مقال لسماحة العلّامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
من النماذج البشرية التي يتناول القرآن الكريم الحديث عنها، تلك النماذج التي عاشت دور الإفساد في الحياة الاجتماعيّة، فأفسدت حياة الناس سياسيّاً، ونشرت فيها الظلم والاستبداد والانحراف، وأكرهت النّاس على اتّباع الباطل وتأييد الظالم، وأثارت الفتن بين أفراد المجتمع، وقطّعت العلاقات التي توثّق الصلة بينهم، ووظّفت الأموال في شراء الضمائر والمواقف، فعمَّ الفساد في الحياة الأخلاقية والاجتماعية والسياسية.
استغلال المال في الفساد
وواحدٌ من هذه النماذج (قارون)، الذي كان من بني إسرائيل. هذا الإنسان الغنيّ الذي اتّسع في غناه، فوظّف ماله في الاعتداء على الناس والبغي عليهم، وإفساد حياتهم وإبعادهم عن الله سبحانه وتعالى، فاستغلَّ نفوذه الماليّ في تأكيد نفوذه الاجتماعيّ، فكان مثال الإنسان المستكبر والمفسد في الأرض.
وقد حدّثنا القرآن الكريم عن بعض شأنه وعن نفسيّته وسلوكه بين الناس، وعن موقف الناس منه وردّ فعلهم عليه، وكيف كانت نهايته.
يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}[القصص: 76].
فكان يسلك مع قومه مسلك البغي والظلم والعدوان، مستغلاًّ موقعه في التعدّي عليهم، وكان يملك من الثّروة الموجودة في أكثر من مكان، بحيث إنَّ مفاتيح خزائن هذه الثّروات يصعب على الأقوياء أن يحملوها لكثرتها وتعدّدها وانتشارها {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} من الذهب والفضّة والثروات {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ} تثقل هذه الثروات بالشكل الذي لا تستطيع هذه العصبة حملها لثقلها {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}.
فرح الاستعلاء والتّكبّر!
وبسبب ما يملك من مال وثروات، كان فَرِحاً بالشكل الذي كانت تنتفخ فيه شخصيّته استعلاءً واستكباراً. {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} من العقلاء المعتدلين الذي يعرفون حقائق الأشياء، {لَا تَفْرَحْ} لا تأخذك الفرحة، والفرح هنا بمعنى البطر. وليس المقصود الفرح الطبيعي، كفرح الشّهداء الذين هم أحياءٌ عند ربّهم {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم}[آل عمران: 170] أو كفرح النّصر {للهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}[الروم: 4]. فالله تعالى يحبّ للإنسان أن يعيش الفرح الرّوحيّ القائم على طاعة الله، ويبغض له الفرح الذي يؤدّي إلى الخُيَلاء والتكبّر ومن ثمّ إلى الاستعلاء على النّاس {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}. فالله سبحانه لا يحبُّ الذين تمتلئ أوداجهم بالضّحك؛ ضحك البطر والاستعلاء والتجبُّر. وإذا كان الله تعالى منح الإنسان منصباً أو أعطاه مالاً، فإنَّ عليه أن يعرف وظيفة المال الّذي لم يجعله الله غاية، بل هو وسيلةٌ للإنفاق على نفسه وعلى الآخرين.
لا دوام لإنسان
ويحدّد القرآن طبيعة الحركة للإنسان في الحياة {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص: 77]. يتوجّه الخطاب القرآني إلى الإنسان: إنَّ الدنيا لن تدوم لك مهما طال عمرك فيها، ولن تحمل مالك إلى الآخرة، سوف تفارق مالك قبل أن تموت إذا خسرته، وسوف يفارقك مالُك عندما ينتهي عمرك. فالمال لن يشكِّل الخلود لك، ولن تستطيع أن تعطيه الخلود. صحيح أنّك تعيش في الدُّنيا، ولكنّ الدار الحقيقيّة الخالدة هي في الآخرة. فأنت تعيش في هذه الحياة الدّنيا بشكلٍ مُسْتَعار:
وتراكضوا خيلَ الشّباب وبادروا أن تُستَردّ فإنّهنّ عوارِ
فالشابّ عندما ينطلق بطاقته وحيويّته، فكأنّه يركب فرسَ الشّباب مختالاً بأحلامه وأمانيه وشهواته وغرائزه وانفعالاته واندفاعاته. ولكن، فلينتبه فإنَّ هذا الشّباب الذي يركب عليه، سيُسْتَردُّ يوماً، فالشّباب مُسْتَعار، وهكذا البدن والعمر والطاقات كلُّها مستعارَة، وستعود يوماً إلى مَنْ أعارها.. فأين الشباب الذين أصبحوا شيوخاً وكهولاً؟ أين كلُّ هذه الحيويّة والأموال والثّروات والمناصب؟ كلُّها ذهبت {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}[الرّحمن: 26 ـ 27]. يزهو الإنسان بصحّته وماله وأولاده، وبكلّ زينة هذه الدّنيا وزخارفها، ولكن لن تدوم له الدّنيا {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق: 19] وقد كان مستسلماً لسكرة الشّباب والشّهوة والمال والأولاد والأصحاب والمؤيّدين {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ* وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}[ق: 20 ـ 21] فأين المفرّ والمهرب؟ {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق: 22]. لقد كانت عيونك مغطّاة بسحر المال والشّهوات، أمّا الآن، فإنّك ترى الأمور جيّداً، فأين المال والبنون، وما الذي بقي لك؟ فأولادك الذين أفنيت عمرك في سبيل رعايتهم وتأمين مستقبلهم، وأهملت حقوق الله وحقوق الناس بسببهم، لن يشيّعوك إلاّ إلى القبر، ومالُك الذي أسهرت عيونك في جمعه، وأتعبت بدنك في الحصول عليه، وقطعت الفيافي والبحار والصّحارى، وجمعته من حِلٍّ وحرام، لن يردَّ لك الجميل إلاَّ بثمن الكفن والقبر، وعملُك سيخاطبك بالقول: لقد كنتَ بغيضاً إليَّ، ولا صلاة ولا صيام ولا حجّ، وما أنفعُك؟ {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ}[آل عمران: 30].
ابتغاء الدّار الآخرة
ولذلك {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ}، وظِّف أموالك في الأعمال والمشاريع التي تفيدك في الآخرة. وهذا ما قاله العقلاء لقارون: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}.. كُلْ أفضل الأكل، إلبس أحسن الثياب، اسكن في أفضل مكان، ولكن فليكن ذلك بالحلال {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ}[القصص: 77] أحسن الله إليك، لا لتختزن ما عندك في داخل شخصك، بل أحسن سبحانه إليك لتعطف وتشفق على مَنْ يحتاجون إليك، فالله جعل رزق غيرك في رزقك، فلا تبخل عليهم {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[الذاريات: 19]. فالذي لا يُخرج الحقوق الشرعيّة من مال الخمس والزكاة لتُدفع للفقراء والمحتاجين إليها، هو إنسانٌ سارقٌ غاصب، والذي لا يراعي حقّ الأيتام في ماله، توعّده الله بالعذاب {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}[النساء: 10].
إذاً، عليك أن تحسن إلى مَنْ أمرك الله بالإحسان إليه {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} ككثيرٍ من الناس الذين أعطاهم الله المال، فبذلوه في فتح نوادي القمار والفساد والانحراف، نشراً للميوعة والخلاعة والزنا، أو وظّفوه في إفساد الحياة العامّة للنّاس في المجال السياسي والاقتصادي والأمني {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص: 77]. وإذا رفع الله محبّته عن إنسان، فما يكون مصيره؟ وماذا لدينا غير رحمة الله؟ وُلِدْنا ووُجِدْنا برحمته، ونتقلّب ونموت في رحمته، ونُبعَث ونُحشَر بين يديه برحمته. فإذا أزال سبحانه عنّا رحمته، فأين نكون؟ ومَنْ الذي يرعانا بعد ذلك من دون الله؟
محبّة الله أوّلاً
لذلك، قبل أن نفكّر بمحبّة الزّعماء والوجهاء لنا، يجب أن نعمل للحصول على محبّة الله. وعندما يحبّنا الله، فإنَّ قلوبنا وأرواحنا تنتعش بهذا الحبّ، ونشعر بالسّكينة والطمأنينة والأمن والفرح الروحيّ. ومن هنا، ما قيمة أن يحبّنا النّاس ويبغضنا الله؟ وما قيمة محبّة الله وبغض النّاس لنا؟ “ماذا فَقَد مَنْ وَجَدَك” الذي وجد الله لم يفقد شيئاً على الإطلاق، “وماذا وَجَدَ مَنْ فقدَك” ماذا تنفع الدّنيا كلُّها إنساناً فقد علاقته بربّه وبرحمته وعطفه؟!