مصطفى العاملي
الاستنفار الذي تعيشه الطبقة السياسية الحاكمة هذه الأيام، يدل بكل بساطة عن مدى انزعاجها وارتباكها وحتى خوفها من الحراك الشعبي الذي انطلق منذ أسابيع قليلة ومستمر بزخم كبير في مواجهة سياسة الفساد والرشوة وسلب المال العام، من قبل السلطة الفاقدة للشرعية.
وأهمية هذا الحراك، انه كان واضحاً منذ البداية في تحديد بوصلة هذا الحراك، كان واضحاً منذ البداية في تحديد بوصلة معركته، ضد كل قوى السلطة من دون استثناء، السارق إلى جانب من يجتمع معه تحت سقف الحكومة أو البرلمان ويغطي عليه، وبذلك أزالت اللبس الذي كان سيحصل بالتأكيد حول النسب وحجم المسؤولية لدى هذا الطرف أو ذاك.
واستطاع هذا الحراك، رغم مشاكله وتنوع أهداف مكوناته، وأحياناً الخلاف الحاد بينها، أن يشكل هاجساً مرعباً لقوى السلطة بعد أن فشلت في محاولة تسلق هذه الانتفاضة الجماهيرية، التي تأخرت كثيراً، في ضوء الاستهتار الفاضح من قبل المسؤولين بقضايا الناس وهمومهم ومشاكلهم اليومية.
وطفح الكيل من فضيحة النفايات وشكلت إحدى عناوين الأزمة اللبنانية، التي تبدأ مع السياسة والفراغ المستمر في رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي المشلول الممدد لنفسه مرتين، مما جعله فاقداً للشرعية، ولاسيما انه لم يستطع أن يعقد جلسة تشريعية واحدة ولو تحت مسمى تشريع الضرورة، أما الحكومة التي أعطيت اسم حكومة المصلحة الوطنية، فهي موجودة بالشكل فقط، وان أقصى الطموح هو أن يعقد مجلس الوزراء جلسة له من دون مخاوف انفجاره من الداخل، أما اتخاذ القرارات والاهتمام بحاجات الناس فهي من الكماليات ونوع من الترف السياسي، وهذا ليس وقته الآن.
وهذا يعني أن السلطات الدستورية الثلاث معطلة، وينعكس ذلك تلقائياً على عمل المؤسسات الأخرى التابعة، إدارية مالية ودستورية، التي أصيبت بخلل واضح في الأداء والدور، الذي انعكس سلباً على مهامها اليومية، وازدادت فيها المحسوبيات وتحولت إلى مزارع لهذا الطرف السياسي أو ذاك، الأمر الذي ضاعف من حجم الفساد والسرقات لاسيما في القطاعات المنتجة مثل الجمارك والمرفأ والمطار، ناهيك عن فشل هذه المؤسسات في القيام بما يتوجب عليها من توفير الخدمات للمواطنين، ويمكن الإشارة هنا إلى أزمة انقطاع التيار الكهربائي، وهي وحدها كفيلة بتوجيه أقسى أنواع الإدانة للحكومات المتعاقبة، وكل القوى السياسية شريكة في ارتكاب جريمة الوصول بالوضع إلى هذا الحد من الهريان، وهو في الحقيقة نتاج نظام سياسي طائفي، تمخضت عنه هذه “النفايات السياسية”، باعتراف أصحابها الذين اثبتوا فشلهم في إدارة شؤون البلد، ولو بالحد الأدنى، لا بل رهنوا مصيره للخارج، بعد أن تنازلوا عن دورهم في انتخاب رئيس للجمهورية، وبعد أن أوصلوا الدين إلى 70 مليار دولار، وبعد أن تقاعسوا في محاربة الإرهاب، وسمحوا له باختطاف عشرات العسكريين، الذين ما زالوا يقبعون في سجون داعش والنصرة، ويستخدمونهم مادة ابتزاز للدولة ولأهاليهم معاً.
ليس هناك من يضع جميع القوى السياسية المشاركة في السلطة على قدم المساواة في السرقة، والنهب، والاعتداء على الأملاك العامة، ولكن لماذا لم يبادر من يعتبرون أنفسهم خارج هذا التصنيف إلى الانتفاض على أمراء الفساد ورموزه، لماذا لم يفتحوا الملفات؟ لماذا الدخول في المساومات والتسويات؟ لماذا لم يعترض واحد على التوظيف على أساس المحسوبيات وعلى حساب الكفاءات؟ ولماذا لم نسمع من هؤلاء كلمة كفى لهذا التدمير الممنهج للدولة ومؤسساتها؟ الكل شريك في جريمة إيصال لبنان إلى الفوضى الشاملة والدولة الفاشلة.
ثم هل يستطيع هؤلاء أن يفسروا للرأي العام الأسباب التي دفعت أطراف السلطة إلى المسارعة إلى عقد طاولة الحوار، التي يعلم القاصي والداني أنها التأمت من أجل شد عصب قوى الثامن والرابع عشر من آذار في وجه هذا الحراك الشعبي، الذي أثبت انه عصي على التدجين والاستيعاب، وإن شابت صفوفه بعض الثغرات، التي دخلت منها قوى السلطة لإجهاضه وحرفه عن مساره، لا بل أنها سعت إلى استيعاب بعض مكوناته، ولكن في النتيجة فإن ما يحصل على مستوى الشارع تعبير حقيقي عن وجع الناس ومعاناتهم وقرفهم من الحالة التي وصل إليها البلد ومستوى الحياة فيه، وبالتالي فإن هذا الحراك مستمر وسيتخذ أشكالاً نضالية مختلفة، ولن توقفه حملة التضليل والافتراء التي تمارس ضده من قبل الطبقة السياسية التي اعتقدت لفترة من الزمن أن الشعب اللبناني وصل إلى حافة اليأس وجرى تدجينه بفعل الحقن الطائفي والمذهبي، ولكن سرعان ما تبين لها أن النخب الشبابية فيه خصوصاً، واعية لمطالبها وحقوقها ولن تنخدع بالمخاوف الوهمية، ولذلك تدرجت الحملة على هذا الحراك من التشكيك بارتباطات بعض المشاركين فيه والتساؤل حول تمويل نشاطاته، مروراً بإيجاد شرخ بين مكوناته، وصولاً إلى نغمة برزت في الأيام الماضية من شقين:
الأول، إن استمرار المحتجين بالوقوف ضد تنفيذ خطة الوزير أكرم شهيب لمعالجة النفايات سيؤدي حتماً إلى تكدس النفايات في الشوارع والأحياء وحتى البيوت، لأن لا بديل عنها، وهي في الحقيقة ليست سوى نسخة طبق الأصل عن الصفقات السابقة، وهذا ما أكد عليه وزير البيئة محمد المشنوق، الذي استقال من مهامه، ولكنه تمسك بكرسي الوزارة ولو من دون عمل، كما هو حال النواب الـ 128، الذين اعتصم شباب الحراك الشعبي أمام مبنى الواردات في وزارة المالية، مطالبين بوقف رواتبهم التي يدفعها الشعب اللبناني، وهم لا يقومون بأي عمل.
الثاني، تهويل أحد زعماء المذاهب ورموز الفساد من أن يكون خلف ما يجري التحضير لحدث أمني يدمر البلاد، تحت شعار النفايات، متهماً بعض وسائل الإعلام القيام بالفوضى المنظمة في تدمير الدولة والمؤسسات، متناسياً أن سياسة المحاصصة التي اعتمدت من قبل ما يسمى برموز الطائف وعرابيه، حراس الهيكل، هي التي دمرت البلد وفتحت الأبواب مشرعة أمام الاختراقات الأمنية.
في ظل هذه التحركات الشعبية العابرة للطوائف وإملاءات أمرائها، بصرف النظر عن الخلافات في وجهات نظر مكوناتها، مع التأكيد على أهمية إبقاء هذه التحركات حيّة ومستمرة ومتصاعدة، وفي الوقت نفسه، تحت مجهر المراقبة الدقيقة، لئلا تتحول عن أهدافها الحقيقة ضد النظام الطائفي وضد سياسة الفساد التي تعتمدها الحكومات المتعاقبة، ولاسيما على الصعيد الاقتصادي والمالي، وإدارة الظهر للمطالب الاجتماعية والحياتية، فسارعت قوى السلطة إلى لملمة صفوفها من فريقي 8 و14 آذار في حوار الوقت الضائع، الذي لن ينتج عنه سوى التأكيد على استمرار الحوار وفق نظرية الفن للفن، وخصوصاً أن هؤلاء المتحاورين يدركون جيداً أن ليس باستطاعتهم انتخاب رئيس جديد للجمهورية ولا حتى التصدي لملف النفايات، ليكون إعادة تكوين مؤسسات الدولة في موضوع الزبالة عوداً على بدء في موضوع المطامر، ليس حباً به بل حرصاً على إبقاء باب “المنفعة الشخصية” مفتوحاً من خلال الشركات التي ستتقدم للمناقصات أو للحفاظ على “الكومسيونات” التي تدفعها لهم شركة سوكلين وهذا هو الأرجح.
وفيما الحوار الثنائي يشيد بالحوار الجماعي لوحظ حركة زوار أوروبيين إلى لبنان بدأت مع رئيس الوزراء البريطاني، دافيد كاميرون، ولن تنتهي مع الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، الأكيد أن هؤلاء لم “يشرفونا” لا من أجل المساعدة على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وطبعاً ليس من أجل حل قضية النفايات أو مشكلة انقطاع التيار الكهربائي، وبالطبع ليس من أجل الدفع باتجاه انتخابات نيابية وفق قانون النسبية وخارج القيد الطائفي تنبثق عنها طبقة سياسية غير ملوثة بالفساد والصفقات على حساب المصلحة الوطنية، لقد جاء هؤلاء ليرشوا المسؤولين ببعض الأموال مقابل الموافقة على استقبال المزيد من النازحين السوريين، الذين باتوا يشكلون عبئاً على قارة أوروبا بطولها وعرضها، ولم يصل إليها سوى عشرات آلاف النازحين، فيما فاق عددهم في لبنان المليون ونصف المليون، أي ما يوازي نصف سكانه، فيما الإخوان العرب، الذين ينعمون بالأراضي الشاسعة وأموال البترول أقفلوا حدودهم ورفضوا استقبال أي لاجئ، وللأمانة فإن العاهل السعودي أبدى استعداده لبناء عشرات المساجد في ألمانيا، كي يتمكن النازحون من أداء شعائرهم الدينية بشكل صحيح، “حييوا الشهامة العربية والنخوة الإسلامية”.
اليوم، وفي رحاب الاحتفالات بالذكرى الـ 33 لانطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، من الضروري التأكيد بأن الحراك الشعبي، يتخطى بأهدافه وتطلعاته مشكلة النفايات على أهميتها، وملفات الكهرباء والمياه والفساد، إلى تغيير النظام الطائفي، المولد الحقيقي لكل هذه الأزمات، فالمشاركون في هذا الحراك مدعوون إلى تجذير وتحصين نضالاتهم، لتشكل مدخلاً إلى التغيير الحقيقي الذي لا يمكن أن يتكرس ويتعزز التحرير من دونه، وخصوصاً أن الشريحة الواسعة من اللبنانيين باتت على قناعة تامة، بأن الإصلاح مستحيل في ظل هذا النظام وبعد أن طمرت الطبقة السياسية المنبثقة عنه نفسها بالفساد ومن رأسها إلى أخمص قدميها.!
المصدر: النداء