّ للمسلمين على المستوى القيادي والشعبيّ من أن لا يكونوا ساذجين يرتبطون بالأشياء بشكلٍ مباشر، بل لا بدَّ من أن يكونوا مكَّارين يتقنون الحيلة، ويتقنون الخطّة، ويتقنون الحركة الخفيَّة من أجل تحقيق الأهداف الكبرى، وهذا نوع من أنواع المكر.
المكر المذموم
وهنا نوع آخر من أنواع المكر، وهو الّذي يغلب إطلاق المكر عليه، وهو ما يسمّى بالخديعة، وهذا المكر يستهدف الغايات السيِّئة، فأنت تمكر لتسقط أخاك، وتمكر لتشوِّه صورته، وتمكر ليتضرَّر الآخر في موقعٍ هنا أو في موقعٍ آخر هناك، وهذا هو المكر الّذي تستخدمه أجهزة المخابرات الاستكباريّة وملحقاتها في الواقع الّذي يعيشه المسلمون، وهي الخطط الخفيّة التي تستعمل من أجل إثارة الخلافات في المجتمع الواحد، لأنّ أجهزة المخابرات، ولا سيّما المخابرات الاستكبارية، تدرس في مواقعها الثقافيّة ما هي الفوارق بين الأديان، وما هي نقطة الضّعف هنا ونقطة الضّعف هناك، وما هي الفوارق بين المذاهب، وما هي الفوارق في داخل الأعراق المختلفة، وبين الألوان، وما عناصر الإثارة في ذلك.
ولهذا، فإنها تحاول، ولا سيّما في المجتمع الذي تختلف أديانه، أن تلتقط بعض السلبيّات في دائرة هذا الدّين، والسلبيّات في دائرة الدّين الآخر، من أجل أن تثيرها وتحرّكها، فينطلق الإنسان هنا بطيبة خاطر ليدافع عن دينه، وينطلق ذاك أيضاً بإخلاص، ولكنّ المسألة هي أنّ هذا المكر الاستكباري المخابراتي يحاول أن يثير بعض نقاط الضّعف هنا ونقاط الضّعف هناك، لتنطلق الفتنة.
وهكذا نجد المسألة في إطار اختلاف المذاهب، ونحن لا نزال نعيش عقدة المذهبيَّة بالطّريقة الحادَّة، فإنّنا نجد أنَّ هناك عملاً محموماً ينصبّ على العالم الإسلامي الّذي يسيطر الاستكبار العالمي على مقدّراته الاقتصاديّة والسّياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، حيث نجد أنَّ النّاس عندنا مشغولون بالحساسيّات المذهبيّة بين السنّة والشّيعة، بحيث ينسون ما يدبّر لهم وما يخطّط لهم من إسقاط واقعهم كأمّة وقضاياهم الحيوية وثرواتهم الاقتصادية وواقعهم الأمني.
ولذلك، استطاع الاستكبار العالمي من جهة، والتخلف الذي نعيشه من جهة أخرى، أن يشغل الناس بذلك، ولو أنهم اشتغلوا بالجوانب المذهبيّة بطريقة علميّة موضوعيّة عقلانيّة، لكان الحوار منتجاً، لأنَّ العقل عندما يحاور العقل، فلن تكون هناك مشكلة حساسيّات، ولكنّها الغريزة تخاطب الغريزة، والحقد يخاطب الحقد، فهو حوار بين حقدٍ وحقد، وحوار بين حالة غرائزيّة وأخرى غرائزيّة. ولذلك لم يستطع المسلمون بفعل التخلّف والجهل والطّريقة غير المسؤولة، لم يستطيعوا في مدى الأربعة عشر قرناً، أن يصلوا إلى نقطة لقاء، لأنَّ القضيّة ليست قضيَّة حوار للبحث عن الحقيقة، ولكنَّه حوار يستهدف تسجيل النّقاط، ومن الطبيعيّ أنّ من يريد أن يسجِّل النقاط على الآخر، لا يرتاح إذا انكشفت الحقيقة وكانت في غير حسابه.
وهكذا، نجد أيضاً كيف تتحرّك هذه المخابرات لتمكر ولتخطّط في داخل المذهب الواحد، بحيث إنها تتَّجه إلى بعض الخلافات الّتي تثير الحساسيّات، كي توظّفها من أجل أن يتحرّك النّاس بطريقة سطحيّة لمواجهة المسألة، وأن ينشغلوا بذلك عن القضايا الحيويّة الأساسيّة.
التخلّف المثقَّف
ولو أنَّنا درسنا ـ أيُّها الأحبَّة ـ الوعي السياسي الإسلامي الّذي لا بدَّ لنا من أن نعيشه، ودرسنا ما يشغلنا وما يثيرنا وما يتحرَّك به الواقع، وقارنّا بين ما يشغلنا من بعض المفردات الصَّغيرة الّتي لا يرتكز فيها الأمر على قاعدةٍ من علمٍ أو وعيٍ أو إيمان، بل من خلال عصبيَّات وغرائزيَّات، لرأينا أنَّنا نسقط القضايا الكبيرة تحت تأثير القضايا الصَّغيرة، ليخطِّط الاستكبار وعملاؤه بكلِّ هدوء، لأنّنا مشغولون بجنس الملائكة، واقتحم الفاتح أسوار المدينة وسقط الجميع وهم يتناقشون، ألا يشبه حالنا هذه الحالة في القضايا السياسيَّة؟!
هناك أكثر من جهة في أكثر من بلدٍ تقع ضحيّة لذلك، وهناك مشاكل حقيقيّة يعيشها النّاس في هذا البلد أو ذاك البلد في الحكم، وفي الخطِّ السياسيّ، وفي قضيّة الظّلم والعدل وما إلى ذلك، والظّالم يجلس متربّعاً على سرير الظّلم، والقوم يتناقشون من الّذي يتقدَّم أوّلاً، ومن الذي يجب أن تكون له السّلطة العليا، ويسقط الجميع، ويبقى الظّالم يخطّط لإبقاء هذا الخلاف، ويخطِّط من أجل أن لا يقف النّاس عند مواقع اللّقاء، بل يتحركون في مواقع الخلاف.
مشكلتنا ـ أيُّها الأحبَّة ـ أنَّنا كنَّا نعيش نوعاً من (التخلّف الجاهل)، ولكنَّنا نعيش الآن نوعاً من (التخلّف المثقَّف) و(التخلّف المتديِّن)، والتخلّف الّذي يعتبر نفسه واعياً، إذا صحَّ التَّعبير، فقيمة أن تكون مثقَّفاً، هي أن تعرف الأسس الّتي يمكن أن ترتكز عليها في مواجهتك للقضايا التي تتحدَّى أساسيَّاتك ووجودك، ولذلك ربح الاستكبار العالمي معركة المكر السيِّئ الَّذي تحرّك فيه، لا من جهة أنّ مكره لا يقاوَم، ولكنّنا استرحنا لمكره، لأنّنا كنّا غافلين عن القضايا التي يتحرّك فيها، وهذا هو الّذي ينطلق في واقعنا الّذي نعيشه، وفي هذا الفكر الّذي نحمله، وفي الطّاقات التي عندنا، ليمكر أحدنا بالآخر ليدمِّره، وليمكر أحدنا في الواقع الّذي لا يتناسب مع مصلحته ليسقطه.. وبذلك كنّا ندمّر أنفسنا بأنفسنا، فبدلاً من أن تكون الحيلة موجَّهة إلى الأعداء، أصبحت موجّهة إلى أنفسنا، وهذا ما نلاحظه هنا وهناك.
نحن الآن نمدح (الشّاطر) فينا، فنقول (فلان شاطر)، أي يستطيع أن يأخذ النّاس إلى النهر ويرجعهم عطاشى، وفلان شاطر لأنّه يستطيع أن يلعب على أكثر من حبل، وفلان شاطر لأنّه يعرف كيف يصوغ الكذب وكيف يصوِّره كما لو كان صدقاً، وهذا ما انطلق فيه الواقع السياسي، بحيث إذا أردت أن تكون سياسيّاً، فعليك أن تتقن الحيلة فيما تصوغه من الأكاذيب، أليس هذا هو الواقع؟! (الشطّار) ـ بهذا المعنى ـ هم الّذين يتحركون في مجالات السّاحة بكلّ أسف، فهناك (الشطّار) في المواقع الدينيّة الّذين يبتعدون عن أصول الدّين وعن أخلاقيّاته، و(الشطّار) في المواقع السياسيَّة، و(الشطّار) في المواقع الاجتماعيّة والاقتصاديّة.
خير الماكرين
تعالوا ـ أيّها الأحبّة ـ لنقرأ كلمات الله تعالى وكلمات رسوله(ص) وأوليائه(ع)، يقول الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[9]، فهذا هو المكر الّذي انطلق من قريش عندما كانت تخطِّط لإخضاع النّبيّ(ص) وإبعاده عن السَّاحة، إمّا بإخراجه من مكّة، أو بحبسه في داخل حبسٍ يموت فيه، أو بقتله مباشرةً، فانتصرت خطّة القتل بالطّريقة الخفيّة، ولكنّ الله كشف الخطّة لنبيِّه، وأمره أن يهاجر، وهكذا مكر القوم ليبعدوا النّبيّ(ص) عن السَّاحة، ومكر الله بأن دبَّر الخطّة من حيث لا يعرفون ولا يحتسبون.
وانطلق النبيّ(ص) من مكّة إلى المدينة ليرجع إلى مكَّة فاتحاً، وليسقط هؤلاء كلّهم والشّرك كلّه من خلال الخطّة التي رسمها الله سبحانه وتعالى منذ البداية حتى النّهاية، {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}[10]، {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ}[11]، بحيث يتحركون في التّخطيط للسيِّئات التي تنال الأفراد والمجتمع والواقع كلّه، {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ}[12]، في نهاية المطاف: {اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}[13].
وإذاً، لا بدَّ من أن يعرف هؤلاء (الشطّار) الذين يعرفون كيف يكذبون ويحتالون ليظهر الحقّ في صورة الباطل، أو يظهر الباطل بصورة الحقّ، أنَّ عليهم أن لا يكونوا آمنين، لأنَّ الله عندما يطَّلع على سوء نيَّاتهم، فسيمكر بهم وسيحيق المكر السيّئ بأهله: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}[14].
لذلك، على المكَّار، سواء كان مكّاراً في الساحة الفردية، أو في الساحة الاجتماعية، أو الدينية، أو السياسية، أن يعرف {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}[15].
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[16]، لذلك، على الإنسان الّذي يؤمن بالله، أن لا يأمن مكر الله، وعلينا إذا كنّا مسلمين مؤمنين، والسّاحة تتحرّك في تحدّيات الكفر كأقصى ما تكون التحدّيات، وفي تحدّيات الاستكبار كأكثر ما تكون التحدّيات، علينا إذا كانت لنا عبقريّة الحيلة وذهنيّة المكر، أن نوجّه مكرنا لإسقاط الكفر من جهة، ولإسقاط الاستكبار من جهة أخرى.
سلوك غير إسلاميّ
يقول النبيّ(ص): “ليس منّا من ماكر مسلماً”[17]، أي أنّه ينفي الإنسان الّذي يمارس المكر والشطارة بالطّريقة التي تسيء إلى المسلمين، ويخرجه من المجتمع الإسلاميّ.
وهكذا يقول الإمام عليّ(ع): “لولا أنّي سمعت رسول الله(ص) يقول: إنّ المكر والخديعة والخيانة في النّار، لكنتُ أمكر العرب”[18]. ويقول: “لولا التُّقى لكنت أدهى العرب”[19]، فالنَّبيّ(ص) يقول: “من كان مسلماً فلا يمكر ولا يخدع، فإنّي سمعت جبرئيل يقول: إنّ المكر والخديعة في النّار”[20]، لأن الإسلام يريد للمسلم أن يكون قلبه سليماً من كلّ حقدٍ وبغضاء وعداوة وزيف وشرّ، ألم نقرأ قول الله: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[21]؟ وطبعاً، ليس سليماً من الذّبحة الصّدريّة، بل من (الذبحة الإيمانية)، فبعض الناس يتداوون من الذبحة الصّدريّة، ويدخلون المستشفيات، ولكنّهم قد يكونون مبتلين بالذّبحة الإيمانيّة، حيث تتحرَّك المكروبات الأخلاقيَّة كلّها من أجل أن تسدّ مجرى الدّم الإيمانيّ في العروق الروحيّة للإنسان.
لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ علينا أن نفتح قلوبنا للمؤمنين، وأن نجعلها تتحرَّك بالنَّصيحة لهم بدلاً من أن تتحرّك في الغشّ، وقد ورد في الحديث: “عليك بالنّصح لله في خلقه، فلن تلقاه بعملٍ أفضل منه”[22]، وقد قال الرّسول(ص): “الدّين نصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال:لله ولرسوله ولكتابه وللأئمّة في الدّين ولجماعة المسلمين”[23]، وفي روايةٍ: “ولأئمّة المؤمنين”.
هذا هو الّذي يجمع المجتمع، وهذا هو الَّذي يوحِّده، وهذا هو الّذي يعطيه القوَّة، فلا بدَّ من أن نتناصح، بحيث إذا أخطأ أحدنا، فلا نرميه بخطئه بطريقة تشهيريّة، بل أن نحاوره وأن نعظه، “من وعظ أخاه سرّاً فقد زانه، ومن وعظه علانيةً فقد شانه”[24]، أليست هذه هي أخلاق الإسلام؟!
رساليّة عليّ(ع)
هل هناك إنسان يملك العقل والعلم بعد رسول الله(ص) في مستوى علم عليّ(ع) وعقل عليّ(ع)؟ إنّ بعض النّاس يقولون إنّ مشكلة عليّ(ع) أنّه رجل محارب، وقصَّة معاوية هي أنّه صاحب رأي ودهاء، ولذلك انتصر دهاء معاوية على شجاعة علي(ع).
إنَّ بعض الناس يتحدَّثون بهذه الأحاديث، ولكنَّ مشكلتهم كمشكلة الكثيرين الّذين ينظرون إلى الواقع مجرّداً عن الرسالة، ويصادرون الرّسالة في عالم التَّقييم، وقصّة عليّ(ع) ومأساته، بل وعظمته، أنّه كان صاحب رسالة، ولم تكن خلافته التي نصّبه فيها رسول الله(ص) إمارةً للمسلمين فقط، ولم يكن مجرّد خليفة يدبّر أمور المسلمين، بل ينطلق من أجل أن يكمل حركة رسول الله(ص) في الدّعوة، ومن أجل تعميقها في النّاس، إضافةً إلى الجانب الإداريّ.
ونحن هنا لا نخرج الآخرين عن الإسلام، ولكنّنا نقول إنّ عليّاً هو الإنسان الّذي لم يكن في تاريخه كلّه شيء غير الإسلام، فمنذ أن فتح عينه على الحياة، كان مسلماً في روحه قبل أن يبعث النبيّ بالإسلام، لأنّ النبي(ص) كان يغذّيه بهذا الإسلام الّذي أفاضه الله على روحه قبل أن ينزله في وحيه وعاش مع رسول الله بكلّ ذلك.
لذلك، كان علي(ع) يرى أنّ مسؤوليّته كخليفة عن رسول الله(ص)، أن يمارس دوره في الخلافة على الأرض قبل أن يمارس دوره في الخلافة على الكرسيّ، ولذلك لك أن تسأل: لماذا بقي عليّ(ع) مع الخلفاء الّذين تقدّموه، يعطيهم نفسه كلّها ورأيه ومشورته كلّها؟ ما ذاك إلا لأنَّ المسألة لم تكن تخصّهم بالذّات، بل كانت تنعكس على الواقع الإسلاميّ كلّه، وكان عليّ(ع) يشعر بأنَّ دوره هو امتدادٌ لدور رسول الله(ص) من دون نبوَّة: “أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي!؟”[25].
ولذلك، كان عليّ يمارس خلافته على الأرض قبل أن يتسلّم الخلافة، وكان يعطي فكره كلّه وعلمه كلّه من أجل الإسلام، وقالها هو في إحدى خطبه: “حتى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد(ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم، الّتي إنّما هي متاع أيّامٍ قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السّراب، أو كما يتقشّع السّحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنَّ الدّين وتنهنه”[26]، ومما قاله أيضاً: “لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصّةً”[27].
لذلك، كان عليّ(ع) رساليّاً في خلافته، يعيش امتداد الرّسالة في دوره قبل أن يتسلَّم الخلافة، وعندما تسلّمها، أراد أن يثبت واقعيّة الرسالة، وإن واجهت الكثير من المشاكل كما واجهتها في حياة النبيّ(ص)، بينما كان معاوية يتحرّك من أجل الملك، ولذلك قال(ع): “والله ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى النّاس”[28].
التّوازن بين الخوف والأمل
وقد تحدَّث عليّ(ع) عن تجربته وكأنّه يحدِّثنا عن زماننا، ومشكلتنا كما أكَّدت مراراً، هي أنّ بعضنا يدَّعي أنّه من شيعة عليّ(ع) من دون فكر عليّ(ع)، يقول(ع): “ولقد أصبحنا في زمانٍ قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كيساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة (الشّطارة)، ما لهم قاتلهم الله، قد يرى الحوَّل القلَّب ـ الّذي يحوّل الأمور ويقلبها ويدرسها ويتعمَّق فيها ـوجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه ـ فهو يتحرَّك من أجل أن يصل إلى الحيلة، وإذا في الطّريق حاجز يمنعه ويقول له: قف ـ فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين”[29]، أي لا تقوى له.
هذا هو الخطّ الإسلاميّ ـ أيّها الأحبّة ـ وبعد ذلك، علينا أن نعرف أنَّ الله قد يمدّ لكلّ الماكرين، ولكنّه في نهاية المطاف ربما يبتليهم في الدّنيا والآخرة.
يقول الإمام علي(ع): “لا تأمننّ على خير هذه الأمّة عذاب الله، لقوله تعالى: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}[30]، ولا تيأسنَّ لشرّ هذه الأمّة من روح الله لقوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[31].
وهكذا يقف الإنسان بين الخوف من مكر الله والأمل برحمته، ويقول الإمام الصَّادق(ع): “إذا رأيتم العبد يتفقَّد الذّنوب من النّاس ناسياً لذنبه، فاعلموا أنَّه قد مكر به”[32]، فالله يمدّ له وهو يتحرَّك في مكر الله، لأنَّه ينسى نفسه ويذكر غيره.
الإسلام أخلاقٌ كلّه
أيُّها الأحبَّة، الإسلام كلّه أخلاق: “إنَّما بُعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق”[33]؛ أخلاق الرِّسالات الّتي جاءت واحتضنها الإسلام، والأخلاق الّتي جاء بها الرَّسول(ص) متمِّماً لسابقاتها، فمن لا أخلاق له لا إسلام له، وقد يكون الإسلام شهادتين من حيث سطحه، ولكنّه في عمقه أن تكون بكلّك لله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[34]، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[35]، ولدينا في العمر بقيّة، فهل لنا أن نعمّر بنياننا الأخلاقيّ في عقولنا وقلوبنا وطاقاتنا ومع الله ومع الذّات ومع الناس ومع الحياة؟!
ذلك هو السّبيل الّذي ننجو به عند الله سبحانه وتعالى، لأنّ قصّة الجنّة هي أن تكون لك أخلاق الجنّة، فلا بدَّ من عمل دورة تدريبيّة في أخلاق الجنّة في الدّنيا حتى لا نخرّبها في الآخرة، فالله تعالى غير مستعدّ لتخريب جنّته: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}[36]، فهل يمكن أن ندخل الجنَّة ونعيش فيها إخواناً متقابلين، ونحن نعيش التّقاتل والتّنازع فيما بيننا؟! إذا فكَّرتم في الجنّة، فكّروا في الطريق إليها. يقول عليّ(ع): “أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعزَّ أوليائه عنده؟ هيهات! لا يُخدع الله عن جنَّته، ولا تنال مرضاته إلا بطاعته”[37].
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 22 ربيع الثّاني 1419هـ/ الموافق: 15-8-1998م.
[1] [آل عمران: 54].
المصدر: بينات