بنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الثالث والسبعين بعد الاربعمئة على التوالي.على وقع هتافات المحتجين في المحيط، ورشقات البيض التي قُذفت بها بعض مواكب السياسيين، انعقدت أمس جلسة الحوار الاولى، من طبعة 2015، بين قادة الكتل النيابية في مقر مجلس النواب.
وليس أدلّ على خوف السلطة من شعبها، إلا تلك الأسوار الحديدية والأسلاك الشائكة التي ارتفعت في وسط بيروت، وآلاف العسكريين الذين تحولوا إلى حراس للمجتمعين نهارا في مجلس النواب ومساء في مجلس الوزراء، لكأن تلك البقعة الأمنية التي لا تتجاوز مئات الأمتار المربعة، هي بقعة مخصصة لإيواء الخائفين على عروشهم وكراسيهم وعلى منظومة مصالحهم الواحدة الموحدة.
هو مأزق السلطة التي فقد أهلها الثقة بعضهم ببعض، حتى من ضمن الفريق السياسي الواحد.
مأزق لخصته تلك المواكب التي كانت تحاول الوصول الى ساحة النجمة خلسة فرفع معظم ركابها اللوحات الزرقاء عن سياراتهم، خشية أن تصيبهم بيضة أو إهانة، لكن معظم المتحاورين بلغتهم شظايا الحراك الشبابي النهاري مباشرة أو عبر الشاشات المواكبة.
وإذا كانت اللحظة استثنائية ودقيقة، فإن الجلسة الاولى للحوار أتت عادية وباهتة، قياسا الى التحديات الماثلة في الشارع والسياسة، بل ان أحد المشاركين فيها لم يتردد في التأكيد لـ «السفير» انها كانت هزيلة ودون المستوى، فيما اعتبر زميل له ان ما حصل لم يكن أكثر من «طق حنك»، واعترف آخر بأنه شعر بـ «القرف»..
ووسط استمرار حالة الاختناق الداخلي بفعل غبار العواصف السياسية، نجح الحراك المدني في تحقيق اختراق جديد من خلال دفع الحكومة نحو اعتماد خيار «لا مركزية» معالجة النفايات، عبر البلديات واتحادات البلديات التي سيكون لها الدور الحيوي والمركزي في «المرحلة المستدامة» بعد انتهاء المرحلة الانتقالية التي تمتد على فترة عام ونصف العام سيتم خلالها نقل النفايات الى مطمرين صحيين في سرار – عكار ومنطقة المصنع في سلسلة جبال لبنان الشرقية، إضافة الى إعادة فتح مطمر الناعمة لسبعة أيام فقط، واستخدام معمل صيدا لاستقبال جزء من الكميات خلال الفترة الانتقالية، واستكمال استخدام مكب برج حمود وفق ما يخدم انماء المنطقة بالتعاون مع البلدية والجهات المعنية، حسب الخطة التي أقرتها الجلسة الاستثنائية لمجلس الوزراء أمس، بحضور «مقنن» لـ «التيار الوطني الحر» و «حزب الله».
ولئن كانت الخطة قد لاقت تجاوبا من القوى السياسية الممثلة في الحكومة، إلا ان الاختبار الفعلي يكمن في ترجمة القبول النظري بها الى خطوات عملية على الارض، لاسيما إذا برزت اعتراضات شعبية في بعض المناطق على الخطة، حيث ستخضع الاطراف السياسية في هذه الحال الى امتحان للمصداقية ولمدى جديتها في دعم قرارات مجلس الوزراء.
كما ان قرارات الحكومة ستكون موضع اختبار في الشارع، سواء لجهة موقف الحراك المدني، او لجهة رد فعل الاهالي في المناطق التي تم اختيار نقاط فيها لطمر النفايات خلال الفترة الانتقالية، علما ان مجلس الوزراء حاول من خلال التنويع في اختيار المواقع، الايحاء بتوازن في توزيع النفايات، على قاعدة ان المساواة في الطمر.. عدالة.
مراوحة الحوار
في هذه الأثناء، بدا أمس ان الجالسين حول طاولة الحوار لم يلتقطوا، بالجدية المفترضة، رسائل الشارع وإشاراته العابرة للساحات، فاستمروا في الاجترار والتكرار، من دون تقديم أي فكرة جديدة او إظهار قدر أعلى من المسؤولية. أعادوا تظهير صورهم القديمة، واستعادوا مفرداتهم الممجوجة، وكأن كلا منهم كان يخاطب نفسه في المرآة، ولا يناقش الآخر بحثا عن قاسم مشترك.
صحيح انه لا يجوز توقع الكثير من الحوار في بداياته، ولكن الصحيح ايضا ان المتحاورين لم يبذلوا في الجلسة الافتتاحية أي جهد لتقديم أنفسهم بطريقة جديدة، ولم يعطوا أي إشارة الى انهم بصدد مقاربة مغايرة للأزمات والملفات التي تلقي بثقلها على اللبنانيين.
لم يرتق المتحاورون في اطلالتهم الاولى الى مستوى الحد الادنى من تطلعات الناس الذين توقعوا مسبقا، بالفطرة والخبرة، ان يكون الحوار في نسخته الجديدة، امتدادا للتجارب المريرة السابقة.
هذه المرة، يمكن القول ان الناس، خصوصا المشاركين في الحراك المدني، حصنوا أنفسهم ضد الاوهام، ورفضوا ان يقعوا مجددا في فخ بناء الآمال الواهية على طبقة سياسية مجربة، وفاقدة للمصداقية.
وحتى الوقت، تعاملت معه طاولة الحوار بشيء من الخفة وبرودة الاعصاب، بعدما تقرر عقد الجلسة المقبلة، الاربعاء المقبل، بدل تكثيف الجلسات وتحويل هيئة الحوار الى «هيئة طوارئ».
ولم يظهر من معطيات الجلسة الاولى ان هناك إمكانية لدى طاولة الحوار لإحداث خرق في جدار البند الرئاسي، خصوصا ان أحدا من المتحاورين لا يملك مبادرة او أفكارا لحل واقعي، فيما يبدو ان الطاقة القصوى للخارج في هذه المرحلة لا تتعدى إطار مباركة الحوار، من دون طرح مخارج او تسويات، لم يحن أوان نضوجها بعد.
وقالت مصادر حزبية شاركت في جلسة الحوار لـ «السفير» انه أمكن من خلال النقاش، فرز ثلاثة اتجاهات هي:
الاتجاه الاول، يدعو الى انتخاب رئيس جمهورية توافقي فورا، من خارج مفهوم «الرئيس الأقوى»، وهذا الخط يمثله «تيار المستقبل» وحلفاؤه في «فريق 14آذار».
الاتجاه الثاني يعتبر ان المجلس النيابي الحالي لا يمتلك شرعية انتخاب رئيس الجمهورية بعدما سقط التفويض الشعبي الممنوح له مع التمديد الاول للمجلس عام 2013، ما يستدعي تجديد هذا التفويض من خلال انتخابات نيابية على اساس النسبية او انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب، وهذا الخيار يعكس موقف العماد ميشال عون وحلفاؤه.
الاتجاه الثالث، يدعو الى الاتفاق على ما يمكن التفاهم عليه من أمور كتفعيل الحكومة او معالجة الملفات التي تهم المواطنين، ما دام ان التوافق على رئاسة الجمهورية او قانون الانتخاب النسبي لا يزال متعذرا.
وتشير المصادر الى ان تأجيل الحوار اسبوعا يوحي بان الامور تحتاج الى اتصالات ومشاورات، خارج أروقة قاعة الاجتماع في مجلس النواب.
«الحراك» صامد
ولعل ما صعّب مهمة «الأستاذ»، برغم «خبرته التاريخية»، هو وجود شريك مضارب على الطاولة، لم يكن موجودا في الحوارات السابقة. هذا الشريك هو الناس الذين كسروا حاجز الخوف في التحركات السابقة، وبدأوا يبلورون شعاراتهم ومطالبهم أبعد من عنوان النفايات، وبدأ الجميع يحسبون حسابهم، الى حد أن الحوار الذي كان مقررا أن يكون يوميا وبمعدل جلستين نهاريتين، تحول الى حوار أسبوعي، ربما لاعتقاد البعض أن عامل الوقت كفيل بانهاء حركة الشارع تدريجيا.
غير أن القيمين على الحراك الشعبي، وبرغم تقديراتهم المتحفظة، بفعل العاصفة الرملية، خرجوا ليل أمس من ساحة الشهداء بانطباع ايجابي، خصوصا وأن الحشد كان أكثر من المتوقع قياسا الى الظروف المناخية السيئة، وأمكن رصد عناصر عدة لافتة للانتباه أبرزها بدء تبلور حالة قيادية عبّرت عن نفسها في التنظيم المتقن والشعارات التي غلب عليها الطابع السياسي.
ورُصدت مشاركة أوسع لقطاعات المهندسين والأطباء والمحامين في الحراك، بحيث سيصار الى التعبير عنها بتحركات قطاعية قريبة حول عناوين محددة مثل الأملاك البحرية والمشاعات والكهرباء والمستشفيات والضمان الاجتماعي الخ.. وذلك في موازاة استمرار التحركات المناطقية والمزيد من انخراط الجاليات اللبنانية في الخارج بالتحرك، وخصوصا في أوروبا وأميركا وأوستراليا.
ومثلما واجه الحراك على مدى أكثر من شهر الكثير من التحديات، فان ثمة خروقات تسمح للمنظمين بالتفاؤل، وأبرزها: وزير الزراعة أكرم شهيب يركز في خطته التي عرضها أمام مجلس الوزراء على تفعيل دور البلديات في موضوع النفايات، أما وزير المال علي حسن خليل، فيريد إعادة أموال البلديات إليها، وهذان إنجازان يفاخر أهل التحركات بتحقيقهما، برغم أنهما ما يزالان في إطار الكلام ولم يتحولا إلى أفعال.
واذا كانت أولوية أهل الحوار هي تطويق التحركات الشعبية، قبل ان تكبر كرة الثلج ويصبح من الصعب احتواؤها، فان شعارات بناء الدولة ووضع قانون انتخابي نسبي وتطبيق الدستور والقوانين، باتت تتقدم على شعار النفايات ـ شرارة التحرك، لكن الرهان الأكبر، كما يقول أحد الناشطين في الحراك «هو على عجز الطبقة السياسية وافلاسها، بدليل أن أقطابها أقروا بذلك بعد خروجهم من جلسة الحوار الأولى».
المصدر: السفير