بسم الله الرحمن الرحيم
والحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، وَأفَضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَى أَشْرَفِ خَلْقِ اللهِ وأعزِّ المُرسَلينَ سَيِّدِنَا وحَبيبِنَا مُحَمَّدٍ رسولِ اللهِ وعلى آلهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَأصحَابِهِ الأخيَارِ المُنْتَجَبين.
يُمثّل شهر رمضان المبارك، الموسم الإيمانيّ الكبير، الَّذي أتاحه الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين حتى ينفتحوا عليه، من خلال ما يتميَّز به من خصائص، تجعله أفضل الشُّهور على الإطلاق، فهو الشَّهر الَّذي نزل به القرآن الكريم، وهو الشَّهر الَّذي يفيض به الله عزَّ وجل رحمته ومغفرته على عباده الصائمين، مكافأةً لهم على طاعاتهم، لذلك علينا أن نحاول اغتنام هذه الفرصة قبل فواتها، لأنَّ من يخسر الموسم، يكون قد خسر خسارةً عظيمةً لا يمكن تعويضها.
كما أنَّ فيه ليلة القدر، الَّتي هي خيرٌ من ألفِ شهر، والَّتي ينفتح الإنسان من خلالها على الله، حيث أودَعَ فيها أسراراً روحيَّةً عظيمة، بحيث تُحدِد له أجلَه وتُحدّد له رزقه وصحَّته وعافيته ومرضه وموقعه ونصره وهزيمته، وغير ذلك من الأمور، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ {الدُخان:4}، لذلك علينا أن نحرص على إحيائها في المسجد، بالعبادة والصَّلاة والدُّعاء، حتى لا تفوتنا بركاتها، فنكون من الخاسرين.
وفي أجواء هذه الليلة أيضاً، تصادفنا ذكرى استشهاد أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب(ع)، أفضل الخَلق بعد رسول الله محمد(ص)، والَّذي قال عنه: عليٌ مع الحقّ والحقُّ مع علي يدور معه حيث دار. كما قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها. وفي حديثٍ آخر: إذا سلك الناس وادياً وسلك عليٌ وادياً فاسلك الوادي الَّذي سلكه علي. وعنه(ص): لولا أنّي أخاف أن تقول عنك الناس ما قالت النصارى في المسيح عيسى بن مريم لقلتُ فيك قولاً ما مررت بأحدٍ من المسلمين إلَّا أخذوا التراب من تحت قدميك تبرُّكاً كما قال في غدير خمّ: ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه. وغير ذلك من أحاديث الرسول(ص) في حقّه، والَّتي تُبيّن للمسلمين عظمته وشأنه وقربه من رسول الله(ص)، وأسبقيَّته على جميع الصَّحابة الآخرين مهما كانت أهميَّتهم وموقعهم في السَّاحة الإسلامية.
وعندما نعود إلى أحاديث علي(ع)، لنتلمس شخصيَّته من خلالها، نجد أنَّه يُمثّل القمَّة في العلم بعد النبي(ص)، وهو القائل: سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّي بطُرُق السَّماء أعلم مني بطُرُق الأرض. وتحدَّث عن قوَّة الرابط الَّذي يربطه بالله سبحانه وتعالى، وعن قوَّة شعوره بالمسؤولية تجاه الأمَّة: وَاللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ، وإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا. ثم يقول: ما لعلي ولذةٍ تفنى ونعيم لا يبقى.
وعند فجر التَّاسع عشر من هذا الشَّهر، كان علي(ع) يصلّي الصبح، فانقضَّ عليه الخارجي عبد الرحمن بن ملجم بسيفه وضربه على رأسه ضربةً هوى من خلالها على الأرض صائحاً: فُزتُ وربّ الكعبة.
وقد كانت هذه الضربة وليدة حرب صفّين، الَّتي أفرزت فئة الخوارج الَّذين حقدوا على أمير المؤمنين(ع) بعد ما جرى من رفع المصاحف، حيث قام ابن ملجم بتنفيذ جريمته الَّتي تُعدّ من أفظع الجرائم في التَّاريخ الإسلامي، ليخسرَ العالم الإسلامي باستشهاد علي(ع)، هذه القِمَّة الاسلامية الَّتي لا يرقى إليها أحد بعد رسول الله(ص)، وهو الَّذي عاش كل حياته من أجل الإسلام والرِّسالة، وقدَّم النموذج الخالد للأجيال والقادة، في كيفيَّة الارتباط بالقيمة على حساب المصلحة الشخصية، وقد عبَّر عن ذلك بقوله: قد يرى الحُوَّل القلب وجه الحيلة، ودونها حاجزٌ من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي العين وينتهز فرحتها من لا حريجة له في الدين.
لقد عمل علي(ع) من أجل حفظ الإسلام وامتداده واستمراريَّته من خلال حفظه لوحدة المسلمين، الَّتي كانت على مدى حياته، أولويةً بالنسبة إليه، ولذلك قال: لأسالمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جورٌ إلا عَلَيَّ خاصَّة.
وهو الإنسان الَّذي أعطى الإنسانية من خلال نهج بلاغته ومن خلال سيرته في تاريخ الاسلام، منذ انطلاقته مع رسول الله(ص) وحتى شهادته، الدرس والأمثولة الأروع، الَّتي لن يجود الزمان بمثلها.
ويكفينا لنفهم علياً(ع) أن نطلّع على وصيَّته الَّتي أوصى بها الحسن والحسين، حين وجَّههم للطريقة الَّتي يعاملون بها قاتله، فقال: يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون قتل أمير المؤمنين قتل أمير المؤمنين ألا يقتلن إلا قاتلي. فهو يوجّههم أن يمثّلوا منهج التَّشريع الإٍسلامي المتمثّل بآية: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ {البقرة:194} ففي القتل النَّفس بالنَّفس، مهما كان موقع كلٍ منهما، حتى لو كان الاعتداء على قائدٍ في موقعيَّة علي(ع)، فهو يُقدّم لنا هذا الدَّرس: أنظروا إذا أنا متُّ من ضربتي هذه فاضربوه ضربةً بضربة، ولا تُمثّلوا بالرَّجُل، فإني سمعت رسول الله(ص) يقول:”إياكم والمُثلة ولو بالكلب العقور”.
أيُّها الإخوة المؤمنون
كم نحتاج في هذا الزمن الى أن نستلهم علي(ع) في عظمته وإنسانيته وسموُّه الرُّوحي والاخلاقي والانساني، لأنَّنا نواجه نفس الخطر الَّذي واجهه أمير المؤمنين(ع)، لذلك علينا أن نستحضره لنسير في نهجه وخطّه، حتى مع أعدائه، حيث أنَّه نهى أصحابه في قلب معركة صفّين، عن سبّ أعدائهم، كما أنَّه تعامل بالرّفق مع الخوارج، رغم معارضتهم له، إلى أن بدأوا أعمال قطع الطرق والقتل للآمنين، وتحولوا الى مفسدين في الارض، عندها قام إلى حربهم، وكسر شوكتهم في معركة النهروان، بعد أن نصحهم ووعظهم وحذرهم.
ونحن عندما نطل على واقعنا الاسلامي نجد أنَ من أكبر المشاكل الَّتي نعانيها، هي مشكلة المسلمين الجَهَلة، الَّذين يحملون ذهنيَّة الخوارج.
فإذا كان الخوارج قد انتهوا كفرقةٍ في التَّاريخ، فإنَّهم مستمرون كنهجٍ وعقليَّةٍ وذهنيَّةٍ متخلّفة، حيث يتمثَّلون اليوم، بالجماعات التكفيرية، الَّذين لا يرعون في مسلمٍ إلّاً ولا ذمَّة، ويسفكون الدِّماء، فقد ساهموا في تمزيق البلاد الاسلامية، وهو الأمر الَّذي يستفيد منه أعداء الاسلام من المستكبرين الغربيّين والصهاينة. وقد ساهموا في تمزيق بلادنا في كلٍ من سوريا والعراق وليبيا ومصر وغيرها. لذلك لا بدَّ من مواجهة هذا الخطر وضربه، حتى لا يُسقط الواقع الاسلامي من جديد، خصوصاً أنهم يتلقَّون الدعم المباشر وغير المباشر من الكثير من القوى الإقليمية والدولية.
وقد شاهدنا في سوريا، طبيعة وحجم هذا الدَّعم والتَّسليح الَّذي تقدّمه أمريكا وتركيا والسعودية وقطر وغيرها من الدول، بهدف فرض السيطرة على هذا البلد. وقد كان لجهاد المقاومة، الدور الاساس في قطع دابر هذا الخطر، الَّذي يتهدَّد لبنان والمنطقة كلها في حال نجاحه في إسقاط سوريا، حيث أنَّ التضحيات الكبيرة الَّتي يبذلها المجاهدون، سوف تثمر نصراً يقضي على كلّ هذه الجماعات، ونحن نعلم أنَّ النصر لا يبزغ فجره إلَّا من خلال تحمُّل الجراحات والآلام، فهذا هو درس كربلاء، الَّتي تبقى تمدُّنا بكلِّ عوامل القوَّة والصَّبر والثَّبات.
أمَّا في البحرين، فقد كانت خطوة سحب الجنسية من أحد أبرز الرموز العلمائية هناك، الشيخ عيسى قاسم، خطوةً أخرى تمثّل كل الطغيان الَّذي ينطلق به الحكم الظالم في هذا البلد. وهي تمثّل تصعيدا كبيراً لا يمكن السكوت عنه، لأنه يمسُّ وجود هذا الشَّعب المؤمن المجاهد الصابر الَّذي تحمَّل الكثير من الظلم بصبرٍ وثبات، لكنَّه لا يمكن أن يسكت عن إستهداف قادته وعلمائه.
فبدلاً من السعي إلى اعطاء الحقوق ووقف الظُّلم الواقع على الشَّعب، من أجل تجاوز المشكلات فإنَّ هذه الخطوة تتجاوز كلَّ الخطوط الحمر، وتفتح الباب على تصعيدٍ كبير لا يُمكن معرفة كيف سينتهي.
إنَّ الظُّلم مهما تعاظم، والظَّالمين مهما طغَوا وتجبَّروا، فإنَّهم لن يستطيعوا قهر إرادة الشُّعوب، خصوصا تلك الَّتي تعلَّمت في مدرسة الامام الحسين(ع)، وسوف تُسقِط هذه الشَّعوب -بإذن الله عزَّ وجل- كلَّ المؤامرات، لأنَّ الله تعالى أخبرنا أنَّه من يتَّق ويصبر وينطلق في خطّ الله جلَّ وعلا، فسيُحقِّق النتائج الكبيرة وسيتخطَّى كلَّ التحدّيات والصِعاب إن شاء الله تعالى.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا*وَأَكِيدُ كَيْدًا*فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا {الطًّارق:15-16-17}
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ {التوبة:105}
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين