دعته مدينة [بنت جبيل] ليشغل فيها مقام العالم الروحاني
الشيخ محسن شراره
نشرت الهاتف – العدد 433 للسنة الثالثة عشرة من تشرين الأول 1946 موضوعاً حول الشيخ محسن شراره جاء فيه:
كان الشيخ محسن شراره – رجلاً نحيف الجسم، خفيف اللحية، نظيف الملابس حسن الهندام، على رأسه عمة بيضاء تدل لفتها على ذوق خص به بعض المعممين دون الآخرين، وعلى أن هذا الرجل لا يزال في عنفوان شبابه، فإن حركاته المتزنة ونظراته المتركزة في طريقه، وسلامه، وكلامه مع من يلتقيهم في الطريق ممن يعرفونه – لتدل دلالة واضحة على ان الرجل ان كان لا يزال في مقتبل العمر فان له عقلاً راجحاً اكسبه وقاراً هو أقرب الى وقار الشيوخ المجربين وعقولهم منه الى عقول الشباب والكهول.
انه رجل تدل هيئته على الطيبة، وعلى الاجتهاد في تحصيل العلوم العربية والدينية وانه على جانب من الاخلاق الحميدة التي يستطيع ان يستشفها كل أحد من وراء هذه السيرة الساذجة النقية.
وحينما اصدر المجتهد السيد محسن الأمين رسالته التي جمع فيها فتاوى العلماء بتحريم ضرب الظهور بالسلاسل، وشق الرؤوس بالسيوف، وغير ذلك مما يفعله البعض يوم عاشوراء باسم الحزن على سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) تلك الرسالة التي داخل موضوعها كثير من الغايات الشخصية والاغراض والمنافع التي أثارت بعض الاشخاص وحملتهم على مقاومتها والهجوم على مؤلفها ولم يكد يمر على صدور هذه الرسالة اسبوع أو اكثر وتنتقل من الشام – حيث تم طبعها- الى العراق حتى رافقها كثير من (الدعايات) ضدها، ووجدت هذه (الدعايات) هوى في بعض النفوس فأشعلوها فتنة شعواء تناولت السيد محسن الأمين المؤلف وأتباعه بقساوة لا توصف من الهجاء، والذم، والشتم المقذع وخاف الذين آمنوا بقدسية هذه الرسالة، وصحة فتاوى العلماء، لقد خافوا أن يعلنوا رأيهم في وجوب الذب عن موضوع هذه الرسالة والدفاع عن شخصية المؤلف، وكادت الحقيقة تعلن للناس أن أنصارهم إنما يكونون في يوم الرفاه والسعة … أما في يوم الضيق فمن العبث أن يبحث المرء عن أنصار الحقيقة، وعن أصحاب المبادئ الصحيحة خصوصاً اذا كان مثل هذا اليوم أصبح الرأي العام فيه ضد هذا المجتهد، وأصبح – سواء أكانوا جاهلين أو مغرضين أو طائفيين – سواء في رفض هذه المبادئ، وسواء في هجومهم على فتاوى بعض العلماء الذين انتصروا للسيد محسن الأمين وحرموا إسالة الدماء بالسيوف، ورض الصدور بالضرب عليها، وإدماء الظهور بالسلاسل، باسم الحزن على الحسين (ع)، اذ من ذا الذي كان يجرأ أن يخالف للناس رأياً؟ ومن كان يستطيع الظهور المخالف في ذلك اليوم؟ ومع ذلك كله فقد لمع في ذلك الوسط الصاخب المليء بالخوف من سطوة العوام اسم ما لبث ان توهج وأضاء على الرغم ما كانت تكتشفه من الغيوم السوداء وكان صاحب ذلك الاسم هو (الشيخ محسن شراره) الذي لم يهتم بثورة، ولم يعبأ بحملة المغرضين وهياج الهائجين، فكان أول من رفع عقيدته باستنكار هذه الحملة الشنيعة وأول من أندفع للذب عن تلك الأغراض التي تضمنتها رسالة السيد الأمين بشجاعة منقطعة النظير وجرأة نادرة فتحت للخائفين كوة من الرجاء ما لبثت ان صارت بابا واسعا، واذا بقوى المهاجمين تتجمع كلها فتمطر الشيخ (محسن شراره) سباً وشتماً وقذفا وثلبا، واذا بالشيخ محسن شراره يقابل كل هذه الهجمات بجرأة المؤمن العارف بما يترتب على المؤمنين من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واذا بالناس لهم في مجالسهم وأنديتهم يرددون أسم الشيخ محسن بما تمليه قلوبهم، وعقولهم وأمزجتهم، ولكن من هو هذا الشيخ محسن؟ وما هي ماهيته؟ انه رجل لم تقتصر شهرته على الأندية، والمجالس وعلى السنة الخطباء بل تجاوزت ذلك الى الصحف التي نشرت له عدة مقالات صريحة التوقيع، وعدة مقالات بتواقيع رمزية فأندفع الكثير من الأدباء والكتاب الذي يعنيهم أمر الإصلاح الديني الى التنويه بذكر الشيخ محسن، والدفاع عن آرائه، ومع ذلك كله فقد ظلَّ الكثير لا يزال يسمع باسم الشيخ محسن شراره، ولا يعرفه، بل أصبح كثير من الناس يودون التعرف به ولا يجدون الى ذلك سبيلا، أما الشيء الوحيد كان معروفاً عنه هنا وفي سوريا، ولبنان، فهو بيته وأسرته … أنه من بيت شراره وبيت شراره من أعرق البيوت المعروفة كان لها في العراق موطن، وفي لبنان موطن، ولا يزال أحد شوارع النجف يحمل أسم هذه الأسرة، باسم (عقد بيت شراره) وقد أنجب هذا البيت كثيراً من العلماء وكثيراً من الأدباء، وعدداً غير قليل من فحول الشعراء وكان جد الشيخ محسن موسى شراره كان مضرب المثل من حيث فقهه وعلمه وأدبه ومواقفه الاصلاحية، وقد مات وهو ابن سبع وثلاثين سنة …!! وقلما سمع بعالم يجمع بين هذه المواهب وهو بهذه السن الصغيرة ..!!.
كان الشيخ محسن شراره صورة من صور الفضيلة المفقودة، وعنوانا للجد والتفاني في تحصيل العلم والعرفان، وقد كان الى جانب درسه للفقه والأصول والحكمة منهمكا في دارسة اللغة الانكليزية والرياضيات، فكان لا يترك فرصة تمر دون أن يستفيد من صداقة الأطباء وأساتذة المدرسة الثانوية الرسمية في النجف ليجتمع بهم في خفية من العيون لدرس الأدب الانجليزي وبعض العلوم الأخرى … كان لاسكندر حريق والدكتور أنيس العاملي الفضل الأكبر في تدريس الشيخ محسن شيئاً من العلوم الحديثة إلى جانب العلوم الدينية … ومرة أخرى لاكت بعض الألسن أسم الشيخ محسن بالسوء لإقباله على تحصيل هذه العلوم ..!! وكان ذلك سبباً من أسباب انكماش الشيخ محسن بعض الانكماش، والتلكؤ عن متابعة الدروس الحديثة خوفاً من أحداث موجة أخرى من هياج وثورة كان ينبغي أن يكون في غنى عنها وهو شيخ روحاني وطالب علم.
كان الشيخ محسن عالماً دينياً ومصلحاً اجتماعياً، كما كان الشيخ محسن على رغم مجاراته للرأي العام لا يجبن أن يجابه الرأي العام حينما لا يجد من مجابهته وتحديه وكان يعرف الساعة التي يجب فيها على المرء ان يقف في وجه التيار فيقف حينذاك غير عابث ولا مكترث…
وقد دنا الشيخ محسن من العاملين وأقترب منهم وصار من محبيهم وأمتزج برهط من أدبائهم امتزاجاً قوياً ويحس بإحساسهم ويشعر بآلامهم ويشاركهم في نظمهم ومقارضتهم الشعر، وقتل الفراغ باستعراض نكاتهم الأدبية ويحيون ليالي طويلة في مسجد الكوفة، وأخرى مثلها في مسجد (السهلة) وعلى ضفاف نهر الفرات.
وقد درس الشيخ محسن شراره على الإمام السيد أبي الحسن الأصفهاني وعلى الإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، وعلى الإمامين السيد أغا جمال والميرزا حسين النائيني.
وحيثما دعته مدينة (بنت جبيل) ليشغل فيها مقام العالم الروحاني أبى الإجابة على هذه الدعوة إباءاً شديداً، فكررت عليه بنت جبيل الطلب بعد زمن وألحت عليه حتى أضطر الى الرحيل من النجف إليها وحينما همَّ بالسفر كان أول عالم أعتمد على كفايته العلمية والاجتماعية، دون أن يراجع المراجع الروحانية العليا لأخذ الشهادة والتزكية والتعريف به كما جرت العادة عند البعض.
ولكن السيد (أبا الحسن) قد بعث بالشهادة (العالمية) إليه إلى بيته بمجرد سماعه بزعمه على السفر وكانت شهادة علمية وافية، أما (الميرزا النائيني) فقد أرسل بشهادته له فلم يدركه رسوله الا وهو راكب في السيارة، كما أن الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء قد أرسل له بشهادة اجتهاد مفصلة الى لبنان، والشيخ محسن أول عالم يقدر له العلماء مكانته فيبعثون له بالشهادات العلمية بدون طلب منه وينزلونه من أنفسهم المنزلة التي يستحقها.
ولكن الشيخ محسن عاقه المرض في (بنت جبيل) من متابعة رسالته الإصلاحية فدخل هناك (مصح للسل)، زمنا ثم خرج ولم يطق أن يتبع نصائح الأطباء في تجنب العمل والخلود الى الراحة، اذ راح ينفق جهوده في الدعوة الى توحيد الكلمة، والوقوف في وجه الفرنسيين ومطالبتهم بحقوق تلك المنطقة المحرومة من العمران والثقافة والحرية وله وحده كما لآبائه من قبل كان فضل هذه اليقظة الفكرية والوطنية والنهضة الاجتماعية في بنت جبيل، وفي سنة 1943 بعث رسالة إلى أصحابه في النجف شرح فيها ما يحيط من ضيق روحي وما يشعر به من شقاء وأن الأمور لتجري على غير مجراها من حيث توجيه الناس ومصالحهم العامة وقال أنه فوق ذلك كله يشكو من اعتلال صحته التي لا تساعد بأي وجه من الوجوه على النهوض بالناس ودفعهم الى تغيير اتجاههم، ثم دخل مستشفى (الجامعة الأمريكية) ببيروت، وقد اجروا له عملية، ولم يهتدوا الى علته – ثم أُذيع نبأ نعيه …
لم تخسر بنت جبيل الشيخ محسن شراره وحدها وإنما خسره الفضل والخلق والإيمان الصحيح فقد كان قدوة صالحة للأعمال الإنسانية، وعنواناً بارزاً من عناوين التضحية في سبيل اسعاد الأمة، وكان بعد ذلك شاعراً يئن لأنة المفجوعين، ويبكي لبكاء المظلومين وقد عجل عليه الموت كما عجل على جده من قبل فتوفي وهو في بردة الشباب وخلف في نفوس النجفيين وممن يعرفونه خارج النجف لوعة لا تنسى ….
أين نحن اليوم بمثل هذه الشخصية الفذة التي سعت الى تطهير الدين من الشوائب، وكسر السكوت عن المظالم ورفض التبعية للإحتلال…؟؟.
الوسومالنخبة في بنت جبيل
شاهد أيضاً
في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)
قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …