الأرزة بلها وأشرب ميتها

من أحياء بيروت إلى ساحة الشهداء: “هذه فقط البداية”
“طلعت ريحتكم”: هذا التحرك الإنذار الأخير، وبداية معركة لبنان الحقيقي (محمود الطويل)

في ساحة الشهداء، مساء اليوم، وضع مسرح، ومنبر ومكبرات صوت، وانتشر شبان/ات يلبسون قمصان حملة “طلعت ريحتكم”، يهتمون بالتنظيم، وأحياناً بضبط صرخات المعتصمين لتأمين استمرار القاء البيانات والكلمات المُحضَّرة مسبقاً. ويتوسط هذا المشهد حشد كبير نسبياً من المعتصمين الذين لبوا دعوة الحملة، مقارنة بالأعداد المعتادة في المظاهرات المطلبية. لكن العدد يبقى صغيراً جداً نسبة إلى عدد سكان بيروت أو لبنان. لكن، في الحالتين يبدو انه كان كافياً لإنقاذ الحملة، التي اعتبرت تحركها هذا “الفرصة الأخيرة”.

مسيرات شعبية
عند الساعة الرابعة من بعد الظهر، إنطلقت مسيرات ثلاث في أحياء العاصمة، تدعو السكان للإنضمام الى إعتصام ساحة الشهداء، والثورة على الواقع الذي وصلت اليه دولتهم. اثنتان من هذه المسيرات دعا اليهما كل من “المنتدى الإشتراكي”، “رفاق فرج الله حنين” في “الجامعة اللبنانية”، “نادي السنديانة الحمراء” في “الجامعة الأميركية” في بيروت، “النادي العلماني” وناشطون/ات مستقلون/ات. إنطلقت الأولى من قصقص، أما الثانية فمن كرم الزيتون في الأشرفية، والتقتا عند تقاطع بشارة الخوري لتصلا بعدها إلى ساحة الشهداء. خلال سيرهم، قام المتظاهرون بتوزيع بيان معنون بـ”البلد في الهاوية”، على المارين في الشوارع وأصحاب المحال والسكان، يوضح أسباب تحركهم.

و”البلد في الهاوية” لأن “أزمات النظام التي لا تنتهي، من سياسية وأمنية واجتماعية وبيئية وصحية، خطيرة”. يشرح البيان الإرتباط الوثيق بين أزمة النفايات والنظام الطائفي القائم. فالدولة “تصر على إعتماد سياسة الخصخصة في إدارة الملفات التي تمس بأمننا وصحتنا، كالنفايات والمياه والكهرباء”. والخصخصة في ظل هذا النظام “أداة فعالة بيد السلطة الطائفية لتُراكم الأموال”. في هذا الإطار يندرج ملف شركة “سوكلين”، فـ”بعد أن إختلفت أطراف السلطة الطائفية على المحاصصة في هذا الملف تفجرت أزمة النفايات الراهنة”. كما أن “الفرز من المصدر وإعادة تدوير ومعالجة النفايات العضوية، وإستعادة الأموال التي نهبتها سوكلين وإستخدامها في دعم البلديات ووضع خطة لمعالجة شاملة، هو أحد الحلول”. الا أن الواقع، وفق البيان نفسه، يحتم إدراك حقيقة أن “أزمة النفايات… هي أزمة النظام الطائفي الذي ينتج بشكل دائم شتى أشكال الفساد على قاعدة المحسوبيات والحصص”.

في قصقص، يحمل شاب مكبر الصوت بين الحين والآخر ليخاطب المارة أو الناس على شرفات بيوتهم. “النفايات غطت الجميع، الكهرباء تنقطع عن الجميع، الديون عليّ وعليكم وعلى أبنائكم الذين سيولدون. بات واجباً علينا جميعاً أن ننزل الى الشارع”، يقول الشاب. ليكمل في مكان آخر “رسالتنا ليست فقط للحكام، بل لكم أيضاً”. ويضيف معرفاً عن المتظاهرين “نحن طلاب غير قادرين على تسديد أقساطنا، نحن عمال بمعاشات قليلة، نحن في معظمنا معطَّلين عن العمل. إختنقنا لأن النفايات وصلت الينا قبل الكهرباء، لأننا لا نملك مياهاً نغسل بها وجوهنا…”. ثم تطغى خلال الوقت الباقي للمسيرة صرخات المتظاهرين: “قسمونا طوايف والشعب بعدو خايف… الشعب يريد إسقاط النظام… إنزل على الشارع…”.

على جوانب الطرقات يتحمس الصبية الصغار، فيتمتمون الشعارات التي يرددها المتظاهرون. يسيرون الى جانبهم حتى نهاية الشارع ليعودوا الى منازلهم بعد ذلك. عمر (11 سنة)، أنس (13 سنة) وساري (11 سنة) هم ثلاثة من هؤلاء الصبية. يعتبرون في حديث مع “المدن” أن هذه المسيرة جاءت متأخرة الى شارعهم. “كل الحق معهم”، يقولون. وعلى الرغم من أنهم لا يشعرون بالضرر المباشر من الأزمة، اذ “لا يوجد زبالة في منطقتنا”، الا أنهم منزعجون من بقاء “الأطفال خارج بيوتهم بسبب الكهرباء، والضرر الذي سيصيبهم من رائحة النفايات”.

ثلاثة شبان آخرون تتراوح أعمارهم بين 18 و23 سنة يجدون أنفسهم غير معنيين بهذه المظاهرة. من بينهم محمد، الذي يقول لـ”المدن” إن “الزبالة شالوها من عنا”، مشيراً الى الطريق الجديدة، حيث يسكن. “كهربا عنا… نحن غير معنيين بباقي البلد”. لا يريد محمد للنظام الطائفي أن يسقط، “خليها هيك فلتانة أفضل النا… لماذا إسقاط النظام؟ ليحصل لنا ما حصل في سوريا؟”. أما رنا وعمر، وهما من العمر نفسه، فيأسفان لعدم قدرتهما على المشاركة بسبب دوام عملهما. تقف رنا عند باب محل الثياب الذي تعمل فيه لتصور المظاهرة و”تدعمها”.

“زلزال 100 درجة”، هو الحل الوحيد للتغيير بالنسبة لـ”سعيد”، الرجل الستيني. أما عمر، الأربعيني، فيجد أن التظاهر لألف عام إضافية لن يفيد. “الأسماء مكتوبة على اللوائح الإنتخابية، وسأنتخبها لو طمرنا بالنفايات”. فعمر “مستفيد من الفئة التي ينتخبها كونها مفيدة للطائفة بالدرجة الأولى”.

ساحة الشهداء
مع إنطلاق الكلمات في ساحة الشهداء، علا صوت المعترضين. “البيان الذي سيتلى بإسم من؟ هل تعرفون ما هي مطالبي؟”، تسأل إحدى المشاركات. نريد “عصياناً مدنياً”، يقول شاب آخر. أما الرد فلا يجيئهم من معتلي المنبر، بل من المتطوعين الموجودين بين الناس. اذ يطلبون من الجميع الإنتظار حتى سماع البيان.

يقول البيان: “لا للإقتراحات التي لا ترقى لآمالنا، لا للمحارق، لا للمحاصصة الطائفية والفساد وغياب الشفافية”. لكن الفرق كان واضحاً في تفاعل المعتصمين مع الـ”لا” الأخيرة، مقابل إحباط واضح بالنسبة لـ”اللائين” الأولتين. المطالبة بإستقالة وزير البيئة محمد المشنوق لاقت تجاوباً من المعتصمين بشكل لافت، ليصرخ الجميع مراراً: “إرحل”. وقد أكد البيان في الختام على “الأسباب العديدة التي يجتمع لأجلها المعتصمون، من ماء وكهرباء وتداول للسلطة…”، ليعود ويحدد السقف الذي تلتزمه الحملة: “ولكن، معركتنا واضحة، وحلولنا واضحة”.

ثم يقترح رئيس “الحركة البيئية” بول أبي راشد “عصياناً مدنياً من نوع جديد. عصيان مدني إيجابي”. وذلك عبر امتناع كل مواطن عن إرسال النفايات الى المكبات المعتمدة، والفرز داخل البيوت. تؤدي هذه الخطوة، وفق أبي راشد، الى تعزيز ثقة البلديات بهذا العمل، وبالتالي عرقلة الخطة التي ستُقر يوم الثلاثاء المقبل، والتي ستُدخل كل بلديات لبنان في المديونية وتجعلها رهينة لـ6 شركات.

يبدو أن عدد المعتصمين سيحفز الحملة على الاستمرار. وهذا العدد هو “إنتصار آخر لنا”، يقول عماد بزي أحد منظمي الحملة، مؤكداً أن الحملة “ستكمل بكل الأساليب الممكنة، التظاهر والإعتصامات والتحركات المباشرة، لتتعلم الطبقة السياسية كيف تخاف من الناس”. اليوم لم تكن الفرصة الأخيرة إذن، بل “الإنذار الأخير، وبداية معركة لبنان الحقيقي”.
المصدر: المدن

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …