بلال شرارة وإبداع الكلمة

بلال شرارة 05-06-2015 01:49 AM
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2015-06-05 على الصفحة رقم 10 – السفير الثقافي

لأننا نحن شعراء محكية وليس عامية، لا نخرج الشعر من اكمامنا كما يخرج الحاوي الثعابين من ياقته، ولسنا قوالين ولا زجالين. لذلك يا صديقي (قلت في قلبي وأنا اتحدث إلى الشاعر عباس بيضون) لا أستطيع بعجالة ان ادبلج مقالة صغيرة أو كبيرة عن طلال حيدر. فأنا ليس عندي خزانة ممتلئة بالمقالات عن الابداعيين (الشعراء وغيرهم) معدة سلفا للنشر في ذكرى مرور يوم أو أسبوع على فقيدنا الغالي، أو بمناسبة تكريم أحدهم، لذلك تمنيت دون فائدة أن يعطيني الأستاذ الشاعر عباس بيضون أكثر من ساعات أربع وعشرين لإنجاز مخطوط عن طلال حيدر، وهو ربما لم يكن لديه متسع من الوقت فراوغني بلطف.
وعليه، فأنا اعتذر سلفا عن السرعة والتسرع في الكتابة أولاً من طلال حيدر وثانياً من المتشوقين إليه، حيث كتبت تحت ضغط الظل فيما أنا لا أستطيع الا ان اعطي شهادتي تحت قوس محكمة صحيفة «السفير» الغراء التي تنعقد للاستماع إلى إفادات من معارف طلال حيدر.
بداية، اقسم ان لا أقول إلا الحقيقة، أنا فلان الفلاني، المولود في المكان الفلاني قبل ثورة يوليو بسنة على الأقل في المكان الفلاني، اعترف بأني آخر من تعرف منكم على طلال حيدر، اولاً بحكم الجغرافيا (المسافة الطويلة العريضة بين بنت جبيل وبدنايل) وثانيا فارق السن حيث ان طلال لم يكن عنده وقت للمغامرة بالعودة الى اعمارنا وهو المولود في العصر الرحباني، ولا بالاقامة على حدود نصوصنا المحاصرة من الجنوب إلى ضاحية بيروت الجنوبية، كما ان هديل حمائمه البيضاء كانت ولم تزل لا تقرب الميدان ولا الجنود، وثالثا بحكم فارق التجربة وهو أستاذ وشاعر المحكية الذي يقف في الصدارة، وقد عاصر شعراء كبارا مثل عبد الرحمن الابنودي ووقف على منبر مشترك معه، ورابعا لانني اعتبر ان لي دالة عليه فأوشوش له بنصوصي، فإذا منحني علامات الامتياز عليها أقف على منبر الريح وأولول حتى يشرق السنونو مبشراً بالربيع.
أنا لست جليس ولا أنيس طلال حيدر، ولم يصدف لمرة واحدة أن بعثرنا سوياً الوقت أو الحكي، وما بيننا مصادفات سريعة أو جلسات متباعدة علمني خلالها أن الموت حليف حياة الشعراء، وأن القصائد لغة بيضاء تقيم على ظلام الورق، وأننا يجب أن لا نضيع الصوت ولا الوقت ولا طريق البيت في مدرسة طلال حيدر.
على محاور المالكية في الجليل الفلسطيني، في البقاع! أنا المحارب الأخير في سلالة من تبقى، حيث ازدحمت روح النقيب محمد زغيب (البعلبكي) في مدرسة طلال حيدر ـ أزعم أني تعلمت النشيد، وأني أجيد الشعر كما أجيد الصبر، وتعلمت أن شاعر المحكية (يفرفط الحكي) ويعود يجمعه في سبحة القصيدة أو أنه يجمعه في خيط غلته كما كان يفعل الآباء والامهات في الزمن الغابر وهم يحيكون تعب القلب من التبغ عبر تسلسل يمتد: من الحقل بـ (العاتول) إلى (الميبر) إلى (البندك) أي (من هالك إلى مالك إلى قباض الأرواح)، وتعلمت ان شاعر المحكيه لا يتعكز على الفراغ بل على أساس من الشعر عمّره جده لأبيه وعلمني طلال ان الفصحى بنت المحكية، وان المحكية هي ألسنة واسماع الناس ووسيلة ايضاحهم. وتعلمت منه ان شاعر المحكية لا يمشي على جمام ماء الحكي بل يمضي عميقاً يبحث عن الدر المكنون، حيث يقيم في الغيران العميقة كلام التورية أو (التغميس والتسميع) أو الكلام الذي تحكيه «الكنة حتى تسمعه الجاره».
طلال حيدر (ماتيماتيك الشعر المحكي) الذي يقيس الوقت بالرمح، وطلال المقيم في زمانه كلما طلعت ـ هي ـ على باله يحاول ان يعوض غيابه كما بالشكوى كذلك (بسجر البن) وهو (الرايح) إلى اللون لا زال على عهدي به لا يمشي على الزيح بل يمشي في (عتم الخياله)، طلال حيدر ترك للمقاهي في اسفل منتصف المدينة على البحر او البر لكي تقيم على فراغ كراسيها، فإذا تعبت تبدل اسماءنا وعناوينها، وسكن هو إلى (بدنايل) حيث يطرز الشعر بالصبر، فأغار منه واحاول ان يتسع لي صدر الوادي لأهرب من حصار الصمت واكتب الحب والحرب والأرض والناس وما تعلمته من طلال حيدر وعبد الرحمن الابنودي.
طلال حيدر الذي يرن صدى مرمر لغته في روحي، هو (دونجوان الكلمة) المريب كاختلاطات الزمان الذي كف عن البكاء على موت الشعارات، وترك الطين يعصف ببعضنا، وان يتلطى في المدينة من الصباح إلى المساء ومن مقهى إلى مقهى ونأى (طلال) بنفسه إلى جروده.
يبقى أننا نحن عسكر وحرامية المحكية الذين لنا مطرح او لا مطرح لنا، لا زلنا نحاول ان نعود ويضمنا همس إليه ومعنا من كل واد وردة نقدمها لطلال حيدر.

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …