بقلم السيد جعفر فضل الله
أظهرت ممارسات داعش، وأهمّها الإعدامات، غلظةً في القلب، وتوحُّشًا في الفعل، وجفافًا في الذّهنيّة، وقسوةً في الفكر والمنهجيَّة؛ وبات المزاج العامّ يشمئزُّ ممّا تراه عينه أو تسمعه أذنه من أفلام الواقع الدامي، والتي يتمّ إخراجها وتصويرها بأعلى المعايير التقنيّة والفنّيّة، والّتي كان أكثرها وقعًا، إحراق الطيّار الأردني، وما تلاه من ذبح المصريّين في ليبيا، و”الحبل على الجرّار” كما يُقال.
إنَّ تدمير الأضرحة والمساجد الأثريَّة، وكثيرٌ منها شاهدٌ على تاريخٍ، ومعلَمٌ لزخمٍ من المعاني الّتي جسَّدتها شخصيّاتٌ وقياداتٌ، وضعت بصمتها في عالم الإمامة والتقوى، والعلم والعمل، وشكَّلت جزءًا من الوجدان العامّ الّذي ارتبط برمزيّتها الرساليّة والقيميّة.. هذا التّدمير لم يكن تدميرًا لبناءٍ، أو نبشًا لقبورٍ، وإنّما كان نسفًا لتاريخ أمَّة، تجهد كثيرٌ من الشّعوب أن تحصل على قطعةٍ منه، لكي ترسِّخ وجودها الحاضر عبر جذرٍ ولو ضئيلٍ في تاريخ البشريَّة وصناعة الحضارة. الكيان الصّهيوني في بحثِه عن الهيكل المزعوم، خيرُ شاهدٌ على تلك الحاجة.
هل نزرع التّناقض في ذهنيَّة الجيل؟
ليست المشكلة في الرّفض والاشمئزاز لكلّ ذلك، فهذا أقلُّ ما ينبغي في كلِّ هذا الفساد والإفساد الّذي بدا أنَّه مصداقٌ للآية الكريمة: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ}[1]؛ إلّا أنَّ المشكلة الكبرى التي بدأت تظهر، هي المشكلة الثقافيَّة، الّتي إذا لم نلتفت إلى عناصرها، فقد نخسر المستقبل الّذي قد تأتينا تداعياته من حيث لا نحتسب.
تتلخَّصُ المشكلة في السؤال التّالي: أليس ما تقومُ به داعش هو ممّا نجد له مستندًا في القرآن الكريم، أو في الأحاديث المرويَّة عن النبيّ(ص)، أو في سيرة ما يُطلَق عليه السَّلف الصَّالح، أو في فتاوى العلماء الّذين يمثّلون المرجعيَّة في فهم الدِّين والتزام أحكام الشَّريعة؟!
وعلى هذا الأساس، يُقال لنا: إنَّكم عندما ترفضون ما تقوم به داعش ومثيلاتها، فإنّما تقومون برفض ذواتكم، وعندما تشمئزُّ نفوسكم مما تمارسه، فأنتم إنّما تشمئزّون من انعكاسات نصوصٍ لديكم، وكيف لا تقبلون أن يُنسب إليكم شيءٌ من تلك الممارسات، وتاريخكم يزخر بالكثير ممّا تمارسه داعش اليوم؟!
ويبدو حجم المشكلة رهيبًا، عندما لا نعي أنَّنا لم نثقِّف الأجيال الّتي حُمِّلنا مسؤوليَّتها، بالكثير من القواعد والأسس الفكريَّة والعقديَّة والشَّرعيَّة الّتي تشكِّل مانعًا من الوقوع في مثل هذا التَّناقض، تمامًا كما لم تمثِّل مناهجنا التعليميّة والثقافيّة حصنًا من تأثّر شبابنا بالأفكار المتطرّفة والعنفيّة والتكفيريّة لداعش وأمثالها من الحركات، حتّى وجدنا أنَّ الواحد من هؤلاء الشّباب، يقتحم الموت بيقينٍ راسخٍ بأنَّ يد النبيِّ(ص) هي التي ستتلقّى دمه وهو يسقط إلى الأرض، وأنّه لن تمضي إلّا لحظاتٌ حتّى يعانق الحور العين في جنان الخلد!
وإنَّنا نؤكِّد هنا، أنَّ وعي حجم المشكلة وتشعّباتها، يوازي في أهمّيّته التّفكير في حلّها، وأنَّ أيَّ اجتزاءٍ في توصيف المشكلة، سيؤدِّي إلى نقصانٍ في الحلول، وقد تكون هذه الحلول المفترضة سببًا في تفاقم المشكلة أكثر، كلَّما امتدَّ الزَّمن وتعقَّدت الأوضاع.
عوامل متعدِّدة وراء داعش
كنَّا قد أثرنا في مقالٍ سابقٍ فكرة أنَّ ظاهرةً كظاهرة الحركات العنفيَّة التكفيريَّة ليست نتاج عاملٍ واحدٍ، وإنّما هي نتاج تعقيدات تراكمت عبر الزَّمن، منها ما يرتبط بالسياسة، ومنها ما يؤسِّس له الفكر، ومنها ما يحدِّده الفقه، ومنها ما يعود إلى علوم الاقتصاد والاجتماع والتّربية والنّفس؛ وهذا التّحليل إذا ما تمَّ، فإنّه يفترض أنَّ الحلول الأحاديّة لن تساهم في حلِّ المشكلة، وإنّما يساهم فيها ما يشبه النَّهضة المتعدِّدة الأوجه، والّتي تكون عبارةً عن حراكٍ مجتمعيٍّ يستهدف الانطلاق لاختبار بنيته على ضوء المستجدَّات الجديدة، حتّى لو تطلَّب الأمر – وهو يتطلَّب ذلك – إعادة قراءة المناهج الّتي نقرأ على أساسها النّصوص الدِّينيّة، في ما يرتبط بالبُعد الفكريّ والفقهيّ والعقديّ ونحو ذلك.
ونحن سنحصر موضوعنا هنا في العامل المرتبط بالخطاب الفكريّ والفقهيّ؛ وذلك لأهمّيته في توجيه السلوك الشّرعيّ للجماعة الملتزمة بتعاليم الدِّين، إلى أيِّ مذهبٍ انتمت، في الوقت الّذي لا نفترض أنّنا بصدد تقديم حلولٍ ناجزة، وإنّما نثير بعض النقاط؛ لتكون منطلقًا للتّفكير، ولجهدٍ شاملٍ يتطلّب حراك أمَّةٍ في مواجهة التحدِّي في المنعطف الزّمني الخطير الّذي تمرّ به.
أوّلًا: إذا كان فقه داعش يتبنّى فقه ابن تيمية، الّذي ولد في منتصف القرن السابع الهجري، أي قبل أكثر من سبعة قرونٍ، فإنَّ الإشكاليَّة التي تطرح نفسَها هنا هي: كيف يُمكن لنا أن نواجه مثل هذا التبنّي، في الوقت الّذي لا نسمح ببروز فقهاء مسلمين جُدد؛ لأنَّ باب الاجتهاد موصَدٌ، على قاعدة أنَّ فتح باب الاجتهاد قد يتسبَّب بتحوّل الفقه إلى حالةٍ من الفوضى الفقهيّة كلّما امتدّ الزّمن؟!
نحن لا نريد مناقشة هذه الفكرة هنا، ولكنَّنا نقول إنّها إشكاليّة ينبغي التفكير الجدّي فيها، وأخذ موقفٍ منها؛ لأنَّ الحياة لا تتحمَّل الفراغ؛ فإذا لم يملأ الحاجةَ إلى الفقه فقيهٌ يفهم عصره، ويمتلك آليّات الاجتهاد الّتي تسمح له بقراءة النصوص، ربّما بجودة أكبر من الماضين، فسيُملأ ذلك الفراغ بالماضين أنفسهم، بمعزلٍ عن تقويمنا لهم.
ثانيًا: بغضِّ النّظر عن النّقطة السابقة، فإنّه لا يكفي اليوم اعتبار ابن تيمية “شيطانًا” مثلًا، أو اعتبار فقهه تجديفًا أو انحرافًا، فإنَّ جماعةً من المسلمين يعتبرونه مجدِّدًا في الإسلام؛ بل يرونه الأوْلى بالاتّباع من أئمَّة المذاهب الأربعة المعروفين؛ لأنَّ منهجه يقضي بالرّجوع إلى النّصوص، وإنّما يُلجَأ إلى أحمد بن حنبل – مثلًا – إذا فُقِدَ النّصُّ على الحكم، أو دليلٌ من سيرة الصحابة، وعليه، فهو يتلقَّى فقهه من المنبع الأصيل.
وبمعزلٍ عن تقويمنا لابن تيمية وفقهه وفكره، فإنَّ هؤلاء الّذين يمارسون القتل والتَّدمير بفتاواه اليوم، لن يزيدهم الهجوم عليه إلّا تمسّكاً به. ونظنُّ أنَّ الانشغال في الردِّ على آرائه ومناقشتها بالأدلّة والبراهين، إنّما ينفع المختصّين بعلم الفقه أو علم الكلام أو نحوهما من العلوم الإسلاميَّة. أمّا الشّباب الّذين ينخرطون في إطار الحركات المتطرّفة، فيفرض علينا أن نبحث مثلًا في الأسباب الموضوعيَّة في فقه ابن تيمية، الّتي تجعل الشّباب ينجذبون إليه. وقد لا نكتفي هنا بالجهات الدِّينيّة لتدرس ذلك، بل نضمّ إليها علماء الاجتماع والنّفس ونحوهما من العلوم.
وقد نحتمل هنا أنَّ العوامل التي ساهمت في تشكيل البنية الفكريّة والنفسيّة لابن تيمية، مشابهة للعوامل التي تساهم في تشكيل البنية الفكريّة والنفسيّة للإنسان الذي يعيش في كثيرٍ من مجتمعاتنا الإسلاميَّة، وعلى هذا الأساس، سيكون الانجذاب تلقائيًّا؛ لأنَّ البنية هي البنية، والذّهنيّة هي الذّهنيّة.
وبعبارة أخرى، إذا كنّا نعتبر أنَّ فقه ابن تيمية هو فقه مأزومٌ، فإنَّ ذلك لن يكون بمعزلٍ عن طبيعة الشخصيَّة المفكِّرة والمنتجة لذلك الفقه؛ وفي موازاة ذلك، إذا كنَّا نعتبر أنّ الداعشيّ هو شخصٌ مأزومٌ، فثمَّة عوامل ساهمت في تشكيل بنيته لتكون أكثر ملاءمةً لذلك الفقه من غيره. وقد تكون المسألة جدليَّةً، لا يُمكنك أن تنظر إليها على أساس اتّجاه أحاديّ، بل قد يجب النَّظر إليها على أساس تداخل الاتجاهين، فالتَّأزيم الذاتيّ يجتذب الفقه المأزوم، وهو في الوقت نفسه، يكون نتاجًا لذلك الفقه في مستوًى من المستويات، بحيث يزيده الفقه المأزوم تأزيمًا عندما يترسَّخ أكثرَ فأكثر في الوجدان والممارسة.
ثالثًا: تدفع ممارسات داعش بقوَّة فقه العقوبات إلى واجهة التحدّي؛ فإذا لم نقبل ما تقوم به داعش من قطع الأيدي وجلد الزّاني أو قصاص المرتدّ وحدّ المفسد في الأرض، فماذا نصنعُ بالنُّصوص القرآنيّة والنبويّة التي تتحدَّث عن ذلك؟ هل نرفضُها؟ وهل هذا ممكنُ إيمانيًّا؟!
المسألة هنا تدخلنا في متاهةٍ، وفي المزيد من تأزيم المشهد وتعقيده؛ لأنّه سيُظهر للملأ أنَّ داعش هي الّتي تطبّق الأحكام الشرعيَّة، وبالتالي، تصبح هي الممثِّلة للإسلام، بينما الآخرون الّذين ينتقدون داعش، يناقضون أنفسهم في ذلك، ويؤكِّدون أنّهم منحرفون عن الإسلام في أذهان الشباب المنتمين إلى داعش، أو المتعاطفين معها!
وهذا ما يفرض علينا أن نكون دقيقين في الموضع الّذي ننتقده؛ فإذا كانت الأحكام مذكورةً في تلك النّصوص، فهذا بابُه الاجتهاد الّذي قد يرى أنّها أحكامٌ ظرفيّة، وليست شاملةً لكلّ زمانٍ ومكانٍ، بغضِّ النَّظر عن موقفنا منه. وإذا كنَّا لا نناقش في ذلك، فلا يصلح لنا أن ننتقد داعش إلّا قضائيًّا، بمعنى أنّها لا تملك في أساسها الأهليّة الشرعيّة لإصدار الأحكام، فضلًا عن أهليّة تنفيذها، أو أنّ ثمّة عناوين ثانويّة تجعل تنفيذ الأحكام بهذه الطّريقة نوعًا من المثلة المحرَّمة، أو تشويهًا لصورة الإسلام في أعين الآخرين، أو أن نُبرهن عن ارتباطاتها بأجهزة مخابرات ومشاريع استكباريَّة، سواء عن دراية أو عن غير دراية، وما إلى ذلك.
إنَّ الدقّة هنا مطلوبة؛ لأنَّ أيَّ خطابٍ، يتوجَّه اليوم إلى عامَّة المسلمين، وإلى غيرهم، والخطاب هنا يمارس نوعًا من التَّثقيف غير المباشر؛ فإمَّا أن يساهم في ثقافة متناقضة، وهذا ما يخلق فجوةً قد تُملأ لاحقًا بغير الإسلام لكي يرفع التّناقض، وإمّا أن ينخرط الإنسان في تلك الحركات المتطرِّفة لرفع التّناقض أيضًا.
وعلى سبيل المثال، فقد سأل شخصٌ مؤخَّرًا عن مسألة حدِّ المفسد في الأرض في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[2]؛ وكأنّه يستبطن في سؤاله شعورًا بالتّناقض بين رفضنا لما تمارسه الجماعات العنفيّة المتطرّفة، وما في كتاب الله العزيز!
لسنا هنا في مقام المناقشة في هذا الحدِّ، ولكنَّنا جئنا به كمثالٍ على ضرورة وعي الإشكاليَّات الّتي يفرزها الواقع اليوم، سواء على مستوى الممارسة أو على مستوى الخطاب، وهو ما بات يفترض على الخطاب الإسلاميّ أن يدقِّق في مفرداته الّتي يبيّن فيها أحكام القرآن؛ فعلى سبيل المثال، ذكرت الآية معيارين أو ثلاثة لمن يلقون هذا الجزاء، وهي: “يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادًا”؛ فإنَّ محاربة الله هي المضادَّة لكلِّ القيم الإنسانيَّة، والّتي تنطلق من تشوّهٍ وانقلابٍ في موازين الشخصيّة وقيمها، وهذا ما يتجلّى محاربةً للرَّسول في ما يدعو إليه من تجسيدٍ لتلك القيم. وقد يكون لزامًا علينا هنا أن نراجع المضمون الدّقيق للحرابة؛ لأنّه قد تفسّره آياتٌ أخرى مرتبطة بالاعتداء واضطهاد الفئات الضّعيفة الّتي عناها الله بقوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً}[3]؛ أليست هذه هي حجّة الدّول المستكبرة، أو الأمم المتَّحدة، عندما تصدر قرارًا بالحصار أو بشنِّ الحرب على بعض الدّول؟! أليست حجَّتها هي أنَّ هناك قمعًا يُمارَسُ بوحشيَّة على الشّعوب؟!
ثمّ إنَّ “السَّعي فسادًا في الأرض”، يوحي بتحوّل الذهنيَّة والممارسة إلى عمليَّة مستدامة للإفساد، وليست مجرَّد سلوك أو أداء فاسد. إنَّ المسألة هنا أشبه بالمنظّمات السرّيّة التي تعمل على ضرب كلِّ مواقع التّماسك الاجتماعي والنّظام السياسي، وتتلاعب بالقوانين وبالاقتصاد وما إلى ذلك… فهل يُقال لمثل هؤلاء – في المنطق العالميّ اليوم -: نرجو منكم أن تكفّوا عن ذلك! هل لغة الكلام الأخلاقيّ تنفع مع هؤلاء؟!
نحن لا ندَّعي هنا أنّنا نقدِّم قراءةً كاملةً للموضوع، ولكنَّنا نحتاج إلى أن نوازن في خطابنا السياسيّ والإعلاميّ والثّقافيّ، بين حركة الواقع المتأزِّم، والّذي قد يأخذ في كثيرٍ من الأحيان شكل الدّفاع عن النّفس وعن الحياة في ظلّ انعدام الوسائل الأخرى للحلّ، وبين طبيعة المضمون الثقافي الّذي نقدّمه في توصيف ذلك الواقع ومواقفنا منه؛ لأنَّ هذا الخطاب لا يقتصر أثره على الذين يسمعونه في شكلٍ مباشر؛ لأنَّ بعض هؤلاء قد يملكون المخزون الّذي يسمح لهم بفهم خلفيَّاته، ولكنَّنا أمام جيلٍ فتح عينيه على كلِّ الأزمات المتراكمة دفعةً واحدة، وإذا لم نرصد ما يجول في رأسه بكلِّ دقّة، فقد نهيِّئ له الظّروف للابتعاد عن الإسلام، والكثيرون يتربّصون به الدَّوائر من أجل ذلك.
رابعًا: ممّا لا شكَّ فيه أنَّ بعض ما مارسته داعش، ولا سيَّما حرق الطيّار الأردني معاذ الكساسبة، يطرح أمام الفكر الإسلامي قضيَّة تقويم تاريخنا، وكلّ ما مورس فيه؛ إذ لم يعد ممكنًا قبول التّاريخ بكلّ تناقضاته من دون تقويم، فربّما نجد أنَّ بعض الممارسات تمّ اختلاقُها على لسان النبيّ(ص) أو صحابته، لتبرير نهج سلطةٍ في أزمنة متأخِّرة، وبعضُ الممارسات قد تكون أخطاءً اجتهاديّة، وبعضُها قد تكون جرائم موصوفة، وما إلى ذلك.
لقد كان التحزّب المذهبيّ طوال تاريخنا الإسلاميّ، وضخُّ السلطة السياسيَّة الجائرة المستمرّ لعناصر إثارته، عاملًا من عوامل انشغال العلماء بتبرير ما هو قائم، وإطلاق أحكام قيميَّة على التَّجارب الإسلاميَّة المتنوّعة، انطلاقًا من العصبيَّة الحزبيَّة أو المذهبيَّة؛ الأمر الّذي لا يجوز أن يستمرَّ إلى عصرنا الحاضر، بعدما أطبقت علينا التحدّيات من دون تمييزٍ بين مذهبٍ وآخر، ولا بين موقعٍ لقوَّة المسلمين وآخر.
إنَّ إعادة قراءة تاريخنا الإسلاميّ قراءة علميَّة موضوعيَّة، بات من الأمور الملحَّة أمام الفكر والفقه الإسلاميّين؛ لأنَّ كثيرًا من الأفكار النَّمطيَّة، والأحكام السَّائدة، كانت تجارب تاريخيَّة ضمن ظروفها، وكتبت بأقلام السّلطات المهيمنة، وتمَّ توارثها جيلًا بعد جيلٍ على أساس حسن الظنِّ، في الوقت الّذي صارت تشكِّل جزءًا من الثَّقافة العامَّة للمسلمين، وباتت تلقي بظلالها على تصوّرهم لإسلامهم، وبات على أساسها يناقشهم الآخرون، وهم حينئذٍ ما بين ساكتٍ ومهاجمٍ من دون علمٍ.
إنَّنا لا ندعو هنا إلى أن نخضع فكرنا لما يهواه الآخرون؛ فإنَّ هذا قد يعكس انعدام ثقة بالذّات، ولا سيَّما حينما يمارس الآخرون ما يعيبوننا عليه وأكثر؛ ولكنَّ هناك فرقًا بين أن نثبت على ما عندنا بعلمٍ، وأن نثبت عليه من دون تدبّر ولا دراية أو معرفة.
أخيرًا: لعلَّنا إذ نطرح كلَّ تلك الإشكاليّات في مقالةٍ، فلكي نشعر بحجم المشكلة الّتي لا يمكن معالجتها عبر كتاباتٍ هنا وهناك، وإنّما بعقد مؤتمراتٍ علميَّةٍ تبحث وتخطِّط وتتحرَّك في الكواليس، في موازاة كلِّ هذا الواقع المعقَّد، في سبيل أن تهيِّئ الخطط والبرامج الّتي لا بدَّ من أن تبدأ بمعزلٍ عن أيِّ تسويات قادمة؛ لأنَّ المسألة هنا هي مسألة الإسلام، الّذي لا يعني فريقًا دون آخر؛ والله من وراء القصد.
مجلة الوحدة الاسلامية