جان عزيز
قرع جرس الإنذار في بكركي. لا بل انطلق ما يشبه خطّة الطوارئ التي تلي التأكّد من معلومات عن خطر وشيك، أو كارثة طبيعية. لم تعد المسألة قصّة حقيبة ولا شكل حكومة ولا بيان وزاري. فجأة بدأت تظهر قطع البازل المتفجّر كلها. كان موقف ميشال عون يخفيها. أو كان رأس جبل الجليد.
عندما أحس الجميع أن رئيس الجمهورية ونائب بيروت المكلف تشكيل الحكومة جدّيان في إصدار مراسيمها، أي عندما تكوّن انطباع ــــ مجرد انطباع ــــ بأن موقف عون لم يعد ساتراً لحسابات الآخرين، خرجت كل المكبوتات إلى العلن، واندلعت كل التشوّهات الكامنة في الطبخة الحكومية الفاسدة: الفريق الحريري حدّد أهدافه. المطلوب حقيبة الداخلية لنا، ولوزير شمالي تحديداً. تراصف جميع نواب المستقبل ومسؤولوه الحزبيون هناك ضد اسم غير حزبي، فأحرقوه. ثم اختلفوا في ما بينهم على بديل. لم يقبل أي منهم بزميل له. حاولوا رفع السقف بطرح أشرف ريفي. فأشعلوا الضوء الأحمر في الضاحية الجنوبية. تنبّهت هنا مشاريع ضحايا الإرهابيين ومرشّحي شهداء البربرية الجديدة، إلى أن المسألة أكثر من خطيرة. حتى أن حكومةً كهذه قد تتحوّل إلى فكّ كماشة يلاقي فك التكفيريين المفتوح على الدم والذبح وقطع الرؤوس. وللمناسبة، قطع الرأس تعبير معروف في السياسة، قبل أن يضطرنا ثوار الألفية الثالثة إلى إعادة اكتشاف معناه الحرفي. فكيف تقبل جماعة لبنانية كاملة بحشر وجودها بين فكين كهذين؟ فبدأت تتعطل عجلات التركيب والتشكيل والتأليف.
عند هذا الحد راحت ترتسم لدى بكركي معالم الصورة الأكبر: صحيح، إذاً، أن الدفع الذي كان قد بدأ قبل اسبوعين لإنجاز حكومة في بيروت، لم يكن داخلياً أولاً، ولم يكن ثابتاً ثانياً. كان تقاطعاً خارجياً، وكان عابراً عرضياً، كان لحظة زائلة. كان الجميع ذاهبين إلى جنيف. واشنطن تريد الصورة، وطهران موعودة بالدعوة، وجون كيري يطمئن الجميع إلى أنه قادر على إقناع ملياردير نفطي، برتبة ملك تسعيني، بالعودة إلى النوم لبضعة ايام… فجأة تغيّرت الأمور. يقال إن الجميع اكتشفوا «الضرب»، وإن المسألة مجرد تمثيلية. وقيل أيضاً إن موازنات كبيرة رُصدت وأنفقت خلال أيام أو حتى ساعات. فتبدّلت المناخات.
طارت اللحظة الخارجية إذاً. لكن الأدهى أن التردّدات السلبية لتطييرها لم تنته بعد على ما يبدو. قيل إن إيران قررت إطباق الحصار على دولة السعوديين، رداً على ضربة جنيف. فجأة تقدّم الحوثيون في اليمن مسجّلين خروقاً غير مسبوقة. فيما روسيا تحاول استمالة آخر موظفي الرياض في الثورة السورية. وفيما واشنطن تعلن بصوت عال مقهقه في المركز الإعلامي في مونترو: نحن ضد بقاء بشار الأسد، لكن نجاحنا في تجسيد هذا الموقف ليس أكيداً! وقيل، أيضاً، إن العائلة السعودية قرّرت الرد في كل الساحات المتاحة، رغم كل الصعوبات والحصارات: استنفار سعودي شامل ومتشدّد من العراق إلى سوريا فلبنان. رفع لكل السقوف، رفض لكل التنازلات السابقة ومشاريع التسويات، واستعداد لكل الاحتمالات.
عاد الصراع الإقليمي والمذهبي إلى ساحتنا إذاً. وعاد بأقسى صيغه. لم تعد القصة تشكيل حكومة أمر واقع سياسية، ولا مسألة البحث في ميثاقية تغييب أكثر من نصف المسيحيين أو كل الشيعة. صار المشروع أكثر بعداً وعمقاً. تحولت العملية إلى حجر دومينو يطلق سلسلة انهيارات قد لا تنتهي إلا بسقوط كل شيء. تبدأ القصة بتوقيعين بسيطين لركني الـ س ــــ س البريئين، سليمان/ سلام على مرسوم الحكومة. تظهر الاستقالات بعدها. إذا التحق جنبلاط فوراً بالمستقيلين وأكمل الثلث الدستوري الضامن، ولدت الحكومة ميتة، وبدأ الصراع على ميثاقية وجودها أصلاً. مع اتجاه إلى اعتبارها غير موجودة كلياً ولم توجد قبلاً ولا لحظة. ما يعني اندلاع الصراع حول دستورية حقها في تصريف الأعمال. أما إذا لم يلتحق جنبلاط بالمستقيلين فوراً، فمراسيم تعيين بدلاء للوزراء الأقل من الثلث زائداً واحداً جاهزة. تعيّن الـ س ــــ س ثمانية أسماء غبّ الطلب، وتنتقل المعركة إلى الشارع، مع كل احتمالات ما بعد ما بعد الشارع.
في الحالتين، يدخل البلد أول النفق المظلم. تمر الأيام الثلاثون الدستورية لمهلة الثقة، ثقيلة بطيئة. تصل التركيبة الحكومية المسخ إلى المجلس منهكة. في هذه الأثناء يكون وليد جنبلاط قد أتعبها وأتعب كل الأطراف بـ «لا تعليقاته»، قبل أن يدرك خطورة الوضع. فتسقط الحكومة دستورياً في المجلس أو خارجه، بعد سقوطها ميثاقياً لحظة توقيع مراسيمها. لكن الوقت يكون قد نفد من أيدي الجميع. والتوتّر يكون قد أضحى أكبر من محاولات استلحاق الأمور. فندخل الاستحقاق الرئاسي بلا حكومة. ما يجعل أي تعديل للدستور مستحيلاً، لا لوهم تمديد ولا لسدّ فراغ. ليل 24 أيار يغادر ميشال سليمان إلى عمشيت، أو إلى أي مكان آخر لا فرق. رغم إشارة نبيه بري المستترة له، بأن المجلس يظل قادراً على التشريع، وبالتالي على التمديد، على 14 أيار. غير أن غياب الحكومة يقضي على الفكرة كلياً. بعدها تتصاعد الانهيارات: فراغ رئاسي، شيء من لاحكومة، إرهابيون وانتحاريون وأصوات مخلوقات فظيعة في أحقادها ودمويتها تضج في الفضاء السياسي والإعلامي والأمني… فنصل إلى تشرين الثاني، ليكتمل سقوط الدولة. على أبواب شتائنا المقبل، يكون المجلس النيابي قد تحوّل هيئة ناخبة اعتباراً من منتصف ايار. فتنتهي ولايته الممسوخة اصلاً، ولا قدرة له حتى على ارتكاب مذبحة التمديد لنفسه مجدداً. حتى ولو فعلها أحدهم عندها، بفذلكة دستورية ما أو من دونها، على طريقة انتخاب ميشال سليمان رئيساً قبل ستة أعوام، يكون مدركاً كما الجميع، أن آخر لبنة دستورية في الوطن والنظام قد سقطت. بعدها، لا الفراغ، بل العدم …
يرتسم كل هذا المسار في اذهان أهل الصرح. نعود إلى العام 1989 إذن. لا رئيس، لا مجلس ولا حكومة. مع فارق أن هذه المرة لا طائف ولا دوحة ولا شيء ملموساً او منظوراً. حتى ولو اجُترح في لحظة مشروع تسوية، هل من يتصور كيف سيكون؟ هل من ضمانة للميثاق؟ أو بالعربي الفصيح، هل تطير المناصفة هذه المرة، وتكون مشاركة المسيحيين آخر أثمان المصالحة السنية ــــ الشيعية أو السعودية ـــــ الإيرانية في بيروت؟ من يضمن عدم الوصول إلى هناك، إذا دخلنا هذا النفق؟ من يحصّن هاوية كهذه ضد كارثة كتلك؟ إعطاء كل الأمن وكل المال وكل العدل وكل المقوّمات الاستراتيجية للبلد، إلى فريق من لون واحد؟ إلى أين يمكن لتوقيع ميشال سليمان أن يذهب بنا؟ ولقاء ماذا؟ ومقابل أي ثمن أو موقع أو منظمة؟ وهل ندرك أنه قد يكون آخر توقيع لرئيس في لبنان، اياً كان اسمه؟
جرس الإنذار يلعلع في بكركي. والتأجيل الحكومي أول نتائجه. لكن التأجيل لن يكفي بالتأكيد لإطفاء الإنذار. فالمسألة أن وطناً كاملاً في خطر.
المصدر: صحيفة الأخبار