ينتظر خصوم النظام السوري أن يسرِّع التحالف الدولي ضد «داعش» باسقاط الرئيس بشار الاسد. وينتظر حلفاء الاسد ان يقف التحالف أمام خيارين: إما الفشل وانكسار أميركا وحلفائها نهائياً او التنسيق مع دمشق وتغيير مناخ المنطقة. لعل الطرفين يغاليان في التوصيف، ذلك ان أهل التحالف نفسه لم يعتمدوا نهائياً بعد أي استراتيجية سيتبنون. فما هي فخاخ وألغام هذا التحالف؟ وهل تغامر أميركا وحلفاؤها بضرب النظام السوري؟
منذ الساعات الاولى لإنشاء التحالف ظهرت التناقضات. بريطانيا، الحليف الاطلسي الاول لاميركا في اوروبا، كانت اول المعترضين. قال وزير خارجيتها فيليب هاموند، من قلب برلين، إن بلاده لن تشارك في ضربات جوية في سوريا. صحيح ان هاموند استند الى تصويت سابق للبرلمان البريطاني ضد هذه الضربات، لكن الاهم هو ان لندن ستفتح قريباً جداً سفارتها في طهران، وتستقبل السفير الايراني.
المانيا كذلك ذات الثقل الاكبر في الاتحاد الاوروبي رفضت المشاركة في ضرب «داعش». أما فرنسا التي عادة ما تبدي حماسة كبيرة لمثل هذه الضربات لأسباب كثيرة، بينها التقارب مع واشنطن والمصالح الاقتصادية الضخمة مع السعودية والخليج والرغبة في تطويق ايران، فقد حرصت على ارسال رئيس لجنة الدفاع في البرلمان باتريسيا آدم الى طهران للقاء احد صقور الادارة الايرانية رئيس لجنة الامن القومي والسياسة الخارجية علاء الدين بروجوردي .
من الدول المتحالفة أيضاً، برز موقف تركيا الممتعض. امتعاضها مفهوم. فهي من جهة لا تستطيع ضرب مسلحين يدورون في فلكها، ومن جهة أخرى أفادت كثيراً من نقل النفط، ومن جهة ثالثة فان دعم الاطلسي لاكراد سوريا والحاقهم بأكراد العراق لا يريح انقرة.
وقطر التي كان لها دور كبير في السنوات الماضية في دعم مجموعات مسلحة في سوريا، تبدو في مرحلة مفصلية. يشير الى ذلك إبعادها سبعة من قادة الاخوان بضغوط خليجية ومصرية. فهل ضعفت لتقبل تنفيذ شروط، أم انها موعودة بثمن في مكان آخر؟
في اميركا نفسها، سارع الجمهوريون الى انتقاد الرئيس باراك اوباما، وبدأت بعض وسائل الاعلام التشكيك في فعالية التحالف، وخصوصاً اذا اقتصرت عملياته على الغارات الجوية.
ما تقدم يشير الى ان التحالف بدأ مفخخاً من داخله، فكيف اذا ما وقعت هجمات ارهابية على الاراضي الاميركية والاطلسية، او تعرضت مصالح هذه الاطراف لاعتداءات خطيرة؟ وماذا لو تبين، بعد حين، أنه كلما ضربت الطائرات الاطلسية والحليفة مواقع «داعش»، ازدادت الهجمات. ألم يكن ذبح الرهينة البريطانية مباشرة بعد اعلان التحالف اولى الرسائل؟
هذه، مثلاً، مؤسسة راند للدراسات تؤكد ان العمليات الارهابية ازدادت منذ عام 2010 بنسبة 58 في المئة، وان التنظيمات التي فرّختها «القاعدة» او المشابهة لها ازدادت ثلاث مرات، فضلا عن ان الدول التي اجتاحتها اميركا والاطلسي جواً وبراً وبحرا مثل افغانستان والعراق وليبيا صارت أبرز مسارح الارهاب في العالم.
الآن، لنراقب ماذا يمكن للمحور الآخر ان يفعل؟
كانت روسيا، قبل سوريا نفسها، اول المحذرين من مخاطر التحالف واستهدافاته وخرقه للقانون الدولي. قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف: «لا يمكن محاربة الارهاب في سوريا وفي الوقت نفسه مطالبة الرئيس الاسد بالرحيل… وان واشنطن لا تطلب موافقة الحكومة السورية على ضرب داعش لأنها تسعى الى اسقاط الرئيس الاسد ونظامه».
من الواضح ان روسيا تحذر، لكنها لم تهدّد. لم تقل انها ستمنع هذه الضربات. هل في الامر عجز روسي بسبب الفخ الاوكراني، أم ان موسكو مدركة سلفاً ان أميركا وحلفاءها مقبلون على فخ؟ الارجح انها تفكر في الخيار الثاني، وانها ستنتظر وترى، وفي الوقت نفسه تستمر في دعم النظام السوري عسكرياً.
ايران دخلت سريعا على الخط. كان كلامها ابعد من مجرد تنبيه. وصل في بعض مراحله الى حد التهديد. قال رئيس مجلس الشورى الايراني علي لاريجاني، مثلاً، ان «اميركا تلعب بالنار في المنطقة، وعليها ان تدرك انه لا يمكنها مهاجمة سوريا بحجة محاربة داعش». الرسالة واضحة.
مرشد الثورة السيد علي خامنئي نفسه تعمّد الدخول على الخط. كشف، من جهة، ان اميركا عرضت التعاون وان ايران رفضت. واتهم، من جهة أخرى، واشنطن بمحاولة العودة عسكريا الى المنطقة. حين يتحدث المرشد، ففي مجرد الحديث رسائل مباشرة.
سوريا من جهتها، قالت بوضوح، على لسان مستشارة الرئيس الاسد الدكتورة بثينة شعبان «اننا سنقاتل كل من يعتدي علينا». رد وزير الخارجية الاميركي جون كيري بعد يومين محذراً الاسد من محاولة القيام بأي عمل قد يندم عليه. اوباما رد بعد عدة ايام مهددا بتدمير الدفاعات الجوية السورية اذا اعترضت الطائرات الاميركية.
ومن جانبه، الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله قدم تحليلاً أوسع للاوضاع في المنطقة. كل من زاره في الآونة الاخيرة، وبينهم وفد «الأخبار» والجنرال ميشال عون ورئيس كتلة النضال وليد جنبلاط، سمعوا ان لدى نصر الله قناعة بأن المشروع الاخر في طور الانهزام، ولذلك هو متخبط ويلجأ الى كل الوسائل. صحيح ان «داعش» خطيرة، ولكن هزمها ممكن. الاهم هو ان يقرر أهل السنة الانخراط جديا في وأد التيارات الارهابية والتكفيرية بغية توحيد الجهود وحماية الوطن العربي والاسلامي ومسيحيي الشرق واقلياته.
التخبط الذي يتحدث عنه نصر الله ظهر جليا في العلاقة الضبابية بين اميركا وايران حيال التحالف الدولي. تارة يقول جون كيري في مؤتمره الصحافي قبل 3 ايام ان «ايران تقوم بما ينبغي ضد داعش ونحن نقوم بدورنا»، موحياً بتنسيق غير مباشر، وتارة اخرى يتأثر بالجغرافيا خلال زيارته لتركيا ليؤكد ان ايران لن تشارك في مؤتمر باريس بسبب تورطها في سوريا.
بهذا المعنى، تبدو العلاقة الاميركية ــ الايرانية في هذه المرحلة كالمتزوج الذي دعا عشيقته الى عشاء في الخارج ولا يريد لاحد ان يراه فيفضح سره. هل لعاقل ان يصدق ان أميركا ستأتي لتضرب «داعش» في العراق وسوريا، وان نوري المالكي يُبعد عن الحكومة، وان ايران واميركا تدعمان البشمركة، من دون ان يكون في الأمر تنسيق؟
نفي التنسيق لا يُصدَّق. الكلام ايضا عن تنسيق كامل لا يصدق. الأرجح ان المحورين يعيشان حالياً ما وصفه يوما السيد خامنئي بـ «مرونة المصارع». كل محور يتربص بالآخر ليعرف الى أين سيصل بخطواته. وكل منهما يعد كل الاوراق العسكرية والسياسية للتعامل مع المرحلة المقبلة كما ينبغي.
سوريا ستكون الفيصل. أي من المحورين لا يستطيع خسارة المعركة. فلا اميركا وحلفاؤها الاطلسيون والعرب راغبون في ضرب داعش وتقوية ايران والاسد، ولا روسيا وحلفاؤها، وخصوصاً في ايران وسوريا، سيقبلون أن يكون التحالف ذريعة لضرب النظام السوري واضعاف ايران واقفال ابواب المنطقة في وجه روسيا.
هذا يعني ان على أرض سوريا، لا العراق، سيكون المستقبل مرهوناً بثلاثة احتمالات: إما المواجهة بين المحورين، او التمهيد لصفقة بعد عمليات عسكرية تمتد فترة غير قصيرة، او ادارة طويلة لصراع سيحاول فيه المحور الداعم للاسد تقوية دعائم الجيش، بينما يحاول فيه المحور الاطلسي ــ العربي ــ التركي التأسيس لقوة مسلحة تدفع في اتجاه الضغط على النظام وتعديل موازين القوى.
من يقرأ تفاصيل آخر اللقاءات الاميركية ــ الاوروبية في بروكسل، قبيل اجتماع جدة، يفهم ان الاميركيين انفسهم يدركون صعوبة اقتصار الامر على ضربات جوية، وان الاتجاه للتنسيق مع دمشق قد يفرض نفسه لاحقاً، حتى لو ان السعودية لا تزال تضغط بقوة لمنع هذا الامر.
كل شيء سيتحدد على الارض السورية. اخطر ما يمكن ان يفعله التحالف هو ضرب نظام الاسد. فلا احد حينها يمكنه معرفة حجم الرد الذي قد يصل ايضا الى فتح جبهة مع اسرائيل. وأفضل ما يتمناه اوباما هو اعادة التوازن على الارض السورية للدفع في اتجاه مخرج سياسي. هذا سيكون كفيلا بأن يجنِّب سيد البيت الابيض احراجاً حيال عدم القدرة على اسقاط الاسد، ويرضي حلفاء اميركا. يعزز هذا الاعتقاد الكلام الايجابي الذي صدر في دمشق بعد استقبالها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا قبيل الاعلان في جدة عن التحالف الدولي.
الخيار السياسي كان في صلب خطاب اوباما مع اعلان التحالف ضد «داعش»، وكان احد اهداف التقارب الايراني ــ المصري وزيارة نائب وزير الخارجية الايراني حسين امير عبد اللهيان الى الرياض.
في كل الاحوال، حين تتكثف الضربات ضد «داعش» في العراق، ستصبح الصورة أكثر وضوحاً، لجهة اخراج اميركا مخالبها ضد سوريا، او التنسيق الاضطراري تحت الطاولة، وخصوصاً اذا ما حصلت مفاجآت ارهابية كبيرة… وهي ستحصل.