لا يزال ذلك التراب ندياً بعد طوفانٍ الدّم.. هناك حيث استشهد الحاج قاسم ورفيقه الشهيد محمد أبو طعام. حبّاتٌ رطبة، كانت عصيّة على تقلّبات الفصول وحبائل الشمس الساطعة. ربما كان ذلك هو التوقيع الأخير للرجل الذي مهر تاريخه الجهادي ببصماتٍ لا تذبل أزهارها، ولا ينسى العدو الصهيوني أزيز رصاصها..
بلى، إنه هو من عانق صديق العمر وأخذه بين ذراعيه، ليطلقه ملاكاً(1) في سماء صف الهوا – بنت جبيل.. بلى، إن في جبهته السمراء دار أحد عشر كوكباً، وقمر في مثلث رب ثلاثين – العديسة(2).. عند كل تلٍّ، وفي أغوار الوهاد، عند ارتعاشة الفجر، والليالي المدلهمة، في حرّ الصيف، وقارس الثلج، وحدهما عيناه كانتا كجناحي النّسر المحلّق دوماً أعلى القمم يحرسُ أرضه..
هو خالدٌ في القلوب، كما الرصاصة في بيت نار بندقية المجاهدين. خالدٌ بتميزه في التخطيط والتطوير والمشاركة وقيادة العمليات، وأخيراً في الاستشهاد..
ربما كانت الأغنية التي حدت بها أمه له وهو في القماط، نبوءة غده، فكانت تحمله وصوتها الرقيق ينساب في أذنيه: ” يا خالد يا خلودي، بإيدو سيف وبارودي، يا ربي يكبر خالد، ويحارب جيش اليهودي”.
إذاً، هي البندقية.. الأغنية التي نما عظمه وهو يسمعها، ورآها في عمر الطفولة، عندما رافق والده الملتحق آنذاك بالمناضلين الفلسطينيين، وعزف لحن السلاح على أوتار أصابعه عندما شبّ..
ومن خصوصية المنزل الذي وعى معنى النضال باكراً، إلى بنت جبيل عاصمة الثقافة ومركز ثقل التوجيه الديني، الذي صبغ روحه بالتدين وهو لا يزالُ فتىً غريراً، فارتاد المسجد باكراً لينهل من معين العلماء، واتخذ من زواياه نقطة انطلاقه في دروب الحياة..