ع ع
حسام مطر
AM 01:39 2014-08-26
يشكل «حزب الله» نموذجاً هـاماً لنـمو دور «اللاعبين اللا دولتيين» على الساحة الدولية، من خلال عمق واتساع تأثيره الإقليمي، حيث أصبحت هذه القوى قادرة على «اللكم بقوة تفوق وزنها». تمكن الحزب من تحقيق الاستفادة القصوى من المواد المتاحة، معتمداً إستراتيجية ذكية تدمج، بشكل متوازن، بين الواقعية والأهداف الإيديولوجية، ومن قيادة متعلمة، ذكية، متكيفة وتتمتع بالصبر الإستراتيجي. إن الـتأثير الإقليمي لـ«حزب الله» يتحقق بدرجة أولى من دوره في مقاومة الاحتلال والعدوان الإسرائيلي على لبنان، إذ تمكن من خلال إنجازاته في هذا الإطار من تحقيق انزياح ظاهر في القوة لمصلحة محور المقاومة.
العناصر الأساسية المكونة لهوية «حزب الله»، أي الإسلام الثوري والمقاومة، تشكل مرتكزاً لدوره الإقليمي. يؤمن «حزب الله» بمفهوم «الأمة الإسلامية» الواحدة، ولكنه لا يضع هذا الإيمان بالتناقض مع فكرة الوطن والدولة. إن هذا الإيمان بالأمة الإسلامية الواحدة يفترض تالياً الاعتقاد بوجود تجانس في المصالح وتماثل في التهديدات، ما يفترض التشارك والتعاون في الجهد السياسي بين أعضاء هذه الأمة. لكن يبقى للحزب هامش واسع في ما يخص الأسلوب والكيفية.
انطلاقاً من ثوريته الإسلامية، تسود في أدبيات «حزب الله» مصطلحات «المستضعفين» و«المستكبرين» حيث ينقسم العالم بينهما. إنّ معايير الاختلاف والنزاع والصراع في رؤية «حزب الله» ومنهجه «إنما تقوم على أساس سياسي – أخلاقي بالدرجة الأولى، بين مستكبِر ومستضعَف، وبين متسلط ومقهور، وبين متجبّر محتل وطالب حرية واستقلال»، بحسب الوثيقة السياسية للحزب 2009. وعليه فإن وحدة المستضعفين ووحدة الأمة هي من أسس شرعنة دور «حزب الله» الإقليمي، بل وحتى خارج المنطقة، كما حصل في حرب البوسنة بداية التسعينيات.
من ناحية ثانية ينتمي «حزب اللـه» لمحور المقاومة في الشرق الأوسط. في الثقافة الإسراتيجـية لـ«حزب الله» فإن الصراع في المنطقة هو صراع محاور، وقوة أي لاعب سياسي في المنطقة تتأثر مباشرةً بالقوة النسبية للمحور الذي ينتمي إليه. إذاً، الصراع في المنطقة ليس صراعاً بين دول، بل بين محورين، محور تقوده الولايات المتحدة في سبيل الهيمنة على المنطقة ونهبها واستعبادها مقابل محور المقاومة الذي تتقدمه إيران. وعليه فإن مقاومة «حزب الله» للاحتلال الإسرائيلي، قد استجلبت له عداء بعض الأنظمة العربية، التي ترى أنها تحت عباءة الولايات المتحدة الأميركية، هنا يصبح «حزب الله» بحاجة لدور إقليمي يحصنه من التهديدات والمخاطر الموجهة إليه، لا سيما عندما يتورط خصومه المحليون في محاولات القضاء عليه.
لا يمكن إغفال أنه في السنوات التي تلت الانسحاب الأميركي من العراق وتحول الصراع فيه الى «حرب أهلية إسلامية» من خلال ابتعادها عن واجهة أحداث المنطقة والانتقال الى مفهوم «القيادة من الخلف» في إطار إستراتيجية إعادة التموضع التي اعتمدها أوباما لتقليص الأضرار. وبناء على ذلك انتقل حلفاء واشنطن الإقليميون نحو هامش أوسع من الاستقلالية الإقليمية ما أدى الى موجة من الفوضى، افتراق «داخلي» في بعض المصالح، استفادة أوسع من الحركات التكفيرية، مذهبة أشمل لصراعات المنطقة، وارتفاع في حدة المواجهة المباشرة بين حلفاء واشنطن ومحور المقاومة، لا سيما في سوريا وثم العراق. إن هذا التحول جعل من «حزب الله» في مهب الصراعات الإقليمية، وهو ما يسهم في تفسير توسع الدور الإقليمي للحزب مؤخراً.
إلا أن هذين المرتكزين، أي الإسلام الثوري والمقاومة، يصلحان لتفسير المنطلق النظري لدور «حزب الله» الإقليمي، إلا أن انتقال هذا الدور من حيز القوة الى حيز الفعل، يستند إلى عدة محددات أخرى. صحيح أن «حزب الله» لاعب عقائدي، إلا أنه يجري حسابات إستراتيجية، ولديه هامش واسع من العقلانية في خياراته كما أثبتت التجربة. يدرك «حزب الله» أنه بحاجة دائماً للموازنة بين أهدافه العقائدية وبين مقدراته المادية، وأنه لا يمكن لأي لاعب أن يمتلك القوة الكافية لتحقيق أهدافه السياسية كلها، ولذا لا بد من تحديد الأولويات وتوجيه الموارد المحدودة نحو تلك الأولويات بالتحديد. التفكير العقائدي لا يتحرك في فراغ بل محكوم بحقائق العالم الصعبة، بمحدودية الموارد، التنافس، وموازين القوة، الضغوط من داخل المنظمة وخارجها.
إذاً عندما يقرر «حزب الله» التدخل عسكرياً في السياق الإقليمي بشكل مباشر فإن قراره يتأثر بعدة معايير:
أولاً: ضبط الأولويات، يخضع التدخل لسلم أولويات الحزب، وأولى هذه الأولويات هي حماية وتمتين وتحصين مشروع المقاومة في لبنان، ثم في المنطقة وخاصة في المشرق العربي حيث الساحة الأبرز لدور حزب الله الخارجي. هذه الأولوية تترجم من خلال محاولة منع إلحاق ضربة قاصمة بأي من أركان هذا المحور أو الحد من مخاطر أي مشروع استنزاف إستراتيجي كما الحال مع داعش. وأيضاً العمل بشكل دائم على تطوير نوعية وفعالية العمل المقاوم لدى عناصر هذا المحور، وهي مهمة دائمة في ظل سباق القوة والتمرس والتعلم ما بين المحورين. أولوية تحصين وحفظ المقاومة في دورها اللبناني يفرض أن تكون أدوارها الخارجية محكومة بالضروة والترشيد.
ثانياً: الضرورة، أي أن خيار «حزب الله» في العمل خارج الحدود ليس الخيار الأول المفضل لـ«حزب الله»، بل إن الحزب مهتم بتركيز موارده نحو بناء توازن ردع وقوة بوجه الإسرائيلي وهي مهمة تستلزم عملاً دؤوباً ومتواصلاً، يضاف إليها حاجة «حزب الله» المستجدة للانخراط أيضاً في المعترك السياسي المحلي الذي لطالما فضَّل الابتعاد عنه. ولكن ما هو معيار الضرورة؟ معيار الضرورة هو إستراتيجي بالمقام الأول، أي أن يسهم ذلك الدور في درء مخاطر أساسية وداهمة على مشروع المقاومة بما يضمن الحفاظ على قوة رادعة لمحور المقاومة.
ثالثاً: الترشيد، أي التدخل ضمن الحدود الدنيا التي تستوجبها الحالة، من حيث المستوى والكيفية. لطالما اكتفى الحزب بأداء مهمات تدربيبة، توجيهية، لوجستية ونقل خبرات، وهي مهمات تتطلب مشاركة جزء ضئيل من أجهزة وكادر الحزب. من خلال هذا المبدأ يتفادى «حزب الله» مخاطر الاستنزاف، بالنهاية مهما بلغت قوة الحزب إلا أنه يبقى منظمة لقوتها حدود وتواجه تحديات كبرى ومستمرة.
رابعاً: المشروعية، كلما احتل الحدث الإقليمي المحدد نقطة أقرب لجوهر مشروعية الحزب، مشروعيته العقائدية، القيادية، ومشروعية برنامجه وسرديته، فإن فرص التدخل تصبح أعلى. ولكن هذا المحدد ليس كافياً بذاته بل يمكن اعتباره عاملاً مساعداً أو وسيطاً، بمعنى أن دافع الحزب للتدخل في القضايا الإستراتيجية يتزايد متى احتوت تلك القضايا على عنصر المشروعية هذا، كموضوع حماية المراقد مثلاً.
تشكل حالة الحرب السورية المثال الأبرز على حضور «حزب الله» الإقليمي. كان لدور «حزب الله» في سوريا أثار إقليمية واضحة الدلالة عميقة الأثر وطويلة الأمد، فهو تمكن من حفظ دور سوريا ـ ولو بصورة هشة مرحلياً ـ ضمن محور المقاومة، وحمى خطوط إمداده وعمقه الإستراتيجي، منع قيام نظام معادٍ في سوريا قادر على قلب التوازنات اللبنانية، أغلق الحدود بوجه التنظيمات التكفيرية، حرم المحور الإقليمي من فرصة تاريخية لتعويض خسائره والعودة لمسار الصعود، ساهم في زيادة التوتر السعودي مع قطر وتركيا، فتح إمكانية للجيش السوري في المستقبل لإعادة السيطرة على الحدود مع العراق بما يقلص هامش «داعش» على المناورة، شد من عضد وتماسك وثقة عناصر محور المقاومة، اكتسب خبرات ميدانية تكتيكية ومهارية عالية جداً، تمرس على العمل بجانب قوات نظامية حليفة، وأثبت أنه لاعب في صلب توازن القوى الإقليمي ولا بد من أخذه بالحسبان عند أي تسوية إقليمية. أي أصبح للحزب، وللبنان إن إرتضى أهله، كرسي على طاولة الكبار.
السفير