أحبكم لله أنفعكم للناس

سماحة العلامة السيد محمد علي فضل الله
الجمعة 13 صفر 1436هـ الموافق 5 كانون الأوَّل 2014 م

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، وَأفَضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَى أَشْرَفِ خَلْقِ اللهِ وأعزِّ المُرسَلينَ سَيِّدِنَا وحَبيبِنَا مُحَمَّدٍ رسولِ اللهِ وعلى آلهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَأصحَابِهِ الأخيَارِ المُنْتَجَبين.

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، ويقولتعالى في موضع آخر: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2].

ركّزت الرِّسالة الإسلاميَّة في تشريعاتها وأحكامها وقِيَمِها الأخلاقيَّة على توجيه الفرد المسلم لتحمُّل المسؤوليَّة تجاه مجتمعه وتُجاه النَّاس من حوله ليتعامل معهم في مختلف المجالات الحياتيَّة بالشَّكل الَّذي يؤدِّي إلى التَّكامُل في المجتمع، وإلى الإلفة والمحبَّة بين أفراده. وبالتَّالي فإنَّ المسلمَ الَّذي ربَّاه الإسلامُ هو الإنسان الَّذي يعيشُ حالة الاهتمام بقضايا المسلمين الخاصَّة والعامَّة، وهذا ما نلاحظه في الحديث المشتهر والمعروف عن رسول الله(ص) في ما رواه السَّكوني عن الإمام الصادق(ع) قال: قال رسول الله(ص): من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم.

وقد وردت الكثير من الأحاديث في هذا المضمون، وذلك لأنَّ اللهسبحانه أراد للإنسان المسلم أن يعيش الرَّاحة والاستقرار والسَّلامة والهدوء في حياته الفرديَّة والاجتماعيَّة، وذلك لا يكون إلَّا حين يصبحُ أفرادُ المجتمع الإسلاميِّ مجموعةً متجانسة ومتداخلة، يتفاعل من خلالها كلُّ فردٍ مع مشاعر الآخرين وهمومهم واهتماماتهم، فيشعر حينئذٍ كلٌّ منهم بالأمان، تُجاه قضايا الحياة ومشاكلها وتحدِّياتها؛ لأنَّه يشعر بأنَّ كلَّ أفراد المجتمع المسلم سيعملون من أجل سدِّ الثَّغرات وحلِّ المعضلات الَّتي يمكن أن تطرأ على حياته، وليتحوَّل واقع المسلمين بذلك إلى واقعٍ مليءٍ بحركة الخير، بحيثُ تُسدُّ وتحلُّ فيه كلُّ الثَّغرات الاجتماعيَّة.

ومن المعلوم في التَّوجيهات والتَّشريعات الإسلاميةَّ أنَّ اهتمام المسلم بالمسلمين في بعض قضاياهم شديدُ الاستحباب، ولكنَّ هذا الاستحباب قد يصل أحيانًا إلى حدِّ الوجوب. فحين تتعرَّضُ نفسٌ محترمةٌ للخطر، ويكون المسلمُ الآخر قادراً على الإنقاذ، فإنَّه يصبحُ متعيِّناً عليه ذلك، ويكون الإهمال محرَّماً في المقابل، كما في حالة تعرُّضِ إنسانٍ للغرق أو الحرق وما أشبه ذلك.

وهكذا نرى أنَّ الإسلام ركَّز كثيراً على هذا الجانب من الاهتمام، وجاءت الأحاديث الشريفة لتضرب له الأمثلة العمليَّة في أمور أخرى عديدة ومتنوِّعة مثل قضاء حوائج المؤمنين. ففي الحديث عن الإمام الباقر(ع) قال: أوحى الله عز وجل إلى موسى(ع): إنَّ من عبادي من يتقرَّب إليَّ بالحسنة فأحكِّمُه في الجنَّة، فقال موسى: يا ربِّ، وما تلك الحسنة؟ قال: يمشي مع أخيه المؤمن في قضاء حاجته، قُضِيت أم لم تُقضَ.

فإنَّ المهم من خلال ظاهر هذه الرواية، أن يصبَّ المؤمن اهتمامه على قضاء حاجات أخيه المؤمن، فإنَّ اللهسبحانه يريد منَّا أن نحمل هذه الروحيَّة، فحين تكونُ قادراً على تلبية حاجةٍ معيَّنة لأخيك، في الوقت الَّذي لا تكون لديه القدرة عليها، فإن من مسؤوليَّاتك الشرعيَّة الكماليَّة أن تسعى إلى خدمته فيها، وهذه هي أيضاً مسؤوليته بالنسبة إليك، وعند ذلك، يتمُّ التكامل فيما بين أفراد المجتمع المسلم. فكلُّ فردٍ منه يكون متمِّماً للآخرين، وهذا هو الَّذي يخلقُ روحَ الأخوَّة والمحبَّة والتَّوافق والانسجام بين الجميع..

ولأجل هذا، ركَّز الإسلام على هذا المعنى وعلى هذا الأسلوب من التَّعاون في السَّاحة الإسلاميَّة، فقد ورد عن السَّكوني عن أبي عبد الله(ع) قال: قال رسول الله(ص): الخَلقُ عِيالُ الله، فأحبُّ الخلق إلى الله، من نَفَعَ عيال الله، وأدخل على أهل بيت سرورًا.

وقال رجل لرسول الله(ص): أحبُّ أن أكون خير النَّاس فقال(ص): خيرُ النَّاس من ينفعُ النَّاس، فكن نافعًا لهم. وعنه(ص): خيرُ النَّاس من انتفَعَ به النَّاس.

وعن علي بن الحسين(ع) عن أبيه(ع) قال: سئل رسول الله(ص) من أحبُّ النَّاس إلى الله.؟ قال: أنفعُ النَّاس للنَّاس.

وفي حديث آخر عنه(ع) عن أبيه(ع) قال: قال رسول الله(ص) من ردَّ عن قومٍ من المسلمين، عادِيَةً – أي اعتداءً وتجاوزًا عن الحدِّ عليهم- أو نارًا وَجَبَت له الجنَّة.

وعن أبي عبد الله(ع) أن النبي(ص) قال: من أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يُجبْه فليس بمسلم.

وعن سفيان بن عُيَيْنَه قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: عليك بالنُّصح لله في خلقه فلن تلقاه بعملٍ أفضلَ منه.

وعن الصادق(ع) أيضًا في قول الله عز وجل: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً [مريم: 31] قال: نفَّاعاً.

وعن أبي جعفر الباقر(ع) قال في قول الله عز وجل: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83]، قال: قولوا للنَّاس أحسَنَ ما تُحبُّونَ أن يُقالَ لكم.

ولعلَّ أفضلَ العلاقات بين النَّاس هي علاقة الأخوَّة، فإنَّ الرَّحم كثيرة، كالآباء والأمهات والأجداد والأبناء والخؤولةِ والعمومةِ وأبنائهم وغيرهم.. وكلُّ علاقة رَحِمٍ منها لها فضلٌ وأهميَّة، وأراد الإسلامُ صلتها والاهتمامَ بها. لكنَّ الأخوَّة تتميَّز عنها، فنحن نرى أنَّ الحسين(ع) حين فَقَدَ من فَقَدَ في كربلاء من الأبناء وأبناء الأخوة والأصحاب وغيرهم، تأثَّر وحزن، ولكنَّ ردَّة فعله كانت أكبر وأشدَّ حين فقده لأخيه العباس(ع)، حين قال -كما رُوي-: الآن انكسر ظهري، الآن قلَّت حيلتي، الآن شمِتَ بي عَدُوِّي. ونحن نرى أنَّ اللهسبحانه وتعالى وصف علاقة المؤمنين ببعضهم البعض بوصْفِ الأخوَّة حين قال سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10]، فأراد للمؤمنين أن يشعروا بالمسؤوليَّة تجاه بعضهم، فحين يحدث أيُّ نزاعٍ أو صراعٍ بين فئتين منهم، فإنَّ على بقيَّة المؤمنين أن يعملوا على تقريب المسافات وعلاج المشكلات وإصلاح ذات البين حتى يظلَّ المجتمع الإسلاميُّ مجتمعًا قويًّا متماسكًا تسوده الرَّاحة والطُّمأنينة والمودَّة.

وقد ورد عن المفضَّل بن عمرو، عن أبي عبد الله(ع) قال: إنَّما المؤمنون إخوة بنو أبٍ وأم، وإذا ضرب على رَجُلٍ منهم عِرق، سَهِرَ له الآخرون.

وعن جميل بن درّاج قال سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: المؤمنون خَدَمٌ بعضُهُم لبَعض، قال: قلت:ُ وكيف يكونون خدماً بعضهم لبعض؟ قال(ع): يُفيد بعضُهم بعضًا.

وعن أبي جعفر(ع) قال: من حقِّ المؤمن على أخيه المؤمن، أن يُشبِع جُوعَه ويُواريَ عورَته -أي يكسوه- ويفرِّج عن كُربتِه ويقضي دَينَه، فإذا مات خلفه في أهله وولده..

وهكذا تكثرُ الأخبارُ الواردةُ عن النَّبيِّ(ص) والأئمة(ع) في هذا المجال وجميعها تركِّز أنَّ على المؤمن أن لا يشبع ويجوع أخوه المؤمن، ولا يلبس ويكتسي ويعرى أخوه المؤمن، ولا يروى ويعطش أخوه المؤمن، وهكذا دواليك.

فحين نجد إنسانًا مؤمنًا يعاني من شدَّة الحاجة، فعلينا أن ننسعى لنسدَّ له حاجته، وحين نجد خلافُا بينأخ وأخيه أو ابن وأبيه أو رجلٍ وزوجته أو بين جارَيْن أو صديقين، فعلينا أن نتحرَّك في مجال الإصلاح والتوفيق فيما بينهم، وتلك مسؤوليَّة كبرى على المؤمنين، فيجب أن لا ندَع الخلاف يتفاقم، ويشتدَّ ليصل إلى مرحلة العداء وإذا وصل إلى هذه المرحلة فيجب السَّعي في الإصلاحِ وفي منع القتال: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9].

كما أنَّنا حين نجد مريضاً بيننا لا يستطيع أن يعالج نفسه، فلا بدَّ أن نسعى ما أمكننا في تأمين علاجه، ولو بالسعي لدى القادرين على ذلك، وحين نجد مسلمًا يتعرَّض لاعتداءٍ من أحد الظّالمين، فلا بدَّ من الدِّفاع وردِّ الاعتداء عنه، ولا فرق في ذلك بين الاعتداء الواقع على شخص بعينه أو الاعتداء العامِّ الموجَّه إلى الأمَّة كلِّها بكلِّ قضاياها وشؤونها. ومن هنا أيها الإخوة، علينا أن نتابع بدقَّة ما يجري في عالمنا العربيِّ والإسلاميِّ حتَّى نستطيع أن نتحرَّك لرفع الظُّلم عن المستضعفين في العالم، حيث يشكِّل الاستكبار الأمريكيُّ الَّذي يفرضُ سيطرته على الواقع الدَّوليِّ، المشكلةَ الكبرى للمسلمين وقضاياهم، من خلال الدَّعم المُطلَق الَّذي تُقدِّمه الإدارة الأمريكيَّة للكيان الصَّهيونيِّ الغاصب، حيث يُعتبر دورها في حفظ أمنه، مُرتكزاً أساسياً لسياساتها في المنطقة.

كما أنَّ الإدارة الأمريكيَّة تدعم في الوقت نفسه، الدِّيكتاتوريَّات والأنظمة المتسلِّطة الجائرة في بلاد المسلمين، رغم ما تزعمه من التمسُّك بنشر الدِّيمقراطيَّة وحقوق الإنسان، فهل يستقيم كلُّ ذلك، مع ما تُقدِّمهُ من دعمٍ لأنظمةٍ تقوم على القهر والتعصُّبِ الدِّينيِّ وتكفير الآخر؟

إنَّ الولايات المتَّحدة لا تهتمُّ إلا لمصالحها، ولا تُلقي بَالاً إلَّا لمشاريعها ومخطَّطاتها الهادفة لتعزيز سيطرتها على العالم، وفرض إرادتها عليه، في ظل بروز قوًى دوليَّة تشكِّل على المدى البعيد، تهديدًا لنفوذها وقيادتها للواقع الدَّوليّ. وهي لا تهتمُّ لحرِّيَّة شعوب المنطقة ولا لحقوق إنسانها، بل تُقدِّمُ كلَّ الدَّعم لإسرائيل والأنظمة الاستبداديَّة على حدٍّ سواء.

لذلك، لا يمكن تصديق كلِّ ما تحاول أمريكا أن تُظهِره من إهتمامٍ بمحاربة الإرهاب والتَّنظيمات التكفيريَّة، وجمع الدول الحليفة لها في سبيل ذلك، لأنَّنا نعلم أنَّها كانت الأساس -منذ السَّبعينيات- في دعم هذه الجماعات، من خلال حلفائها وأجهزتها الاستخباراتيَّة، وهي رغم ما تدَّعيهِ من حِرصٍ على محاربتها، فإنَّها في واقع الأمر لا ترغب بالقضاء عليها، حيثُ تَلقَى دعماً كبيراً من أطرافٍ وأنظمةٍ مرتبطةٍ بالمحور الأمريكيِّ، تقوم باستثمار جرائم هذه الجماعات ومُمارساتها، الَّتي تخدم في نهاية الأمر مشاريع الاستكبار ومخطَّطاته، المرتكزة على إبقاء دول المنطقة في دائرة الضعف والتَمزُّق والتشتُّت والتبَّعيَّة.

كما تتكشَّف لنا يومًا بعد يوم، مزيدٌ من التَّفاصيل عن تنسيق هذه الجماعات التَّكفيريَّة مع العدوِّ الصِّهيونيِّ، وهذا ما أشار إليه بوضوح، تقريرُ الأمينِ العامِّ للأمم المتَّحدة “بان كي مون”، الَّذي تحدَّث عن تعاونٍ بين الجيش الإسرائيليِّ والمسلَّحين في منطقة القنيطرة ومناطقَ عديدة أخرى، كما أكَّد وجود تنسيقٍ إسرائيليٍّ مع المسلَّحين التَّابعين لهذه الجماعات.

إنَّ كلَّ ذلك يُلقي مزيدًا من الضَّوء على خلفيَّة هذه الجماعات، الَّتي تحاول ضرب الأمن في المنطقة كلها، حيث تتحرَّك بقوَّةٍ في المناطق الحدوديَّة اللبنانيَّة مع سوريا، وتسعى إلى استهداف الجيش اللُّبنانيِّ، فتخطف جنوده، وتقوم بمهاجمة دوريَّاته، فيسقط منه الشُّهداءُ والجرحى، وتحاول إثارة الفوضى والفتن المذهبيَّة، بما يساعدُها على تحقيق أهدافها.

والأخطر من ذلك، أن ينبري بعض الوزراء اللُّبنانيِّين للدفاع عنها وتبرير جرائمها، دون أيِّ وازعٍ أخلاقيٍّ أو وطنيٍّ، أمام ما ترتكبه من جرائم، وخصوصًا استهدافُها المتكرِّر للجيش والقوى الأمنيَّة، وللمواطنين الأبرياء، من خلال التَّفجيرات والهجمات الَّتي تستهدف ضرب الواقع الأمنيِّ، وجعل لبنان مكشوفًا أكثرَ، أمام اشتداد عواصف المنطقة وحرائقها.

إنَّ المطلوب اليوم، أن تتركَّز كلُّ الجهود، وتتوحَّد مختلف القوى السِّياسيَّة، لدرء هذا الخطر التكفيريِّ الَّذي لن يقتصر أذاهُ على فئة واحدة أو منطقة واحدة أو مذهبٍ واحد، لكنَّه يتهدَّد أمن الوطن كلِّه، وسلَمه الأهليَّ واستقراره الدَّاخليَّ، فبذلك فقط، نستطيع أن نُبعد خَطرهُ عن أهلنا وشعبنا وبلدنا وأمَّتنا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ } {التوبة:105} والحمدُ للهِ ربِّ العالمين

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …