السيد الذي لا يهدأ

السيّد الّذي لا يهدأ

#مقال #سوسن_غبريس

#السيد_محمد_حسين_فضل_الله

#اقوى_من_الغياب

هو الرّجل الّذي ما كان يهدأ ولا يستكين، حتّى وقت الرّاحة عنده كان عبارة عن قراءة أو كتابة، كان ينظر إلى الوقت على أنّه استثمار من أجل العمل؛ العمل للإسلام وخدمة المسلمين، والارتقاء بالذّات، والنّهوض بالمجتمعات والأوطان.

هكذا قضى سماحة المرجع فضل الله (رض) سني عمره كلّها، مذ كان شابًّا في مقتبل العمر حتّى آخر حياته، وكلّما كانت المسؤوليّة تزداد، يزداد العمل عنده.

ومن المواقف الّتي تروى عنه، وتبرز مدى نشاطه وإخلاصه للعمل، وعدم الاستسلام لأيّ عوائق تعترض طريقه، أنّه كان في يوم من أيّام العام 1981 متوجّهًا بالسّيّارة مع مرافقيه نحو بلدة مشغرة البقاعيّة، للمشاركة في حفل ختاميّ بدعوة من إحدى شخصيّات المنطقة، إلّا أنّ الموكب تعرّض لحادث سير انقلبت على إثره السيّارة الّتي كان فيها، فما كان منه إلّا أن نزل منها، وركب سيّارة أخرى، مصرَّا على الاستمرار وحضور الحفل، وهكذا كان.

وفي مرحلة السّبعينات، حيث الحرب على أوجها في لبنان، والأوضاع الأمنيّة متدهورة، كان سماحته لايزال يسكن في منطقة النّبعة شرقي العاصمة بيروت، وفي أقسى الأوضاع، كان يقصد منطقة الحصين في كسروان، لإلقاء محاضرة لأشخاص لا يتجاوز عددهم الخمسة أحيانًا، وذلك لأنّ تركيزه كان منصبًّا على الجانب الدّعويّ الرّساليّ، حتّى لو عنى ذلك تكبّد العناء للوصول إلى شخص واحد.

يقول أحد أبنائه، إنّهم في تلك الفترة وما بعدها، كانوا لا يرون والدهم أحيانًا طوال اليوم، لتنقّله من مكانٍ إلى آخر، يلقي المحاضرات، ويعطي الدّروس، ويقوم بالكثير من النّشاطات والأعمال، حتّى إنَّه في كثير من الأوقات، لم يكن يعود إلى البيت قبل الفجر.

وفي العام 2005م، أصيب سماحته بالتهاب الرّئة، فطلب منه الأطبّاء الرّاحة وعدم مقابلة النّاس أبدًا ريثما يشفى، إلّا أنَّ السيّد المعتاد على الحركة الدّؤوب، أبى إلّا أن يستثمر الوقت حتّى وهو في هذه الحالة، فما كان منه إلّا أن أعدّ كتيّبًا في شرح أدعية الأيّام سمّاه “مع روحانيّة الزّمن”.

هو الّذي كان يعمل ويعمل، ويستغرب أن يكون هناك أيّام عطلة، لأنّه يؤمن أنّ الحياة للعمل وليست للتَّعطيل، حتّى إنّ الفرصة الوحيدة له لأخذ إجازة من العمل، كانت عندما يمرض مرضًا شديدًا يقعده عن الحركة والنّشاط.

وكان يقول للّذي يطلب منه أن يرتاح قليلًا، إنّ هذا ما يبقى بعد رحيلنا، ونحن في سباق دائم مع الزّمن، وعلينا الاستفادة من كلّ لحظة.

يصف أحد أبناء السيّد حركة والده اليوميّة فيقول: كان السيّد يصحو على صلاة اللّيل، ثمّ ما يلبث أن ينام قليلًا، ليصحو على صلاة الصّبح، ثمّ يعطي الدّرس اليوميّ في بحث الخارج، وبعد قراءة الجرائد اليوميّة، يتناول طعام الفطور، مستغلًا الوقت في الاستماع إلى الأخبار…

ثمّ يتحضّر لاستقبال النّاس، بعدها يذهب إلى المسجد لصلاتي الظّهر والعصر، ليعود بعدها إلى البيت وتناول طعام الغداء.. قيلولة قصيرة، ويستأنف بعدها استقبال النّاس حتّى موعد صلاة المغرب، بعدها يلجأ إلى القراءة ويبقى حتّى منتصف اللّيل، وهكذا…

هو السيّد الّذي أعطى في يوم أحدٍ واحد أكثر من ستّ محاضرات في أمكنة مختلفة، وكان دائمًا يردّد: “ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النّيّة”.

إنّ كلّ يوم من حياة السيّد (رض) كان عبارة عن عمل، هو الّذي آمن بأهميّة العمل، ورأى أنّه الطّريق للارتقاء وتحقيق الأهداف في الحياة، فعمل بكلّ جهده، ولم يوفّر دقيقة من عمر الزّمن دون الاستفادة منها واستغلالها لما ينفع البلاد والعباد.

فجزى الله كلّ خير عالِمًا أدرك معنى الآية القرآنيّة: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}، وعاش كلّ عمره يجسّد معنى هذه الآية واقعًا.

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …