مقال : السيّدةُ زينبُ (ع): القويّةُ الشّامخةُ
العلامة المرجع #السيدمحمدحسينفضلالله
عندما نلتقي بالسيّدة زينب (ع)، فنحن لا نريد أن ندخل في قداسة النّسب في نسبها، ولا نريد أن ندخل في فيض العاطفة الّذي نحمله لها في قلوبنا، نريد زينب الإنسانة المرأة بعيداً من كلّ التهاويل، وبعيداً من كلّ الصفات، نريد أن نتمثّل فيها العناصر الحيويّة التي يمكن لنا أن نجد من خلالها في هذه الإنسانة، عنصر القدوة التي تجسّد الفكرة.
لا نريد أن نتحدّث كيف كانت طفولتها، وكيف انفتحت على أبيها، فتغذَّت من كلّ فكره وروحه، وشجاعته وصلابته، وكيف انطلقت مع أخويها، تعيش كلّ الأخلاق الإنسانية التي جعلت منهما نموذجين للإنسان الكامل، ولكنَّنا نريد أن نلتقط مواقفها.
في كربلاء، كانت زينب (ع) رفيقة الحسين (ع)، يحدّثها وتحدّثه، فنحن لم نقرأ أنَّ هناك حالة مناجاة بين الحسين وبين أيّ شخص من أصحابه ومن أهل بيته، يفتح فيها عقله وقلبه وشعوره، إلّا مع زينب (ع).
في ليلة عاشوراء، عندما بدأ يحدّثها عن طبيعة المعركة، وعن النتائج الصّعبة التي سوف تنتج من المعركة، وكيف يجب عليها أن توازن عاطفتها فلا تندفع فيها، لأنَّ المستقبل القريب الدامي المأساوي، لا يسمح لزينب بأن تعطي عاطفتها حريّتها، العاطفة في الإسلام لها قداسة إنسانيّة، إنسان بلا عاطفة هو حجر، وعقل بلا عاطفة حالة لا يمكن أن تنفذ إلى وجدان الإنسان.
لكنَّ القضية أنّ هناك موقفاً، إذا تحرَّكت العاطفة فيه، مع كلّ المأساة التي تحيطه، عند ذلك تؤثّر العاطفة تأثيراً سلبياً، لأنَّ القصّة عند ذلك تكون تفصيلاً من تفاصيل العاطفة، فلا يكون هناك شيء جديد.
لذلك، عندما ندرس حركة السيّدة زينب (ع) في كربلاء، في أثناء المعركة، وبعد المعركة، فإنّنا نجد أنّها كانت تعيش صلابة الموقف، كأقوى ما تكون الصّلابة.
كانت الإنسانة التي تعيش صلابة الموقف، وعندما كانت تتدخَّل بأسلوب عاطفيّ، فلكي تحتضن موقف الحسين (ع) في كبرياء الموقف، إنساناً أكبر من الألم.
وبعد واقعة الطفّ، ينقل تاريخ السيرة الحسينيّة، أنّها وقفت بكلّ شموخ الإنسان القويّ الذي يشعر بأنّه لا يعيش حالة ذاتية، بل يعيش حالة رساليّة.
ولذلك، وقفت موقف القوّة إلى جانب موقف العبادة، ووضعت كفّيها تحت جسد الإمام الحسين ـــ كما تروي الرواية ـــ وقالت: “اللَّهمَّ تَقَبَّلْ منّا هذا القربان”، إنّه قربان الرّسالة، وقربان القضيّة في كلّ تفاصيلها، لأنَّ الإنسان الذي يعيش إشراقة الرسالة في قضيّته، لا يفقد إحساسه بالقضيّة، عندما يعيش في تفاصيل حركة القضيّة في ساحة الصّراع.
وهكذا، رأيناها عند ابن زياد في الكوفة، عندما وقفت وهو يحاول أن يتكلَّم بطريقة سلبيّة عن الإمام الحسين (ع)، وهو يقول لها: كيف رأيتِ صنع الله بأخيك ومرد العتاة من أهل بيته؟! قالت له: “هؤلاء قومٌ كتبَ الله عليهم القتلَ فبرزوا إلى مضاجعِهم، وسيجمعُ اللهُ بينَك وبينَهم، فتحاجّ وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذٍ، ثكلتك أُمّك يا بن مرجانة” .
إنَّني أتصوّرها وهي تختزن كلّ آلام المأساة، تقف لتُشعِر هذا الإنسان ـــ الذي يطلّ على النّاس بسطوته ـــ بأنّه حقير، أرادت أن تحقّره من حيث أراد أن يعظّم نفسه، ولذلك لم يجد جواباً إلّا أنّه أمر بأن تُقتَل، لولا أنَّ بعض أصحابه نصحه بغير ذلك.
وعندما وقفت في مجلس يزيد، وقفت بكلّ كبرياء المرأة الرسالية، وبكلّ عنفوان الإنسانة التي تعيش آفاق الرسالة في الحياة كلّها، وصلابة القوّة في موقفها، وهي المسبيّة ورأس الحسين أمامها، والأطفال والنّساء حولها، قالت له: “فَكِدْ كَيْدَك، واسْعَ سَعيك، وناصِبْ جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا” .
قالت له: إنَّنا أصحاب الرّسالة لا أنت، وإنَّ الموقع الذي تجلس عليه ليس موقعك ولكنّه موقعنا.. والله عندما حجب عنّا النصر، لم يحجبه مهانة بنا، ولكنّها سُنّة الله في الحياة، في موازين حركة القوّة والضّعف.
من خلال هذه اللّقطات الصّغيرة، نستطيع أن نستوحي زينب: المرأة التي تنتصر على ضغط العاطفة على مشاعرها، فتملك أن توازن عاطفتها، حتّى لا تتحرَّك عاطفتها لإسقاط موقفها، وزينب الإنسانة القائدة التي إذا لم يكن لها في مسيرة السبي، من كربلاء إلى الكوفة إلى الشام، لم يكن لها مَن تقوده من الرجال، ولكنّها كانت تقود القضيّة.
وهناك فرق بين مَن يقود الناس بدون قضيّة، وبين مَن يقود القضيّة ليفتح عقول الناس عليها. فالقيادة ليست حركة قوّة يسيطر فيها الإنسان على النّاس، ولكنّ القيادة حركة عقل ووعي وانفتاح على الواقع، من أجل أن تمنع الواقع من أن يسقط وينهار، أمام ضغط الّذين يريدون أن يصادروه.
لو قتل الحسين (ع) في كربلاء وأغلق الملفّ، لما حدث هناك شيء، ولكنّ زينب التي كانت تتحرّك بكلّ دراسة للموقف، وبكلّ وعي وبكلّ صلابة، كانت تعطي القضيّة من عقلها ووعيها وإحساسها وقوّتها الشيء الكثير.
*من كتاب “في رحاب أهل البيت (ع)”، ج 1.