سامي كليب
يسكن د. هيثم مناع في غرفتين متواضعتين في إحدى ضواحي باريس. في إحداهما كنبة فردية قديمة وبضعة كراسيّ وطاولة تتكدس عليها الكتب والملفات. فيها أيضاً رسومات لشقيقه الذي قتلته الحرب في درعا، وكوفية فلسطينية، وبعض ملصقات مهرجانات تضامن مع شعوب مقهورة. وفي الغرفة الثانية سرير تتوزع فوقه ثياب قديمة وشاله الأحمر وكتب وأوراق وأشياء أخرى. وفي إحدى الزوايا شيء يشبه المطبخ تفوح منه رائحة القهوة العربية. تحضر القهوة لتتوسط صحناً من التمر وآخر من البزورات الحلبية.
فوق كل هذا المشهد ترتسم ابتسامته الدائمة. لم تفارق هيثم الابتسامة رغم كل نوائب المهجر ومصائب الناس والمعذبين والمعتقلين. دافع عنهم في كل بقاع الوطن العربي من على منبر اللجنة العربية لحقوق الإنسان مع زوجته المناضلة اللبنانية فيوليت داغر.
في الجهة الثانية من باريس، كان الدكتور برهان غليون يسكن هو الآخر في منزل متواضع. عاش سنوات طويلة يعتاش من مهنة التعليم في الجامعات الفرنسية. ينشر عن الديموقراطية والحريات ومفهوم الدولة. كلما سنحت الفرصة، ينبري للدفاع عن قضايا العرب من فلسطين إلى المقاومة إلى معتقلي السجون المغربية.
مثل هيثم وبرهان، كثيرون عاشوا في المنافي. حلموا بغد أفضل. دغدغتهم أفكار الحرية والديموقراطيات الغربية. قالوا إن شعبهم السوري يستحق شيئاً أفضل من قبضة أمنية، أو من طبقة فاسدة تزداد غنى على حساب الفقراء والمزارعين. في مثل هذه الطبقة لا فرق بين علوي وسني ومسيحي ودرزي.
بدأ الربيع العربي. انتعش هيثم وبرهان ورفاقهما. حان الوقت للتغيير.
صار برهان ضيفاً على كل التلفزات. لمع نجمه مقابل احتجاب هيثم. اختار كل منهما طريقته في طريق العودة إلى سورية. تقاطر الدبلوماسيون على برهان. فتحت الأبواب. فرش السجاد الأحمر. تنافست وسائل الإعلام الأجنبية ثم العربية على طلب لقاءات مع الأستاذ الجامعي، تنافست الوسائل نفسها على منع اللقاءات مع الناشط الحقوقي.
تدهورت الاوضاع سريعاً. صار أزيز الرصاص ثم الاقتتال ثم التناحر فالتذابح أسياد الساحات. القاتل يبسمل ويحمدل، والقتيل يبسمل ويحمدل.
تباعدت طريقا هيثم وبرهان. رفع الأول لاءاته الثلاث: لا للسلاح، لا للتدويل، لا للأسلمة. رفع الثاني شعار التحالف مع الشيطان إذا كان سيؤدي إلى سقوط الرئيس بشار الأسد. أُغلقت الأبواب الغربية والخليجية والتركية أمام هيثم وفتحت واسعة في وجه برهان. قبل غليون تحالفاً عضوياً مع الإخوان المسلمين في المجلس الوطني الذي ترأسه برعاية غربية. تنافر مناع عضوياً مع الإخوان، فاستبعد من المجلس ومن كل العروض.
اليوم يقترب برهان مما قاله هيثم طويلاً. يقول: «أعتقد أن نزاعاتنا الداخلية من جهة، وأوهام بعضنا بتدخل أجنبي عسكري من جهة أخرى، أتاحا لخصومنا سحب البساط من تحت أقدامنا». هذا تقريباً ما يقوله النظام.
يبتسم هيثم في شقته المتواضعة. يقول إن الولاءات الخارجية لبعض أطراف المعارضة هي سبب ما وصلنا إليه. يرفض جمع كل المعارضة تحت راية الائتلاف. يعتبر أن ذلك يسقط قرارها في أيدي الاستخبارات السعودية والتركية عبر الأمير بندر بن سلطان وحقان فيدان، وبيد السفير الأميركي السابق في سورية روبرت فورد. هذا بالضبط ما يقوله النظام.
يحذر رئيس المجلس الوطني جورج صبرا من احتمال أن تدفع المعارضة الثمن بعد الاتفاق الإيراني الغربي. يسبقه معاذ الخطيب رئيس الائتلاف الذي آثر الابتعاد، قال الخطيب: «لا تثقوا بالدول. إن الأمر أكبر من الثورة وأكبر من النظام. هناك وطن لنا سيتركوننا نتصارع فيه حتى ينهار». قال أشياء أخطر عن احتقار الخارج لمعارضة الخارج. هكذا تقريباً يتحدث النظام.
يتفاقم التنافر بين المعارض اليساري ميشال كيلو وجماعة الإخوان المسلمين السوريين. يتبادلان الاتهامات الجارحة لكليهما. يكادان يصلان إلى مرحلة التخوين. ما عاد النظام بحاجة لأن يقول أكثر من ذلك حيال الإخوان.
يجري ذلك على وقع التنافر السعودي ــــ الإخواني. يزور كيلو السعودية فيُستقبل بترحاب كبير. المناضل الشيوعي في عرين الوهابية التي حاربها طويلاً. كل عرين جيد لمحاربة عرين الأسد. لا بأس إن جاءت طائرات الأطلسي وقصفت سوريا. قالها أكثر من مرة.
سقطت الأحلام في أتون الصراعات. تقدمت أطراف أخرى. فقد المسلحون ثقتهم بمعارضة الخارج. فقدوا مرجعيتهم الأولى. فتحت الأبواب على أطراف مسلحة أكثر راديكالية وخطورة. صار الإرهاب سيد الساحة. أعطى الجميع مبرراً لخطاب السلطة القائل إن الجيش يقاتل الإرهاب. صار الغرب أكثر ثقة بالجيش منه بالمعارضة المشتتة والمسلحين المتذابحين على الأرض.
بعد أسابيع قليلة، تذهب السلطة السورية إلى مؤتمر جنيف بوفد موحد وقرار موحد وخطاب موحد. ستقول إنها ضحية الإرهاب وإنها تقاتل لحماية الشعب. تذهب المعارضة متنافرة، كارهاً بعضها لبعض أكثر من كرهها للنظام. ستقول إن بطش النظام كان السبب.
سقطت أحلام المعارضين في مستنقع تنافسهم. سقطت أحلامهم ضحية الفتن المذهبية. قتلتها ردة الفعل الإقصائية على الفعل الإقصائي للنظام. نحرتها خناجر التكفيريين قبل أن تنحر الآخرين.
أما وقد وصلت الأمور إلى هذا الدرك الدموي، ثمة سؤالان لا بد من طرحهما:
ــــ هل باتت السلطة قابلة فعلاً بإشراك المعارضة في عملية تغيير واسعة؟
ــــ هل اقتنعت المعارضة فعلاً بأن إسقاط النظام بالقوة بات مستحيلاً ولا بد من حل تفاوضي.
والسؤال الأهم: هل أدرك الجميع أن سياسة الإقصاء لم تؤد في نهاية المطاف إلا إلى قطع الرؤوس وبقر البطون ودمار سورية وفتح الأبواب أمام أسوأ صراعات القرن وتنافسات القرن وتفاهمات القرن بالدم السوري؟