طريف حتى المأساوية السوريالية مشهد مسؤولينا وهم يتساجلون حول «حق لبنان واللبنانيين في المقاومة». كأن لبنان موجود أصلاً. أو كأن اللبنانيين مفهوم ثابت في الزمن الآتي، ليتنازعوا حول الاثنين. وسط ترف الخطابات ووفرة الحوارات ودعائية البطولات ومسخرة الحريات، لو أنهم يرتقون للحظة، أو يتراجعون لخطوة، علهم يحظون برؤية أفضل للواقع فيدركون مثلاً أننا في بقعة من الجغرافيا، سالت حولها كل الحدود، إلا حدود الظلم في فلسطين. فيما شرقاً وشمالاً لم يعد ثمة لبنان.
صارت الحدود مفتوحة مع جهنم مفتوحة في الدولة التي ولدنا لأننا صودفنا في جوارها. وعشنا وسنموت على أننا نحن «أرضها المجاورة»! لا بل أكثر، هي حدود دولة سوريا نفسها مع دولة العراق قد اختفت. أي صرنا في بيروت فعلياً على تواصل تام ومباشر مع آخر احتلالات واشنطن الخاسرة، ومع أمة انقسمت على ذاتها على الأرض، ولم تعد أمة إلا على الورق. الورق نفسه الذي اختار بعض العراقيين أن يسوّدوه الآن بالذات، بقانون للأحوال الشخصية يضرب آخر ما لدى المرأة من إنسانية. تماماً كما قوانين أحوالنا الشخصية في لبنان، بل كل أحوالنا. ربما لنتأكد أكثر فأكثر أننا صرنا بلا حدود، من أرض البييل المسروقة من دولتنا حتى أرض إربيل المسلوخة عن دولة العراق.
ولاستكمال الصورة وحسب، هي الحدود بيننا وبين تركيا قد زالت كذلك في شمال سوريا. رغم صورة الحواجز هناك وانطباعات الدولة الأمنية الأتاتوركية الإردوغانية. رغم كل الأوهام، صارت تركيا في سوريا والعكس. كما هي بيروت ودمشق، لا بل أكثر. يكفي أن نتذكر أن كل إرهابيي العالم قد وصلوا إلى الشام عبر محطة اسطنبول. ووصلوا إلى بئر حسن عبر محطة دمشق بيروت. فيما الغرب الذي يرسم لنا وعود الدعم والدولة والجيش القوي القادر، يتندر بأنه اخترع «تلافة إرهابيين» بعيداً عن كل أراضيه ومصالحه ورفاه أبنائه، كما تردد أن مسؤولاً غربياً تباهى. ويتبجح أنه استنزف وسيظل يستنزف كل أعدائه في المستنقع السوري، من دون قرش من الجيب ولا قدم على الأرض. بل بتحويل سوريا إلى «ركام» كما ورد على لسان أوباما. مفردة أحب ربما استخدامها، لمغازلة أصحاب الأساطير البيبلية من صهاينة وأشباههم. ذلك أنها المفردة نفسها التي استخدمها إشعيا في سِفره البيبلي، متنبئاً لدمشق أن تصير «ركاماً من أنقاض»…
ماذا يعني هذا الواقع بالنسبة إلى «لبنان واللبنانيين» الذين يتصارع حولهم أساطين بياننا الوزاري؟ هذا يعني بكل بساطة، أنه لم يعد عندنا ثمة دولة أو وطن. ولا خصوصاً شعب ذو سيادة كما يتوهم دستور طائفنا وطوائفنا. هذا يعني أننا في قلب نار تأكل كل شيء. وأن علينا أن نتوقع كل الانقلابات وأقساها. علينا أن نتوقع مثلاً تجنيس نحو مليون سوري شمال سوريا، باسم مبدأ المحافظة على وحدة الأراض السورية التاريخية. وعلينا في المقابل أن نتوقع عملياً أن يظل عندنا أكثر من مليون نازحة سورية ونازح سوري، بائسين مقهورين مظلومين جائعين مهانين في إنسانيتهم وكرامتهم. يتآمر عليهم كل الكون كيلا يعودوا إلى ما كان يوماً وطنهم. والجميع بدأ يدرك هذا الواقع ويعجز حتى عن الاعتراف بمعرفته.
قبل أيام اجتمعت المفوضية العليا لللاجئين التابعة للأمم المتحدة في جنيف. كان على جدولها استنفار دول العالم، لتأمين عملية «إعادة توطين» نحو 18 ألف «لاجئ سوري في لبنان». 18 ألفاً من أصل مليون ونيف. يعاد توطينهم في أكثر من 15 بلداً غمرونا وغمروهم بعطفهم الإنساني المحسوب بدقة. 18 ألفاً سيجري اختيارهم على طريقة التنخيب واختيار «الزبدة». لماذا هذه الضجة إذن؟ بكل بساطة كي يتحول الباقون «لاجئين» عندنا بالمعنى القانوني الدولي. وليبدأ هضم الموضوع على مدى عقود الاستنزاف المطلوبة.
في المقابل، بقَها نتنياهو بكل فظاظته. لن يعود فلسطيني واحد إلى أرضه. أخبار الأردن تضج أصلاً بالمساعي الخبيثة لترحيل آخر أبناء فلسطين عن آخر ترابهم الوطني المقدس. فيما الكل متآمر ساكت ساكن راض قابض. لكن الغرب طمأن بعض اللبنانيين، رسمياً طبعا: لا تخافوا على فلسطينييكم اللبنانيين. لن نتركهم كلهم عندكم. لا محبة بكم. بل حرصاً على حدودكم الجنوبية. سنأخذ أعداداً منهم إلى كندا وأوستراليا. والمؤكد أنهم يتمنون ذلك، مقارنة بحالة البؤس اللاإنساني الذي يعيشونه في مخيماتكم. أكملوا سياسة حرمانهم من أبسط حقوق الإنسان. هكذا تسهلون عملية هجرتهم الجديدة، متى حانت التسوية ـــ الخيانة. صحيح أن لتلك السياسة «عوارض جانبية» من نوع الجنوح صوب الأصولية الانتحارية. لكن لا تخافوا، لقد أقمنا التلافة السورية حلاً لذلك…
ما لا يجرؤ أحد على قوله للمتفلسفين في حكومتنا حول «لبنان واللبنانيين»، أن هذين المفهومين صارا فعلياً افتراضيين. وأن الجغرافيا من حول «اللبنان» الذي يحكون عنه، تحترق كلها وتتزلزل. وأن الديموغرافيا المحيطة باللبنانيين الذين يتحدثون عنهم وباسمهم، تتحرك وتزحل وتميد كتلاً كتلاً وشعوباً شعوباً. فيما بعضهم يدعي بطولة النقاش شهراً حول «أل» التعريف أو عدمها في مقاومة أو إعدامها.
مسخرة أو أكثر بكثير. لم يكن ينقصها غير جواز سفر ميشال سليمان «البونتوازي»، وانتفاضة أشرف ريفي دفاعاً أو توريطاً أو إقناعاً لنا ربما، بأن هذا الضرب من النوع الحرام. لكن الحرام الأكبر يظل مشهد المتناقشين حول لبنان واللبنانيين، بلا مقاومة، هنا والآن. تصوروا!
المصدر: الأخبار