مرة جديدة تسود الحسابات الخاطئة الساحة السياسية اللبنانية، فيما البراكين المشتعلة في الشرق الاوسط تقذف حِممها في اتجاه لبنان. هكذا مثلاً يُعاد فتح ابواب الاغتيال ويتصاعد مسلسل التفجيرات الارهابية، ويُعتقل أمير “كتائب عبدالله عزام” الذي كان يتجوَّل بحريّة وشبه اطمئنان، ويتوسَّع الفلتان الامني ليصل الى بيروت والجنوب بعدما كان حكراً على جبهات طرابلس وجرود عرسال، ويظهر انتحاريون لبنانيّون جدد ما يُبشِّر بالدخول في العرقنة من الباب الواسع، كل ذلك فيما الصورة تقف عند مشهد ولادة الحكومة وفق الصيغ “العجيبة” الجاري تسويقها، حاجبة الرؤية عن المشهد الابعد والذي يُهدِّد فعلياً الكيان اللبناني.
وبات واضحاً أنّ استقالة الرئيس نجيب ميقاتي منذ نحو عشرة اشهر مدعومة بتشجيع الرئيس ميشال سليمان والنائب وليد جنبلاط، إنّما حصلت على اساس حسابات النزاع في سوريا وليس وفق العناوين اللبنانية الداخلية. لذلك ربما لم تنجح خطة أخذ “حزب الله” بالحيلة و”تهريب” ولادتها خلال الاشهر الاولى من تكليف تمام سلام تأليفها.
كثير من المعطيات استجدَّت فيما بعد وأخذت الامور في اتجاهات اخرى: تراجُع جنبلاط وعودته الى مربع “حزب الله”، الانقلاب الكبير في المنطقة اثر التقارب الاميركي – الايراني، وسقوط احتمالات التمديد الرئاسي بعدما لعب هذا العامل دوراً في الحسابات الحكومية مرة في اتجاه حتمية التأليف ومرات في اتجاه افساح الوقت للمزيد من الدرس، او بعبارة اصح للتفاوض واستدراج العروض.
لكنّ العنوان الابرز للمسألة الحكومية بقيَ مرتبطاً في شكل اساسي بتطور النزاع العنيف الدائر بين ايران والسعودية. ومن خلال هذه الزاوية، جرى دفع الامور في اتجاه حتمية ولادة الحكومة الحيادية، كما يسميها البعض، وحكومة الأمر الواقع كما يُسمّيها البعض الآخر، في مهلة لا تتعدى العاشر من الشهر الجاري.
لكنَّ الصورة تبدلت بعدما تدخلت واشنطن وأعلنت موقفها: الاستقرار في لبنان يشكل الاولوية المطلقة. لذلك يخطئ مَن يعتقد أنّ انفجار بئر العبد هو السبب في صرف النظر عن تأليف الحكومة. قد يكون ذلك هو الذريعة للتراجع لكنّه بالتأكيد ليس السبب.
وخلافاً لما كان قد ابلغه رئيس الجمهورية الى بعض الاطراف، بأنّ واشنطن وباريس تؤيدان بشكل كامل تأليف الحكومة الآن، جاء كلام السفير الاميركي في بيروت ديفيد هيل عن أولوية الاستقرار واضحاً. لكنّ المسألة ليست مرتبطة فقط بأولوية الاستقرار على اهميتها، بل بحسابات اخرى لا تقل اهمية.
ذلك أنّ هنالك تساؤلات كثيرة في الاوساط الديبلوماسية عن إهمال ملف الانتخابات الرئاسية، لدرجة أنّ احد السفراء الاساسيين تساءل عن اسباب هذا “الاستسلام” اللبناني لفكرة الفراغ وعدم الشروع جدياً في تأمين ظروف انجاز انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
ويقرأ هذا السفير الاندفاعَ وراء معركة ولادة الحكومة، بمثابة الاقرار الواضح بعدم حصول الانتخابات الرئاسية والدخول في الفراغ، طالما أنّ الجميع يتحدث عن صلاحيات رئاسة الجمهورية في مرحلة الفراغ.
صحيحٌ أنّ العواصم الغربية ما تزال تسعى لإحداث خرق جزئي ما بين ايران والسعودية يطاول ترتيب الوضع اللبناني، في شكل منفصل عن التطورات الحربية الدائرة في المنطقة، إلّا أنّ المطلعين يؤكدون أنّ العاصمة السعودية ما تزال حتى الساعة ترفض رفضاً مطلقاً ايّ نوع من انواع التفاهم مع ايران حتى ولو جزئياً.
طبعاً، يضع هذا الوضع علامات استفهام كبيرة حول الاستحقاق الرئاسي، ولكن على اللبنانيين وخصوصاً كبار المسؤولين التحرك وتأمين الظروف الداخلية المؤاتية على الاقل في انتظار تحقيق ثغرة ما على المستوى الايراني – السعودي، التي يأمل الغرب حصولها على رغم سوداوية الوضع في المرحلة الراهنة.
اما في حال الاقتراب من المهل الدستورية من دون ظهور بوادر للتفاهم على ملف الانتخابات الرئاسية، فإنّ العواصم الغربية تبدو متمسكة بنقطتين اساسيتين:
1 – ولادة حكومة جديدة قادرة على ادارة الفراغ وتتولى فعلياً مسؤولية التحضير للانتخابات الرئاسية، وليس مثلما حصل مع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في العام 2007 والتي سعت الى ممارسة الحكم من دون ايلاء الانتخابات الرئاسية الاهتمام الكافي.
2 – ايجاد الاطر الدستورية والقانونية لاعطاء الجيش اللبناني كامل الصلاحية والرعاية للامساك بالساحة اللبنانية جيداً كونه الضامن الفعلي والوحيد للبلاد في حال الفراغ.
وانطلاقاً من هاتين النقطتين الثابتتين، تُطرح صيغة حكومية تجمع بينهما ولا تتعارض مع الدستور الذي تضمَّن تعديلات الطائف لناحية انتزاع حق رئيس الجمهورية بتأليف حكومة انتقالية برئاسة شخصية مسيحية كما حصل لمرتين: واحدة برئاسة فؤاد شهاب وثانية برئاسة ميشال عون. وحسب هذه الصيغة، يؤلّف سلام حكومة سداسية من عسكريين هم في الخدمة حالياً، بحيث تصبح المؤسسات العسكرية والامنية هي المسؤولة مباشرة ووفق الدستور عن الساحة اللبنانية وبرئاسة شخصية سياسية مدنية سنّية هي تمام سلام.
لكنّ الاوساط الديبلوماسية التي تبدو مؤيدة لهذا النوع من الحكومات بعد استنفاذ الوقت والاقتراب من المهل الدستورية، فوجئت باعتراض رئيس الجمهورية عليها، بحجة أنّ الفريق الشيعي سيرفضها وسيعمد الى سحب ممثليه من الوزارة، ما يعني ادخال الخلافات والانقسامات من الباب الواسع الى المؤسسات العسكرية والامنية.
لكنّ هذه الاوساط التي لم تقتنع باعتراض رئيس الجمهورية، لم تلمس ردوداً سلبية من الفريق الشيعي بعدما جُسَّ نبضه حول الموضوع، اضافة الى أنّ الاعضاء العسكريين لن يكونوا اعضاء المجلس العسكري كما حصل في العام 1988، كون المجلس العسكري غير موجود الآن، بل سيُختارون من بين قادة ورؤساء المؤسسات العسكرية والامنية وكبار الضباط. اضف الى ذلك، أنّ الوضع الامني المتدهور يفرض اولوية هذه الحكومة على ايّ حكومة اخرى لألف سبب وسبب.
لكنّ الاهم أنّ الاسابيع المقبلة يجب أن تشهد عملاً جدياً لإتمام الاستحقاق الرئاسي كأولوية مطلقة على أيّ اهتمام آخر، وهو الهاجس الذي حمله جنبلاط الى بكركي يوم عيد الميلاد طالباً مساعدة البطريرك الماورني في الضغط لصالح ملف الانتخابات الرئاسية وليس “الاستسلام” لحتمية الفراغ.
جوني منير