الرحمة بين النظرية والتطبيق

عقدت جمعيّة المبرّات الخيريّة مؤتمرها التربوي الرابع والعشرين بعنوان “الرسول الأكرم القدوة في التربية والتعليم مفهوم الرحمة بين النظريّة والممارسة”، في قاعة الزهراء الملحقة بمسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، وذلك بحضور فاعليات تربوية واجتماعية وأكاديمية ودينية، وحشد من تربويّي المبرّات من مختلف مؤسساتها المنتشرة في لبنان.
السيّد علي فضل الله
بداية النشيد الوطني اللبناني، ثم كلمة لراعي الحفل رئيس جمعيّة المبرّات الخيريّة سماحة العلّامة السيّد علي فضل الله جاء فيها: “عندما تنعدم الرحمة فتكاد الحياة أن تكون جحيماً وأمراً مستحيلاً، ويكفي أن تتصوروا كوناً بلا رحمة لتعرفوا معنى هذه القيمة، أن تتصوروا حياة بدون أمهات أو بدون آباء أو بدون رب رحيم، أو مديراً يضغط على عماله أو يترصد أخطاء من هم تحته، رئيساً لا يعبأ بحاجات عماله ولا يبالي بهمومهم وآلامهم، تصوروا كيف سيكون المجتمع عندها، مجتمعاً تضج فيه الأنانيات والعصبيات، مما يولد مؤسسة مضطربة أو مجتمعاً مشجوناً بالتوتر أو وطناً غير مستقر”.
وأضاف السيّد فضل الله: “إننا في مرحلة نحن أحوج ما نكون فيها إلى تعزيز مفهوم الرحمة، إلى استعادته بعدما طغى العنف على بلادنا وطغت القسوة على واقعنا. وتسللت إلى عقولنا وقلوبنا وتلبدت بسببها مشاعرنا، حتى بتنا لا تهزنا المجازر ولا توقظ أحاسيسنا آلام الناس من حولنا ومعاناتهم، وإذا هزت فهي تهزنا للحظات، ولا أدري إذا كانت مشاعر العالم العربي والإسلامي قد اهتزت فعلاً عند رؤية مشهد الطفولة الملقاة على شاطىء البحر في تركيا، وهو مشهد يتكرر في أكثر من بحر ومحيط لأطفال سوريا، وما يصيب بلداننا من مأساة في الداخل تدفع الكثير للمخاطرة بكل ما يملكونه، إضافة إلى ما يجري من قتل متعمد للطفولة في فلسطين. كل ذلك يحدث فيما الأمة كلها في حالة صمت والجامعة العربية تتفرج على مأساة هؤلاء دون أن تحرك ساكناً، هذا فضلاً عن سكوت وصمت منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة وكل المؤسسات الدولية”.
وتساءل “هل أن ما نشهده في الواقع العربي والإسلامي من عمليات قتل وذبح تمتّ إلى الدين بصلة”، وقال: “الجواب على ذلك واضح، إن ما يجري لا يمت إلى حقيقة الدين ولا إلى جوهره وتعاليمه، فالذين يفتون بذلك لا موقع لهم من الفتوى، وإن ما يجري هو نتاج عصبيات وأحقاد ومشاريع دول تغلف نفسها باسم الدين، فتتغطى بثوبه لأنه جذاب، وهي تأخذ من الدين ما يناسبها، هي تأخذ من الدين آيات وأحاديث الحرب ولا تأخذ منه آيات وأحاديث السلم، تأخذ من الدين العنف ولا تأخذ منه الرفق، هي لا تأخذ من الدين حواريته وانفتاحه، هي لا تأخذ منه سلمه مع كل الذين يختلفون معه ما داموا لا يعتدون ولا يمنعون أهل الدين من التعبير عن دينهم”.
الدكتور محمد باقر فضل الله
ثم كانت كلمة لمدير عام جمعيّة المبرّات الخيريّة الدكتور محمد باقر فضل الله هنأ فيها طلاب المبرّات الناجحين في الامتحانات الرسميّة، قائلاً: “ها هو حصاد مدارس المبرّات ومعاهدها يطل عيداً كما في كل عام عيد النجاح والتفوق في امتحانات الشهادات الثانوية والمتوسطة والمهنية، لقد تخرج من شهادات الثانوية العامة 473 خريجاً وخريجة مع تقديرات 151 مرتبة جيد جداً إلى جيّد، ونجح 1246 في الشهادة المتوسطة بتقديرات 437 بين جيد جداً وجيّد، ونجح 452 في الشهادات المهنيّة منهم 12 أوائل في اختصاصات متعددة. وهنا أود أن ألفت للأعداد الكبيرة التي تخرجها مدارس المبرات ومعاهدها وفي خريجيها تلامذة الدمج التربوي الذين ترعاهم المدرسة حتى يتخرجوا بشهادات ثانوية أو مهنية، كما نلفت إلى أن هناك 79 خريجاً من الأيتام في المؤسسات الرعائية مع درجات تفوق”.
ثم عرض لبعض التوجهات التربوية للعام الدراسي مستهلّاً ذلك بالحديث عن التربية الإدماجيّة، قائلاً: “هذه المقاربة كانت مدارس المبرات سبّاقة على مدى ست سنوات إلى تطبيقها وذلك بعد أن لمسنا الأثر الإيجابي لها على صعيد تنمية مهارات التفكير والتعبير اللغوي لدى المتعلمين، إضافة إلى إغناء القاعدة المعرفية لهم وربطها بمتطلبات الحياة اليومية”.
وأضاف: “لذا قرّرنا تطبيق التعليم والتعليم الإدماجي، لمرحلتين خلال العام الدراسي مما يشكل تجدداً وتطويراً للمقاربات التعليمية ما يضمن المحافظة والتعزيز للأهداف المحققة أو المكتسبات التي حققتها التلامذة”.
ثم تحدّث عن “دور الأهل كشركاء في التربية، فدعا “جميع المعنيين في المؤسسات لمراجعة شاملة لكل الإجراءات وآليات التواصل المتعلقة باستقبال الأهل والإصغاء النشط لمراجعاتهم ووجهات نظرهم واقتراحاتهم التحسينية، والتطلع إلى أي مدى تعطي الإجراءات والآليات المجال الكافي والمحفّز للأهل للتواصل الإيجابي والمثمر مع المؤسسة وإلى أي مدى يشعرون أنهم محور الاهتمام والتقدير من جميع الذين يتواصلون معهم، بدءاً من دخولهم أبواب المؤسسة إلى مكتب التسجيل وأمانة الصندوق والناظر والمنسّق والمدير”.
ولفت إلى: “حصاد حلقات التفكر التي تم تنظيمها في المؤسسات حول عوائق العمل واقتراحات التحسين” فأشار إلى أنه “تم بحث ومناقشة خلاصة التقارير وقد أظهرت أن هناك تحديات مشتركة أساسية وردت تقريباً في كل التقارير إن على صعيد المنهاج، وعملية التحصيل المدرسي، والنصاب التعليمي، وتعويض العطل القسرية”.
وتطرّق الدكتور فضل الله إلى “دور المبرّات في تخفيف الآلام الناس ومعاناتها الاقتصادية والنفسيّة والبيئية” فقال: “المبرّات كانت ولا زالت السبّاقة في وضع البرامج المرتبطة بالدعم النفسي إضافة للدعم التعليمي والنمائي لمساعدة التلامذة والأبناء وأسرهم على تخطي العديد من الأزمات والصدمات التي يواجهونها”. وأضاف: “نحن في المبرات التي انطلقت في مسيرتها من احتضان الأيتام ستبقى الحصن الحصين والملاذ الآمن لمجتمعها تمارس العطاء من دون حدود تسارع إلى الخيرات، وانطلاقاً من اهتمامات الجمعية والواقع الاقتصادي الصعب تم تأسيس صناديق للتكافل الاجتماعي في المؤسسات لتساهم في تخفيف أعباء وضغوطات على الأفراد في أسرة المبرات”.
ودعا الدكتور فضل الله إلى اعتماد التربية الإعلاميّة في المؤسسات التربوية قائلاً: “لا بد أن نطلّ في توجهاتنا على الإعلام الذي أحكم سيطرته على العالم مسلياً ومربياً ومعلماً وموجهاً، وها هو يظهر كل يوم بوجه جديد وأسلوب مبتكر وبتقنيات مدهشة متجاوزاً حدود الزمان والمكان ما جعل التربية بوسائلها المحدودة تفقد السيطرة في أكثر الأحيان على أرضيتها وأصبح الإعلام يملك نصيباً هاماً في التأثير والتوجيه والتربية، لذلك من الضروري تعليم تلامذتنا وأبنائنا مهارة التعامل مع الإعلام وتحصينهم في مواجهة الانفلات الإعلامي وتعريفهم الأسلوب الأمثل للتعامل مع وسائل الإعلام وتدريبهم على تحليل المحتوى الإعلامي والانتقاء والتحرر من الإنبهار بالتكنولوجيا والتأكد من صحة المصادر”، وأضاف: “إن من الواجب تعريف الطلّاب على مصادر النصوص الإعلامية وأهدافها السياسية والاجتماعية والتجارية والثقافية، وتدريبهم أيضاً على التحليل وتكوين الآراء النقدية حول مواد الإعلام، وحبذا لو تدربونهم على إنتاج الإعلام الخاص بهم وتعليمهم تقنية فهم وتفسير الرسائل والقيم التي تقدّم من خلال البرامج، وصولاً إلى مساعدتهم على المشاركة العملية في الإعلام عبر الحوار والتعبير عن الذات وإنتاج المضامين الإعلامية وبثّها”.
وتوقف فضل الله عند ما يفرزه المشهد السياسي من عنف فقال: “لا بد من التأكيد على الاستمرار بسياسة الانفتاح التي أرادها المرجع المؤسس لتبقى المبرات تمثل الصورة الحضارية بمخرجاتها الإنسانية. كما يغدو ملحّاً في ظل كل ما يجري الاستمرار في تدريب تلامذتنا على ثقافة الحوار ونبذ العنف والتسامح وتأصيل مفهوم الرحمة نظريةً وممارسةً، وقبول الاختلاف والمصالحة مع الذات ومع الآخر”.
وأضاف: “من الطبيعي أن نربي أبناءنا بأن يكونوا فخورين بهويّتهم ومعتقدهم وأن يقدموا ما يؤمنون به، ولكن أن يكونوا عند الاختلاف أكثر إنسانية وأكثر قرباً وانفتاحاً وانطلاقاً إلى الفضاء الواسع، إلى رحاب الحق والعدل والخير كل الخير لجميع الناس”.
ندوة حواريّة
بعد ذلك، قدّمت الفرقة الإنشادية في جمعيّة المبرّات فقرة فنيّة بعنوان “طلّاب المعالي”، فإعلان لأمانة سرّ المؤتمر عن نتائج مسابقة أجمل نشاط يجسّد عنوان المؤتمر، ليُختتم المؤتمر بندوة حواريّة بعنوان “مفهوم الرحمة بين النظرية والممارسة” أدراتها مديرة ثانوية الرحمة السيّدة نضال جوني بمشاركة رئيس جامعة المقاصد الدكتور هشام نشابة والمدير الشريك لشركة QMI الأستاذ محمد فواز.
أشار الدكتور نشابة في كلمته إلى أن: “الرحمة من كليات الدين التي يجتمع عليها المؤمنون، فقد كتب الله على نفسه الرحمة، ورسولنا صلوات الله وسلامه عليه رحمة مهداة”. ثم توجّه للمعلمين قائلاً: “خففوا عن تلامذتكم من عناء التعلّم بالرفق بهم، والصبر عليهم، والتقرّب إليهم بما يحبّبهم بالعلم، ولكم في رسول الله أسوة حسنة، فقد أشفق على أمته في كثير من واجباتهم تجاه ربهم وتجاه المجتمع”.
وأضاف: “إياكم والقسوة أو العنف والتعنيف مع أبنائنا، فهم أبناؤكم. وإن أطاعوكم اليوم خوفاً من قسوتكم وتعنيفكم فإنهم سيتمردون عليكم يوم يتقدّمون في العمر، فيخرجوا عن طاعتكم. وستترك قسوتكم معهم في الصغر، آثاراً نفسية وسلوكية تسيء إليهم وإلى من حولهم”.
وختم الدكتور نشابة قائلاً: “إن أولياء هؤلاء الأولاد الأعزاء قد أرسلوا أولادهم إليكم لتتعهدوهم بالرحمة والمحبّة لا بالقسوة والعنف. لقد ولّى الزمان الذي كان المعلّم الناجح الذي يقسو على الأولاد، ويلقى من الأولياء التقدير والاحترام”. ثم تحدّث المدير الشريك لشركة QMI الأستاذ محمد فواز عن مفهوم الرحمة في الإدارة داعياً إلى ضرورة نشر ثقافة الرحمة في الإدارات، معتبراً القيمة الأساسيّة في الأنظمة الإدارية هي قيمة الرحمة.

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …