الشيوعية تؤرق الطائفيين

لم يكن الحراك الشعبي بحاجة الى معجم إقتصادي لشرح مبررات اصطفاف أبناء الطبقة المسحوقة ضد أصحاب السلطة السياسية والإقتصادية، ولم يكن بحاجة الى إطار سياسي تقليدي يُنظّم تحركاته وشعاراته. لكن الحراك، وبطريقة عفوية، تسلّح بالنظرية التي تؤكد ان الإنقسام الفعّال في المجتمع هو الإنقسام الطبقي وليس الطائفي، على عكس ما تريده الطبقة السياسية.
وإذا كان الإنتظام أحد الشروط الأساسية للوصول الى الهدف، الا ان ما حققه الحراك بوضعه الحالي، يشير الى صحة إتجاهه إقتصادياً وإجتماعياً على الأقل، وهو الجانب المطلوب لغاية الآن. وبفعل صحة اتجاهه الإقتصادي والإجتماعي، بدأ بإزعاج وإقلاق راحة أركان السلطة السياسية والإقتصادية، إذ من المبكر القول أنه بدأ بتخويفهم أو بتهديد مصالحهم، وما العنف المستخدم من قبل القوى-الذراع الأمنية للسلطة ضد المتظاهرين، سوى دليل على القلق الذي لابد وان تبدده السلطة بالعنف. علماً ان هذه السلطة قد تصعّد عنفها كلما زاد إحساسها بالقلق.
تعبير السلطة بكافة أركانها عن القلق، جاء من الزاوية الإقتصادية، حيث ارتفعت أصوات الهيئات الإقتصادية الممثلة لمصالح الطبقة السياسية. لكن اللافت هذه المرة، هو وضوح الخطاب الذي يفصل تماماً بين السلطة والغالبية العظمى من الشعب اللبناني بكافة طوائفه. والجيّد في هذا الصوت أنّه حدّد تماماً معالم المعركة بين الطرفين، وهي إقتصادية بإمتياز، لكنها كانت تتلطّى خلف الطائفية، الى ان جاء الحراك الشعبي فأزال الستار الطائفي عن المعركة.
منذ حوالي 3 أشهر، أطلقت الهيئات الإقتصادية صرختها في وجه السلطة السياسية – كما قيل – في احتفال فلكلوري فاخر في “البيال”، حيث أطلقت الهيئات ما سمّته “نداء 25 حزيران” ضد السياسات التي أدت الى الركود الاقتصادي وتعطيل المؤسسات الدستورية، وأوصلت البلاد الى حالة “الانتحار الجماعي”. الخميس، صوّب رئيس اتحاد الغرف اللبنانية محمد شقير على الطبقة السياسية عبر دعمه للحراك الشعبي الذي “يساهم في الضغط على أهل السياسة لكسر هذه الحلقة المفرغة التي ندور فيها”، غير ان شقير، عَدَلَ عن دعمه، عبر وصف المتظاهرين بأنهم يعتدون على “أملاك الدولة والأملاك الخاصة وعلى أرزاق الناس… ويهددون البقية الباقية من مناعتنا الاقتصادية”، وذلك خلال مؤتمر صحافي عُقد لإطلاق صرخة “من أجل انقاذ قلب بيروت”.
إنقاذ قلب بيروت هذا، يعني تحريره من الحراك الشعبي، فبنظر الهيئات الإقتصادية، الحراك يبعد صورة وسط بيروت عن “ما أراده الرئيس الشهيد رفيق الحريري” على حد تعبير رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس. فالوسط بحسب شماس هو “للمحال التجارية الراقية التي تبيع للسياح”، الا ان الحراك يحاول بطريقة أوتوماتيكية تحويل الوسط الى مكان لكل اللبنانيين، أي يحاول إعادة وسط بيروت الى حالته الجامعة لكل ابناء الوطن، كما كان في حقبة الستينيات. وهذا ما رفضه شماس، مؤكداً على أن وسطت بيروت سيبقى مكاناً “راقياً” ولن يسمح أبداً بأن يتحول الى “أبو رخوصة”، وفي هذا الوصف محاولة لتحقير وإذلال شريحة واسعة من اللبنانيين، ومشدداً على ان الهيئات الاقتصادية تحمل الاقتصاد الليبرالي على اكتافها، ولن تسمح لأحد بأن يهدم هذا الاقتصاد. واعتبر شماس ان ما يحصل، هو محاولة من “الأشخاص المندسين الشيوعيين” لإحياء “الحرب الطبقية”.
كلام شقير وشماس يحمل الكثير من التناقضات المتعلقة – على الأقل – بما يمثله الوسط التجاري. فإذا كان الوسط برأيهم “لكل الناس” فكيف يقولون بأنه سيبقى مكاناً “راقياً” ويرفضون تحويله الى “أبو رخوصة” أي الى مكان غير باهظ الثمن؟ فالوسط بما يمثله الآن، ليس مكاناً لكل الناس، ورفض الاسعار الشعبية، هو رفض لشريحة كبيرة من الناس. وفي ما يخص امتعاض الهيئات من سياسات السلطة، فإن هذا الامتعاض مزوّر، لأن مصالح الهيئات لا يمكن ان تتحقق إلا بوجود هذا النظام، ومحاولة الحراك كسر تغيير المعالم الاقتصادية والاجتماعية للنظام، سرعان ما استدعى عداء الهيئات للحراك، وتمسكها بالنظام، عبر التخويف من الفوضى. وفي معرض اعادة التموضع، انزلقت الهيئات الى الإعتراف بالصراع الطبقي، وقد سماه شماس “حرباً طبقية” بهدف إستثارة الحساسية ضد فكرة الحرب. والانزلاق، بدا واضحاً من خلال التمييز بين رواد الوسط الحاليين الأثرياء، وبين رواده الحقيقيين الفقراء الذين اطلقوا في ظل الحراك، دورة اقتصادية بسيطة تلبي احتياجاتهم من أكل وشرب، بأرخص الأثمان.
شدة القلق الذي تعيشه الهيئات الاقتصادية على مصالحها حصراً، وليس على مصالح كافة الفئات الإجتماعية، دفعها الى إعلان حرب طبقية ساخنة، بعد ان كانت حرباً باردة، لا يدري معظم أهل الحراك أنها حرب طبقية. لكنها بالفعل كذلك، فأهل الحراك اصطفوا جنباً الى جنب بوصفهم متضررين من الهجرة والبطالة وغياب الخدمات العامة وما الى ذلك، ضد أقلية سلطوية تنعم بخيرات البلاد، وفي كلا الطرفين انتماءات طائفية لم تشكل، ولأول مرة منذ العام 1975، عنواناً للإنقسام. واطلاق الهيئات للرصاصة الطبقية الأولى ضد الحراك، هي دعوة لأبناء الحراك للدفاع عن مصالحهم، تماماً كما تدافع الهيئات بوصفها سلطةً، عن مصالحها. وبالتالي، تصبح سيطرة المتظاهرين على وسط بيروت، وإعلانه ملتقى لكل الناس، أمراً مباحاً في هذه “الحرب”.
يمكن القول بأن الهيئات الإقتصادية قدّمت للحراك “خدمة العمر” عبر حسمها لماهية الصراع المولود حديثاً في الشارع، والمفقود منذ حوالي 40 عاماً، والذي يعيد النظر – إذا أُحسِن إستثماره – بجزء من علاقات الإنتاج، هو ذلك المبني اليوم على الولاءات العائلية والطائفية. وهذه الصورة المستجّدة لأول مرة بعد الحرب، تعيد الى الأذهان ما كتبه الباحث والأستاذ الجامعي فواز طرابلسي في العام 1985، ضمن منشورات “بيروت المساء”، تحت عنوان “الماركسية وبعض قضايانا العربية”، إذ قال طرابلسي: “إننا نعيش لحظة تاريخية قلقة، بين الانشطار العمودي والانقسام الافقي. والسؤال الذي يجب ان يُطرح هو: أيهما الأصح، الحديث عن تفاوت طائفي ضمن الطبقات، أم عن تكوين طبقي يخترق التشكيلات العائلية والطائفية؟”. يبدو ان هناك نواة تولد من
رحم الخيار الثاني.
المصدر: المدن

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …