السفير

سامي كليب
لم يتغيّر سوى ستائر النوافذ في مكتب الطابق السادس. تغيّر الوطن مرات. عصفت الرياح بأوطان عربية كثيرة. هو لا يتغير. هبّت على «السفير» عواصف أخطر. تجاذبتها أطماع وأقاليم واغراءات. هاجمتها وحوش السياسة والمال. استفادت من بعض المال، لكنه لا يتغيّر. قلبه يغلب عقله. عقله يتمرد على الواقع.

ينكسر الواقع عند نزلة السارولا ولا يعرج يساراً. هنا الابواب موصدة. لم تصدق في عزّ جور الاجتياح الاسرائيلي، ولم تصدق في أخطر الاجتياحات الاخرى، ولا في عصر هزائم اليسار والقوميين والحركة الوطنية ومنظمة التحرير. ولم تصدق حين اخترقت الرصاصات الصوت في الوجه البقاعي، لم ولن تصدق أن ثمة من يغيّر وجه العروبة هنا في الطابق السادس.
وفي الطابق السادس. لا يزال شيء من طيبة ابن الدركي، وأشياء كثيرة من عنفوان ابن البقاع، وأشياء أكثر من ذكريات الترحال في الوطن العربي. هنا يجتمع رفات ما بقي من هذا الوطن، ثم يتلاصق تحت قلم الجالس في الطابق السادس، على أمل ان يلتحم يوماً.
في الطابق السادس. لا يزال الشاب نفسه يجلس خلف مكتبه القديم. تتكدس أوراق صفراء على المكتب. تتجمّع آخر الكتب المهداة إليه في المكتبة المتواضعة على يمينه. يقبض على القلم بالابهام المتكور على نفسه، والسبابة التي منحها الزمن بعض تكور ويكتب….
يكذب علينا انه دخل في خريف العمر. لا نصدق. أطرح عليه، مثلاً، سؤالاً عن مصر. ينتفض كشاب في مقتبل العمر. يبتسم. ينقر على سيجارته ليخلصها من بعض ما احترق. يخرج الصوت رخيماً، لكن بصعوبة، كأنما الصوت يصطدم بكل دهاليز العمليات الجراحية التي انقذته من الموت. كاد يموت حين لم يجد ذاك المجرم المعروف حواراً سوى بالرصاص. لا بأس إن صغر حجم الفم وصعبت حركة الفك. الصوت لا يزال هو هو.
تنفتح الذكريات على الاصدقاء والرفاق. يتعرّج الحديث من عبد الناصر الى ام كلثوم والسنباطي، الى العروبة وهيكل. يمر على الاخوان ويستقر عند السيسي. يتعرج الحديث كأنك به يمر الآن بين أزقة خان الخليلي يلقي السلام على نجيب محفوظ، او يضع وردة على قبر احمد فؤاد نجم وشيخ امام. هنا في الطابق السادس، يعانق التاريخ الحاضر، ويتلاقح الادب والسياسة فينجبان شيئاً لا تجده الا في الطابق السادس.
يريد ان نصدق انه فقد رونق الحياة. لا نصدق. اذهب معه، مثلاً، الى سهرة في بيروت. يلمع بريق الحياة في عينيه. يدندن مع المغني. يحيِّي اصل من علمه الغناء. يقلِّب ناظريه بين انامل العازف وعيون الساهرين والساهرات، وخصوصاً الساهرات. قد يقوم من مكانه ليشارك الجميع فرحهم. يعود شاباً في العشرين او قل أقل…
يقلق على سوريا، فتجنح الكتابة قليلاً. يُلام فيبرِّر. يقلق على حزب الله. لا تجنح الكتابة أبدا. يحترس من تقلبات الاولى، ويتعمّد التمسك باليقين في مستقبل الثاني. تنفتح أبواب «السفير» لمن هم من غير أهلها. يأتي سفراء غربيون، يأتي مسؤولون من الطامحين لقتل سوريا والمقاومة. لا بأس، يريد ان يفهم. تقلقه اصابع الفتن المذهبية. تذبل الاحلام الكبيرة. ينفتح الطابق السادس لوزراء جدد لا يعرفون عن الوطن العربي اكثر من Arabs got talent. يعض على الجرح. يبتسم. يسمع. ثم يبتسم. وحين يبعث الليل اشارات التنبيه. ينتهي المقال. لا بد للصحيفة ان تخرج في الصباح. تعود الاحلام للانتعاش برغم كل شيء.
اربعون عاما من عمر «السفير». هي قد تشيخ يوماً. هذا هو المقلق. اما هو، فلا. هذا هو الرهان والامتحان. في الطابق السادس أسرار كثيرة وذكريات. فيه أقلام استقالت فخرج بعضها الى السياسة، وبعضها الى المال، وآخرون صوب حلم آخر. في الطابق السادس لا تزال العروبة تضجّ بالحياة. لا يزال الامل كبيراً برغم كل شيء. لا تزال النكتة حاضرة تغالب يأس الواقع. لا تزال النوادر كثيرة تتمرد على الحاضر.
في يوم صدورها قبل 40 عاما، كادت «السفير» ألا تصدر. تعطّلت المطبعة. نقلوا الطباعة الى مطبعة اخرى. تعطّلت الاخرى. عضّ الرجل على الجرح والقلق واليأس حتى خرجت بأعجوبة. بكى. اليوم يضحك وهو يروي ذاك التاريخ. وغداً سيضحك حين يروي واقعنا اليوم .
اصابت «السفير» مراراً، وأخطأت قليلاً. احتاجت مراراً وترفَّهت قليلاً… لا بأس. لا تزال المسافة بين المال والعروبة كبيرة. لا تزال العروبة هناك في الطابق السادس مستلقية على الكنبة الخضراء، وعليها شال من حرير الحروف، وعليها انامل ناجي العلي، وعليها تاريخ من الابداع والصبر والجمال والنضال.
غريب أمر ذاك الرجل الجالس خلف مكتبه في الطابق السادس. كيف يبقى شاباً؟ من أين يأتي بكل تلك القدرة والارادة ليتغلب على نوائب الزمن… ويكتب؟ أهذا عنفوان الشباب؟

المصدر: الأخبار

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …