منذ ما يقرب من أربعة عقود تعرفت إلى الراحل الفذ ابن بنت جبيل الحاج موسى عباس، في دنيا الاغتراب. كان في ريعان شبابه وأوج نجاحاته، مشكورا لصدقه، محمودا لفعله، مقصودا للمساعدة، مثلاً في الوفاء ومثالاً في الجد والكد والعمل، نموذجا في الاستقامة والشفافية والعطاء، وأبعد ما يكون ع المظاهر والغرور وحب الذات.
أعطى بيمينه ما لم تكن تدري به يسراه، كلما أعطى ازداد فيه الخجل، كان يحسب أن الله الخالق هو المعطي وأن الإنسا المخلوق هو الطريق أو الأداة أو الوسيلة في تقديم هذا العطاء.
وقد ازدادت عطاءات هذا الرجل المؤمن وتكثرت تقديماته وتعددت إسهاماته في أعمال الخير والبر والتقوى، أعمال وعطاءات وإسهامات من شأنها أن تساعد في أنسنة الإنسان عقلاً وروحا وجسداً.
إنه من أوائل المغتربين من أبناء هذا الجنوب الصابر الصامد المبارك، تحسس الحاجة وشعر بنقص المدارس الثانوية في منطقة، من الجنوب المعطاء، أعطت الكثيرين من أصحاب العلم والفقه والمعرفة والجهاد والنضال وقد شهدت عاصمتها، بنت جبيل، أول تظاهرة على أرض عربية تندد بالوافد الغاز المغتصب وبمشجعه وضامنه وحاميه المستعمر الأرعن الغاشم، لفلسطين القضية، فلسطين الضحية.
وإذا كان العقل بحاجة إلى مدرسة لينمو ويتفتح ويصبح مبدعا خلاقا فالجسد أيضا بحاجة إلى مأوى، إلى مكان عناية يأويه في حال مرضه، يجبر فيه الكسر، يستأصل منه الداء ويقدم له الدواء ويرمم منه ما أصابه من خلل. ولم يتوان هذا العبد الصالح عن سد هذه الحاجة فصمم وقرر وشيد.
وقد أعار الروح في الإنسان، النفس الإنسانية، اهتماما يساوي بل يضاهي اهتمامه بالعقل والجسد، فعمل في بلاد اغترابه متمما ما قام به من أعمال في وطنه، فشيد مسجدا جامعا تتغذى به الروح الإنسانية فيرتقي الإنسان إلى المقام الأرفع بإنسانيته ويتصل المخلوق بالخالق عن طريق المسجد المشع بالنور والإيمان. فالمدرسة والمستشفى والجامع صدقات جاريات، وقد أرادها صاحبها ومطلقها أن تكون كذلك نظيفة نقية في خدمة الإنسان. وإليكم هذه الحكاية:
كان من واجبي كمسؤول أن أقدر وأثمن العمل العلمي الكبير، ذلك المشروع الضخم، نظرا للزمان والمكان، وأضع تقريرا لوزارة الخارجية والمغتربين أضمنه مزايا هذا المغترب وهمته الوطنية وعاطفته النبيلة وشعوره الخالص نحو وطنه ومواطنيه. وضمنت التقرير أيضا اقتراحا بطلب وسام عربون تقدير وتشجيع واعتراف باندفاع هذا المغترب، وتشجيعا للآخرين.
وتجاوبت الإدارات المسؤولة وأرسلوا لي الوسام والبراءة. وكانت المعركة الصاخبة. حاولت مع هذا الإنسان الطيب أن أقيم له حفلاً بمناسبة منحه الوسام فأسلمه الشارة والبراءة بين أهله وأصدقائه ومحبيه، فلم يرض، حاولت أن أقيم عشاء في هذه المناسبة وأغتنمها فرصة فأقدم الوسام فلم يقبل، وكان محاولة ثالثة بأن يحضر إلى مكاتب البعثة وأقدم له الوسام، فحسب ألف حساب، منها الحساب الأهم أن أخدعه فأدعو بعض الأصدقاء للمشاركة في هذا التقدير، اعتذر اعتذارا شديدا، عن ذاك لم يبق لي سوى زيارته في مكتبه فأقدم له ذلك الصندوق الذي ضم بين جنباته التقدير الرسمي الكبير لمواطن ترقرق الدمع في عينيه من شدة تواضعه وعظيم إحساسه ونبل إنسانيته وطيب إيمانه.
حكايات كثيرة وكثيرة جرت أحداثها في ذلك المكتب المتواضع الذي كان محجا للشيوخ، رؤساء القبائل، وللوزراء والنواب وكبار الموظفين، لم يكن موسى عباس بحاجة لهم، كانوا هم يحتاجونه وإذا ما احتاجهم فمن أجل إذن إقامة لمغترب قدم إلى البلاد أو سمة دخول لراغب في الحضور أو إذن عمل في مناجم الماس.
—
كتبها فوزي صلوخ في السفير عام ٢٠٠٢ تحت عنوان “الحاج موسى عباس يبني مرتين”